الصدفة في الإبداع والدهـشة في الـتلقي

   الصدفة في الإبداع والدهـشة في الـتلقي
        

         متى تؤدي الصدفة في الإبداع إلى الدهشة? وما علاقتها والحالة هذه بالوعي? ثم هل يستطيع اللاوعي أن يلد صدفة مدهشة?... ومم تكتسب الصدفة شرعيتها في الفن?

         لابد من عودة تراجعية للتنقيب عن بداية الحداثوية وصولا إلى لوحة لا ندري أعلاها من أدناها, كان كاندنسكي قد قرر أنها اللوحة التي تحمل هيولي عالم لم يكن متوقعا, إنها الصدفة التي حملت مكتنزات اللاشعور وتطلعات الغيبيات, إنها الصدفة أو البديهية التي دفعته أن يهاجر من معسكر الشيوعية إلى فضاء الحرية, حيث استطاع مع جماعة الفارس الأزرق في ألمانيا أن يرفع رايات البديهية على عمارة الحرية في فايمار حيث رفعت لافتة الباور هاوس.

         وتعود ولادة هذه اللوحة إلى عام 1908 حاملة حقائق فنية جديدة, أملت على كاندينسكي كتابه المختصر والمكثف (الروحي في الفن). هكذا تبدأ حكاية انتصار الروح وانتصار القلب وانتصار عالم ما وراء الأشياء والأفعال والقيم, وانتهى عهد القانون والعلم والمقياس, بل انتهى علم الجمال (الاستطيقا) واستيقظ من حلمه علم جديد قديم اسمه الإنشائية. لقد أصبح علم الجمال غريبا في عالم حداثوية الصدفة, إذ إن هذا المصطلح مشتق من كلمة Aistheta التي تعني الأشياء القابلة للإدراك, بينما يعرف قاموس أكسفورد هذا المصطلح أنه المعرفة المستمدة من الحس. وبهذا يحتار هذا العلم في أن يكون إدراكا فقط أو إحساسا فقط, بينما يرى برجسون أن الجماليات تقوم على الإدراك الحسي; الحدس Intivtion.

         صحيح أن النقد أطلق تسمية التجريد على هذا الفن, ولكن دونما تمييز بين تجريد يخضع للروح وتجريد يخضع للقاعدة, ففي الطرف الآخر المناهض, وفي أقصى تخوم التجريد كان الذهن الرياضي قد تجلى في كتاب (التشكيلية المحدثة) لموندريان الهولندي غير التائه, إذ سيطر على أعماله فكر رياضي صرف تلبس أعماله التي بدت في جمالية تشكيلية لونية عقلانية, تحددت في تكافؤ المساحات اللونية وفي توازن الفراغات, وصولا إلى القانون الكوني, وأصبحت نظريته إماما لعمارة القرن الماضي ولهندسة الفن, ولتصميم القطع والملابس.

         أمام هذين الاتجاهين المتناقضين, سنقرأ في خطاب التجريد صفحات متقابلة, واحدة تتحدث عن الروحي وأخرى تتحدث عن الإدراكي, ولكن على غلاف هذا الخطاب سنقرأ عنوانا كبيرا (التجريد بين قرني الحدس).

عذرية الخطوط والألوان

         ليس جديدا أن نفسر الحدس بأنه إدراك حسّي للأشياء والأفكار والصيغ, أو أنه الرؤية البصيرية التي يقوم عليها الإبداع والتي يتجهز بها المتذوق, إذ كلاهما, المبدع والمتلقي يستندان إلى جدار الحدس في محاورة الأثر الفني.

         لقد تحدث كروتشه الإيطالي وبرسون الفرنسي عن الحدس, يقول كروتشه معرفا هذا الحدس (ثمة معرفة تأتي عن طريق التصور والإدراك الذي تفرزه المعرفة العقلية, وعن طريق الإحساس وهو نفسي ذاتي, ويتم تفاعل الإدراك مع الحس, أو تفاعل التصور مع الصورة عن طريق الحدس). وقبل ألف عام تحدث أبو حيان التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) عن الحدس بلغة أخرى مفسرا الإبداع بأنه (ينبعث من أول مبادئه, إما عن عفو البديهية, وإما عن كد الرويّة, وإما أن يكون مركباً منهما).

         الحدس في نطاق الإبداع إذن, هو بديهة ورويّة, إدراك وحس, صنعة وصدفة, واقع وخيال, حقيقة ووهم, علم وشعر, والحدس في نطاق التلقي, هو ذوق سليم ونشاز, معرفة علمية ومعرفة فنية, هو تقليد ودهشة, هو متوقع وغير متوقع, هو برهان وتأويل. وفي تاريخ الفن تناوب لجميع المتضادات, تناوب للإدراك والقياس في عصر النهضة, ثم بدء الشاعرية في عصر الباروك مناهضة لصحوة القياس في عصر الثورة الفرنسية, ساعية إلى البحث عن عالم آخر في الرومنتية, إلى أن تلوذ بعالم الفيزياء الضوئي عند الانطباعيين, حتى النكوص إلى رفض الواقع والتراث عند الدادائيين والمستقبليين, وصولا إلى السباحة التائهة في هيولي الأشكال عند التجريديين.

         لعل تفسير الصدفة كامن في ذهن غشطالتي, فهي تشكل كلي يتكون من الشكل ومن الصياغة ومن البنية والجوهر, والكيفية, وعلى هذا فإن ما تكوّنه الصدفة أو البديهة من خطوط وألوان, تحمل في أجنتها بذوراً ليست هي من سلالة الرسام صراحة, فهي ولادية عذرية تتجلى على حامل ما, كما يتجلى النور في الظلمة, ولكن السؤال: كيف يمكن أن تنشأ هذه الأجنة بمعزل عن الرسام, إن الطفل الذي مضى على تكونه عام واحد, قادر على تفسير هذه النشأة الذاتية, فجميع الخربشات التي يسقطها على جدار ما بعيدا عن الوعي واللاوعي, هي مرتسمات هذه الأجنة العذراء. ولكن إلى أي مدى تبقى هذه الخطوط والألوان عذرية?

         إن الواقع أو القانون الوضعي مسئول عن خدش هذه العذرية, وتبقى الصدفة الماثلة في مناخ الهيولي الذاكرية, وحدها القادرة على حماية عذرية الأثر الفني, بيد أن النقد يرفض استقبال الصدفة المحافظة على مشيمة اللاعوي, ويسأل عن تأويل الفنان حاملا مسئولية لجم الصدفة عن الاسترسال في الشرود, ساعيا إلى تمكين الحبل السري الممدود بين الفعل والانفعال, بين الإبداع والتلقي, كما في أعمال جاكسون بوللوك, التي تتكون صدفة بعد رش ألوان البيروكسيلين على أرضية اللوحة الواسعة. وعندما يسترد أنفاسه يقوم بتأويل ما نفرش على أرضية اللوحة, على أنه ملحمة لونية يتعانق فيها الانسجام مع التنافر, كما يتألف فيها الانشطار مع الالتحام, إنها حوار مستمر لا حدود لتأويله وتحليل شفراته.

         وفي جانب آخر, جاهر الدادائيون باللاعقلانية واللاتبعية واللابرامجية واللامتوقعية, بل كرّموا الفوضى والعبث واللاشيء, وأصبحت الصدفة العنصر الأساس والمتفرد في عملية الإبداع عند جماعة الأشياء الجاهزة وخاصة عند دوشان, وجماعة التجميع والتلصيق والحك, وعلى هذا يتساءل النقد: هل أصبحت الصدفة مرادفا للعب لمجرد أن الحداثيين لا يرفضون اللذة من وراء اكتشاف جمالية الصدفة?! والجواب أن جمالية الصدفة لا تقوم على العبث إذ إن دور التأويل الفني الذي يعلنه الفنان متمثلا بإنجازه المفاجئ والمدهش, لم يكن تأويلا مجانيا, إن دور اللاوعي الصوري واللاوعي الجمالي كبير في صياغة التأويل, ويعتقد الحداثيون أن اللاوعي الجمالي أكثر مصداقية من الوعي الجمالي, وبهذا يبررون جميع الإبداعات الصدفية, بل إنهم يعتقدون أن كل إنسان مهما ابتعد عن المعرفة الفنية وعن الإدراك الصوري مرصود للإبداع بفعل عقله الباطن, ولعل ما يسمى عند علماء النفس التقليديين بالنبوغ أو بالعبقرية, مرادف لما يسمى بتضخيم العقل الباطن أو بفضل مخزون اللاوعي.

هل الصدفة إبداع?

         ليس من فكاك بين المبدع والمتلقي, كلاهما مرتبط بالأثر الفني, كلاهما يكتشف, الأول يكتشف الصدفة, والثاني يعاني الدهشة والصدمة. والعلاقة بينهما إنشائية تحدد تحولات الأثر الفني بينهما, في ظروف بينية مستحدثة باطراد زمني سريع, تكاد أناته تقارب نبض الإنسان.

         وإذا كان الوعي مخزون الذكريات الصورية والفكرية المحددة, فإن اللاوعي مخزون الذكريات العاطفية والغرائزية والأحلامية والخيالية, وهو بهذا يشمل مفردات لا حد لها من الصور الجامحة نحو اللانهاية, والمتجددة أبدا. وثمة سؤال مهم يتعلق بمتلقي الأثر والصدفة, فإذا كان قرار الصدفة يخضع لأوامر ومعطيات اللاوعي, فماذا عن فعل الدهشة عند المتلقي, وهل نجد مبرره بمعطيات اللاوعي عند المتلقي, ثم كيف يستطيع الناقد أن يزيد من شحنات اللاوعي, مع الاعتراف بأن شحنات اللاوعي تتعرض لرفض المتلقي رفضاً عفوياً تلقائياً, وبخاصة عندما يقوم العمل الفني على الصدفة وليس على الصنعة.

         ولكن لابد من التفريق بين الدهشة والصدمة, فالدهشة التي يتحرك اللاوعي لإثارتها وتبريرها, تصبح انعكاسا شرطيا حسب بافلوف, ما تقدمه الصدمة يثير في عالم الوعي وجها ذوقيا لا علاج له, وهذا ما عبّر عنه أصحاب الحداثة البعدية.

         ولأول وهلة يتساءل النقد, هل نسمي الأثر - الصدفة, إبداعا?! هل تبقى تابعة للصدفة والبديهة جميع مقومات الخط واللون في التعبير عن الدلالات والحركة, وفي نقل الأحاسيس والأصوات, وفي تكوين المنظور, وفي الإيحاء بالحجم والظل والبعد الثالث..., ثم أين مكان الفنان في تكوين هذه الصدفة?

         ليس من قائل إن الخطوط والألوان تسقط على حاملها منقولة على صهوة براق سماوي مجنح, ولكنها عندما تولد عذريا على سطح الحامل فإن ولاّدها, هو مَن عانى مخاضها كاملاً, وإذا كانت هذه المعاناة حدسية وليست وهمية, فإن ولاّدها يتحمل مسئولية تأويلها, إذ إن ما ارتسم على الحامل لم يكن عبثاً, فالصدفة لا تحمل معنى العبث مادام الفنان قد توحد مع الأثر - الصدفة كما يقول عالم النفس كريس.

         ولعل خطورة التأويل كاملة في عدم تكرار الصدفة وفي عدم تماثلها وعدم خضوعها لقانون أو معيار. إنها إضافة جمالية على واقع التشكيل, وبالتالي إضافة على واقع الحياة.

         أحدث استناد الحداثوية الى جدار الصدفة, ثورة على الكلاسية التي لم تترك للظرف الزماني والظرف التقني أي نافذة تطل منها على الحرية والسيولة. ولم يعد غريباً أن نعتبر الصدفة محورا لجميع الاتجاهات الحداثوية التي ترفض المتوقع والثابت في الجمال, كما ترفض سيطرة الذوق السليم الذي حدده ديدرو, والذي تحول عند بودلير ليصير مرادفا للاشمئزاز. بينما رأى الحداثويون في الصدفة نقاء وتوحدا مع الإنسان, رافضين الشذوذ والنشاز. فالفن (لا ينقل ما بدر سابقا, بل هو يبين ما كان غائبا سابقا) كما يقول بول كاي.

         ولكن هل أصبح الفنان الحداثوي مجرد مغامر باحث عن الصدفة? وكيف استطاع حتى الآن ورغم تمادي الحداثوية في الإبهام والغموض والقطيعة, أن يبقى مقبولا من الجمهور, مقروءا من النقاد الذين أسرفوا في الدفاع عنه, حى تورطوا بتحمل الاشتباه والإدانة?

         إن أهم عوامل شرعية فن الصدفة هو ما تثيره من دهشة لدى المتلقي, فلقد رفض الناقد والجمهور كلاهما, الأعمال الأبدية أو الأعمال الرائعة, بل رفض المستقبليون أن تأوي إلى المتاحف, ونادوا بتحطيمها, لأنها لم تعد قادرة على إثارة الدهشة.

         ومن جهة ثانية, يساعد في إخماد الدهشة ما يدهم الأثر - الصدفة من تدخل تهذيبي يتجلى في مهارة الصنعة سعياً وراء تأطير الصدفة أو تحسينها أو تقريبها من مفاهيم الجمال المدرسي, أو سعيا لاستغلال الطرافة نصرة للإبداع والباعث على إقحام الصنعة في الأثر - الصدفة, هي التخفيف من مجانية الأثر الفني, ولقد تجلى ذلك بوضوح في عملية اللجوء إلى الكشوف العلمية الحديثة لكي يضفي على الصدفة مشروعية معاصرة البيئة, وينزلق هذا اللجوء إلى ممارسة التجربة والتي تختلف عن الصدفة في كونها إدراكية شعورية. وهذا ما نراه عند أصحاب البوب وفن التجميع والفن المفهومي, الذين يدافعون عن الإدراك, لأنه بنظرهم متغير ونسبي, وأنه ليس شرطاً أن يقوم الإدراك عندهم على المحاكاة التي نادى بها أرسطو وعصر النهضة والدافيدية, بل يمكن أن يقوم على محاكاة الشعور الباطني كما يقول كاندينسكي عندما تحدث عن الروحية في الفن, الفن الذي يتطلب أقل استجابة للعين وأكثر استجابة للروح, على عكس الدادائية التي وصلت إلى أقصى حدود الأقل والأكثر, ونادت بتوازي الجمال والقبيح, والفن واللافن, والأخلاق واللاأخلاق, بل نادت بالإجهاز على القيم النوعية في العمل الفني, وهذا مآل الفن على يد جماعة الفن الفقير, حيث اقترن الفن بالتدني والتفاهة والقذارة.

الصدفة وأصابع الكمبيوتر

         لقد وصل العمل الفني إلى حال انعدام الوزن المادي عندما انتقلت الصدفة من انعكاسات القلم واللون على الحامل, إلى ارتكاسات الكمبيوتر الذي حوّل الرموز إلى أرقام, والأرقام إلى أشكال وبيانات. لقد تحقق الحلم القديم بالوصول إلى التوازن الشكلي عن طريق فأر سحري يكتب, يرسم, يمسح, يعبث, يقنن, يصحح, يغالط, ضمن ذهنية آلية تختصر كل الحدوس والإدراكات والأحاسيس. لقد زال القلق الذي استحوذ على الفنان عندما كان يتوجس عالماً بعيدا عن الحقيقة, وهاهو يلجأ إلى أصابع الكمبيوتر حيث تكمن وراءه الحقيقة غير المحدودة.

         إن الاتصال الشبكي عبر أصابع الكمبيوتر أصبح بصيرة تحل محل حواسنا مجتمعة, وكذلك الصدفة الكمبيوترية, لم تعد خاضعة لقرار رياضي في (الفوتوشوب) بل إلى قرار حدسي أيضا, فهل أصبح الكمبيوتر أضخم عقل باطني يمكن أن يتبناه المؤلف?

         لعل البحث في ماهية الصدفة يدخل في خطاب الإنشائية التي تحدث عنها باسرون وتودوروف, والتي مازالت بعيدة عن الوضوح في كتابات النقاد (وبخاصة في الندوة الدولية - الشارقة - 1997 تحت عنوان الشعرية البصرية) وتفسر الإنشائية علاقة الخط والشكل واللون بالعوامل الداخلية لذات المبدع, وكان كاندينسكي أول من أوضح هذا المعنى, وأبان أن العناصر التقنية, وبخاصة الألوان, لها قابلية التأثير على عواملنا الداخلية, (فاللون هو مفتاح والعين هي مطرقة واليد تضع الروح في تموجات بواسطة هذا المفتاح أو ذاك).

         ولابد أن نقف عند مصطلح الانشاء Poetique الذي أطلقه أرسطو على كتابه الشهير, إذ لم يكن معنيا فيه بالشاعرية, بل بمفهوم إنشائي جمالي قادر على اجتذاب المتلقي نحوه وليس نحو أي شيء آخر. ولعل الحداثويين أرادوا لهذا المصطلح أن يحل محل مصطلح الاستطيقا الذي فقد مشروعيته في ظلال الحداثوية. (فالإنشائية هي علم اكتشاف الممارسة الفردية التي تصنع فردية الحدث الفني أو الأدبي).

         لقد أحسّ الفنان الحداثوي بضرورة العودة إلى طبيعة العناصر الأصلية للتمكن من تفضيل الجمال الروحي والعقلي القائم على الحدس, دون أن يهتم بالحقيقة الثابتة الجامدة. والإنشائية البصيرية تمنح شفرات تساعد على قراءة الأعمال الصدفية, بوصفها فضاءات مفتوحة على كل التبادلات الخطابية بين المبدع والمتلقي, مما يحقق متعة فنية لا تنضب.

         وهكذا تصبح الفنون أكثر تعددية, إذ إن جميع الاختيارات متاحة ومسموح بها لتأويل الأثر الفني. وبهذا يشترك الطرفان بتثبيت تأويل الصدفة في أي أثر, ولكن الحديث عن العالم الداخلي الذي يؤسس الصدفة, هو حديث عن الجينات الحضارية, إن مفاتيح التأويل إذ هي ترتبط بالبيئة, فإنها مشدودة إلى اللاوعي القومي والحضاري.

         ومن المؤسف أن الفنان العربي الذي حاول استغلال الدهشة في رحاب عالم الغرب, انسلخ عن لاوعيه الحضاري لكي يشد لوحاته على مسند غربي, هكذا تتحول الدهشة إلى نكتة, ولعل العراقي مهدي مطشر والتونسي قويدر التريكي والسوري أسعد عرابي قد استعادوا توازنهم الحضاري, واستردّوا ارتباطهم السري برحم الطفولة والمكان والتاريخ رغم كل ضغوط المناخ الغربي.

إحراق الصدفة

         وتقتحم نظرية التخييل عالم الصدفة مدّعية تفسير الفعل وتفسير ردة الفعل, سواء كانت دهشة مفرحة أو دهشة مخيبة للآمال, ونظرية التخييل اعتمدها عدد من النقّاد الذين بحثوا عن طريقة لتنظير الإبداع بمنطق علمي أو فلسفي عقلاني, مرتكزين على كون التخييل ميزة انفرد بها الإنسان. ولكن التخييل يحيلنا إلى التذكير, بمعنى أنه لا خيال دونما ذكريات وأن التذكير حركة إيقاظ تتجلى فيما نسمّيه التخييل. ويبقى قائما السؤال عن ماهية هذا التخييل بوصفه نتيجة للتذكير, وعن علاقته بالصدفة.

         في الواقع نحن لا نملك قدرة التحكم بالتخيل والصدفة, كلاهما حال من انعدام الارتباط بقاعدة أو سبب رياضي, ولذلك فإن كل ما يمكن أن يقال عن التخييل, هو الحفر بصدق بحثا عن الصدفة, مادامت الذاكرة الكلية للإنسان كامنة في عقله الباطن وليس في عقله الظاهر, ولكن يمكن أن ننزلق إلى القول إن التخيل ينشأ عبر محاولات المحاكاة والمماثلة, حتى اعتبر تاريخ الفن في عصوره الكلاسيكية تاريخ التخيل.

         ويتساءل النقد عن دور التجربة في الصدفة, التجربة بوصفها تحضيراً للصدفة أو التجربة بوصفها خبرة مكتسبة تساعد على تحديد التفضيل الجمالي. هل هي نوع من الحكم المسبق? أم هي قاعدة التفضيل الجمالي.

         ليس من تجربة خارجة عن الخبرة, وليس من خبرة خارجة عن ساحة اللاشعور, ويبقى التفضيل الجمالي مرتبطا بهذه الخبرة الكامنة. ولكن قد يغتال التجريب الصدفة, فينقلها من عالم اللاوعي النقي الشفاف والسيال, إلى عالم الوعي المتزمت والقاسي المتصلب, لأن الوعي والإدراك يستندان إلى جدار العقل والقانون والنظام والمألوف حتى ولو كان العمل مجردا. هكذا يتم إحراق الصدفة واستبدالها بتصوّرات مألوفة معقولة, ولكنها لا تتصف بالطرافة والإبداع, ولا تحقق الدهشة التي يتطلع إليها المتلقي والتي يهفّ لها المبدع.

         الفنان والمتلقي لا ينشدان من وراء الأثر الفني الالتقاء بالحقيقة, فالحقيقة مسألة فلسفية نظرية, ولكن في الفن فإن أي أثر فني هو حقيقة بذاته, حقيقة مستقلة عن الحقائق المادية أو الفلسفية.

         وقد يتراءى لناقد أن الصدفة تفتقد الانتماء إلى بيئة أو إلى عصر, والجواب كامن في سيرورة الصدفة, بدءاً من رحم اللاشعور إلى تأويل المبدع, وقد وضع بصماته في زاوية الأثر الفني.

         فقد يبدو حديثنا عن الصدفة محددا بوصفها حامل هيولى الأثر الفني وليس الأثر الفني بذاته, أو بوصفها هيولى بعيدة عن الواقع قريبة من المطلق. وبمعنى آخر قد يبدو أن الأثر - الصدفة, هو أثر تجريدي بالقوة, وأنه ليس من صدفة في الأثر الفني التمثيلي, والجواب نستخلصه من أعمال سيزان وماتيس وبول كاي وبيكاسو التي خرجت عن رسها الواقعي لتدخل في مفردات التشكيل الصدفي, إذا جاز لنا التعبير.

تمرد الفن

         ففي جميع الأعمال التي تنحرف عن الواقع حضور متميز وخاص لعالم الفنان المبدع, العالم الخارجي والعالم الباطني, ولكن هناك من يقول بإصرار إن الصدفة العذراء لا تثير الدهشة ولا ترقى إلى الروعة إلا إذا كانت غير تمثيلية, أي متحررة من كل ما هو متوقع ومألوف واتباعي.

         نستخلص مما سبق, أن رؤية الفنان, كما هي رؤية المتلقي, ليستا رؤية بصرية, بل هي رؤية بصيرية, غشطالية, وجميع محاولات الخداع البصري عند جماعة الفن البصري Op.art, لا تصل إلى أعتاب البصيرة. بل هي مجرد عمليات استغلال علم الضوء والبصريات في الفن. ومن حسن الحظ ليس من فنان بصري حتى فاسارللي, أو تنقيطي مثل بيسارو قادر على التطبيق الحرفي لعلم الضوء. حتى إن نظريات شيفرول ودائرة رود التي حددت درجات ألوان الطيف وتناقضاتها, لم تكن مرجعاً لعلم التلوين على الرغم من أهميتها. فلقد رفض الفن دائما الخضوع للعلم ولم تنجح محاورات بول كاي لإقحام علم الموسيقى, الهارموني والفوغ والكونتربوان في التصوير, وبقي تأويل الأثر - الصدفة نسبيا ذاتيا وخاصا, يعتمد على جميع الحواس المعروفة وغير المعروفة والتي تسمى مجتمعة, البصيرة أو الحدس.

         وأخيرا فإن أخطر ما ينتاب الصدفة هو انجراف اللاشعور نحو مختزنات الأنا الدنيا, الغريزة والكبت والأحلام والتي يمكن أن تشوّه الأثر - الصدفة حسب فرويد, ومن الخطر أيضا أن يصاب اللاشعور بنكوص الأنا كما يرى كريس. على أن علماء النفس قدموا وصفات جاهزة لتصحيح سيرورة اللاشعور باتجاه الإبداع - الصدفة. وحتى فرويد فهو يرى أن اللاشعور بوصفه هوية دينامية, هو المصدر الأساس للإبداع ولتذوق الفنون

 

عفيف البهنسي