عودة إلى السؤال الشائك متى يكون التعليم ثقافة?

عودة إلى السؤال الشائك متى يكون التعليم ثقافة?
        

          يطرح مقال د.سليمان إبراهيم العسكري (ضوء في نفق التعليم العربي) المنشور في العدد 532 مارس 2003, بجرأة شديدة ملف التعليم العربي حين يشير إلى (إن أحوالنا التعليمية العربية تصل في معظم أقطارنا إلى حد الكارثة), مؤكدا أنه (برغم المعاناة المريرة التي تشكو منها حقول التعليم العربي وكل المتعاملين معها, لم تكن هناك التفاتات جادة ويقظة ومبكرة لخطورة وجدية وأهمية (السيناريوهات المستقبلية) التي طرحت لتصور التطورات الممكنة في حقل التعليم بناء على المعطيات المبكرة لتطور التقنيات الرقمية ووسائل الاتصالات الحديثة).

          ومن ناحيتي أود أن أطرح من خلال (منتدى الحوار) مشاركتي آملا أن تساهم في إشعال شمعة في نفق التعليم العربي وتحرير العقل العربي من التقاليد والقيود التي ورثها وعمل على قبول القائم, والإيمان بأن ليس في الإمكان أحسن من المناهج التعليمية الحالية, والوفاء والاستمرار على مبدأ تلقين الطلاب المقررات الدراسية وترديدها بمنطق الببغاء ثم نقشها في رقة الامتحان للحصول على أعلى الدرجات آخر كل عام.

          هؤلاء الشباب أنفسهم تراهم يقعون في ازدواجية عجيبة, حين تقترب منهم تعلم أنهم يتابعون أحدث الوسائل لتبادل المعلومات فيما بينهم على شبكات الإنترنت وتزداد لهفتهم على فعل القراءة طوال شهور الصيف, وتنشط العيون في مطالعة عشرات العناوين كل صباح. لكن هذه المهمة بفعل القراءة الحرة تتحول بدرجة 180 مع بداية العام الدراسي الجديد سعيا وراء حفظ المقررات الدراسية وصبها في ملخصات صغيرة لتكون سهلة الحفظ وفي متناول الجميع خاصة أيام الامتحانات الشهرية والفصلية.

التطوير ضرورة

          ولأنني عملت بالتربية والتعليم فترة طويلة كنت فيها مهموما بمحاولة أن يكون التعليم ثقافة...! لكن - دائما - كانت اللوائح والتعليمات تقف سدا أمام تحقيق ذلك.

          اللوائح والتعليمات تنادي بضرورة الانتهاء من المنهج المحدد خلال شهور الفصل الدراسي (الأول - الثاني) مبكرا ثم مراجعته للطلاب مرة ثانية وثالثة.

          وطوال هذه السنوات التي عملت فيها في حقل التربية والتعليم أدركت أن الخطأ يكمن في ضرورة تغيير وتطوير المناهج الدراسية بعقول مستنيرة تستشرف المستقبل وتغض الطرف قليلا عن النظم التعليمية التي عفى عليها الزمن منذ أكثر من خمسين عاما, لكن المضحك والمحزن معا أن القائمين على وضع المناهج الدراسية كانوا يطلبون منا وكل عام (نحن القائمين على تدريس المناهج) الرأي والمشورة وتطوير المناهج الدراسية.

          وكنت أسهر الليالي أقترح ما رأيت أنه قادر على تفعيل دور المدرسة وانتقال دورها من التلقين والحفظ إلى الفهم والاستيعاب والمناقشة.

          أتذكر أنني كتبت يوما بصفتي مدرسا للغة العربية أن يلغى منهج القصة وموضوعات القراءة المقررة على الصفوف الثلاثة للمرحلة الثانوية على أن يتم استبدالها بمنهج للقراءة الحرة من خلال مكتبة المدرسة أو من خلال بعض الروايات الأدبية العربية والعالمية لكبار المفكرين والأدباء ويمكن وضع قائمة للطلاب يختارون من خلالها كتابا فكريا ورواية والتقدم ببحث يمكن المناقشة والتحاور حوله آخر العام.

          ولا أدري حتى الآن ما مصير هذا الاقتراح?

          ويمكن تطبيق هذا الاقتراح مع المواد الدراسية الأخرى وجعل نصف الدرجة الكلية للقراءة الحرة ونصف الدرجة الثاني للجزء المقرر من المواد الدراسية ورحت أحلم أن يتحقق هذا الاقتراح حتى يصبح التعليم ثقافة علمية جادة. والمتأمل لواقع التعليم العربي يجده قد وصل إلى مرحلة بات من الصعب, بل من المستحيل, أن نصمت عليها أكثر من ذلك, بل من الواجب القومي أن تعقد ندوات ومؤتمرات بحثية تناقش المناهج الدراسية التي أكل الزمن عليها وشرب, ووضع خطة طموح تساهم في غربلة هذه المناهج الدراسية من الحشو الكاذب والزائف الذي يمجد من شأن فلان ويصفق لكثير من المهرجين الذين يملأون الصفحات, ولا نريد مؤتمرات زائفة أو نماذج مختارة وبعناية تحفظ عن ظهر قلب ما ينبغي أن يقال في مثل هذ المناسبات حسب تعليمات السيد.. وتوجيهات السيد.. قد يكون الحل في مشاركة فعالة وقوية لجميع أفراد الشارع العربي بكل طوائفه (شباب وفتيات, رجال ونساء, خبراء تعليم وعامة الشعب), يقدمون تصوراتهم ومقترحاتهم وتجمع هذه الأراء وتطبع في كتب أو تسجل بالصوت والصورة, ثم يأتي دور النخبة لرصد ومتابعة هذه المشاركات من صفوة علماء الاجتماع ورجال الفكر والسياسة وأساتذة المناهج وطرق التدريس في كليات التربية المختلفة ليتم ترجمة هذه المقترحات والأماني إلى خطة قومية طموح تتبنى ثورة على المناهج البالية التي عفى عليها الزمن, وتضع المناهج الدراسية المطورة التي تواكب ثورة المعلومات وعصر السماوات المفتوحة وانتشار الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت والتي تمس أخطر قضيتين قوميتين (الشباب والتعليم) في الوطن العربي.

معركة المثلث التعليمي

          إن وضع قضايا مثلث التعليم (تجهيز الأبنية بأحدث تكنولوجيا العصر, المناهج الدراسية المطورة, الارتقاء بدور المدرس ماديا وأدبيا ومهنيا) تحت مجهر الدراسة يعد معركة تستحق التصدي لها ومواجهتها حتى نستحق وبحق الحياة في هذا العصر.

          ولماذا لا نقتدي - مثلا - بتجربة اليابان الرائدة وثورتها على نظامها التعليمي, فبعد انهيار اليابان - في الحرب العالمية الثانية - قامت ثورة اليابان على نظامها التعليمي تطويرا وتحديثاً مدركة أن بداية النهضة الحقيقية تبدأ من بناء الفرد وتثقيفه ثقافة عالية والآن أصبحت اليابان تقود العالم اقتصاديا وعلميا, بعد أمريكا المنافس الأول لها بالطبع.

          دعونا نتأمل واقعنا بصراحة مطلقة ونطرح السؤال الأهم:

          ماذا كسب الأبناء من حفظ وترديد المناهج الدراسية القديمة, سوى تمزيق الكتب على باب المدرسة مع آخر يوم للامتحان?

          ودعونا نناقش وبالمصداقية نفسها قضية المدرس في كثير من الأقطار العربية.

          إن هذا المدرس المطحون بمشاكله الاجتماعية والصحية والأسرية والتي تجبره ظروفه المادية الصعبة على إعطاء الدروس الخصوصية للتلاميذ, يمكنك أن تراه وهو يلف ويدور من شارع إلى شارع حتى منتصف الليل.

          وهل المطلوب من هذا المدرس - الذي رجع إلى بيته بعد منتصف الليل - وهو يقف وسط الطلاب من الثامنة صباحا, أن يؤدي دوره كاملا يشرح ويربي ويناقش ويعلّم ويعد الأجيال الشابة لبناء المستقبل, وهو المدرس المطحون والمكبل بأعباء مادية لا نهاية لها وراتبه الشهري لا يكفيه حتى منتصف الشهر.

          ودعونا نناقش أمرا آخر وبصراحة وموضوعية وهو هيبة المدرس وقديما قال الشاعر:

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا


          لكن دوام الحال من المحال, فأصبحت هيبة المدرس في مهب الريح, أصبح المدرس يقف أمام تلاميذه بلا سلطة تحاسب التلاميذ أو تعاقبهم عند إساءة التصرف أو الإهمال, فلقد انتزعت القرارات المتتالية والتعليمات المشددة خلال السنوات الأخيرة كل سلطات المدرس تقريبا, فالطرد من الفصل ممنوع والفصل من المدرسة محرم, والعقاب البدني والنفسي محال فهل قرأتم قصة المدرس الذي وقف في قسم الشرطة متهما ليس لأنه ضرب الطالب ولكن فقط وبخه على تصرفاته البذيئة وكلماته وألفاظه التي تخدش الحياء وعندما تصدى له المدرس وجد نفسه يقف متهما أمام ضابط الشرطة, بينما تجد التلميذ وولي أمره يجلسان على الكراسي الفخمة وبجوار ضابط الشرطة.

          والعجيب أن تقف القوانين في صف الطلاب, والطالب صادق في كل ما يدعيه ظلما وعدوانا والمدرس كاذب ومخالف للقوانين, وربما يصدر الأمر بنقل المدرس إلى اقصى حدود بلاده عقابا له .

          هل يمكننا ونحن نفتح ملف التعليم العربي أن نقف قليلا ونتأمل هذه القضايا التي أراها تشكل مثلث التعليم العربي (تجهيز الأبنية, المناهج الدراسية, وضع المدرس) فتجهيز الأبنية المدرسية بتكنولوجيا المعلومات وربطها بشبكات الإنترنت يمكنه أن يساهم, مع وضع خطة طموح للمناهج الدراسية التي تحتاج منا إلى ثورة حقيقية, في خلق عقول تستشرف آفاق المستقبل عندما تضع خطة تطوير المناهج الدراسية موضع الدراسة والتقويم.

          وأخيرا, فإن قضية إصلاح أحوال المدرس أصبحت ضرورة ملحة وتحتاج من الأجهزة والحكومات العربية إلى سعة صدر إذا كنا حقا نبحث لقضية التعليم عن حل حقيقي وجاد أو نسعى بالفعل إلى إضاءة شمعة في هذا النفق المضبب بكثير من الغيوم الرمادية والسوداء.

خليل الجيزاوي
القاهرة - مصر

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات