العولمة ليست كارثة عظمى

العولمة ليست كارثة عظمى
        

          بالإشارة إلى مقال الكاتب يوسف الشاروني بمجلة (العربي) عدد 527 أكتوبر 2002 ركن (قضايا عامة) فقد شدني كثيرا الأسلوب الذي توخاه الدارس في معالجته لقضية غاية في التعقيد والخطورة ألا وهي علاقة الهويات المحلية بمسألة الثقافة الكونية أو إن شئنا العولمة الثقافية حيث يتضح ما لهذه الظاهرة من تداعيات تمس في العمق كل أبعاد الحياة العادية للناس والدول في أشكالها وطبيعتها وغاياتها وأساليبها.

          لقد سعى المقال لإقناع القارئ بأن العولمة تقوم على مرتكزات وأسس براجماتية تجعلها أشبه ما يكون بذلك القطار الذي يجري في مساره فلا يعبأ بشيء من حوله مادامت السكة التي ينتهجها سليمة وممتدة ومادامت محركاته فعالة وقوية, وذلك ألمح له الكاتب بذكر المقومات الحيوية للعولمة,هذه العملية التي لا يمكن حصر تأثيرها في قطاع دون آخر فهي تمس الجغرافيا والاقتصاد والتربية والتكوين والعمل والفكر والثقافة والعلاقات الدولية داخل وبين فئات المجتمع.

          ويستنتج المقال أن الثقافات المحلية للشعوب الأقل نموا تعاني باطراد خطر تقلصها وذوبانها التدريجي في ثقافة الدول الغربية الكبرى لتصبح ذات طابع كوني, وأسباب ذلك, كما بين الكاتب, تتمثل خاصة في قوانين واتفاقات التجارة الحرة بين الدول وما أفرزته من بروز شركات عملاقة متعددة الجنسيات تنشط في مختلف بقاع الدنيا من دون قيود وتقيم فيها بكل يسر وتروج بها منتجاتها وتشغل عمالتها وتؤسس معها شركات مختلطة في جميع القطاعات بما في ذلك القطاعات الثقافية.

          ولما كانت أعتى الشركات العالمية تنتمي إلى كتلة الدول الصناعية الكبرى (تضاهي ميزانية بعض هذه الشركات ميزانيات دول بكاملها بل تفوقها) فالأكيد أنها ستؤثر في مجتمعات البلدان النامية ومنها البلاد العربية, والأكيد أن القطاع الثقافي وأساليب العيش المحلية مهددة بالاختفاء في ظل هذا التواصل الهائل بين مختلف الشعوب مضافا إليه أجهزة الاتصال الحديثة والقنوات الفضائية التي تجعلنا نسافر ونعيش مع أهلها عبر البث الفضائي المتنوع والمغري والميسر.

          وهنا أعتقد أن هذه التقنيات المتطورة لا تخلو من فائدة جمة رغم كل ما قيل فيها وما يقال, إذ يمكن لنا كبلدان عربية أن نوظفها في إيصال ثقافتنا وفكرنا ومواقفنا إلى العالم عبر برامج ثقافية مدروسة وعبر تعميم وتشجيع استعمال الحواسيب والانترنت وابتكار نظم إعلامية جديرة بأن نجعل منها نوافذ يطل منها العالم علينا وعلى خصوصياتنا, كما أعتقد أن مجال السياحة مثلا يمكن أن يكون قناة معتبرة من قنوات تصدير لوننا الثقافي عن طريق اشراك السياح في التظاهرات والمهرجانات الشعبية... الخ.

          أقول هذا مع أنني لست من أنصار التشبث المبالغ فيه تجاه التراث والتقاليد لأنه في النهاية نحن نعيش على الكوكب نفسه الذي يعيش عليه أناس مثلنا يتحتم علينا أن نتعايش معهم في تضامن وسلام وفي نطاق أكثر ما يمكن من التكافؤ في الفرص.

الوفاء للثقافة

          وإذ أصبح العالم قرية صغيرة كما يقال بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي فلا أعتقد أن هناك داعيا ملحا لمحاولة إعادة تقسيمه على أسس ثقافية أو عرقية أو دينية. فبرأيي علينا أن نضحي نوعا ما ببعض الأساليب المعيشية - خاصة منها ما لم يعد متلائما مع مقتضيات العصر - في سبيل تقدم شامل وسلام كامل وعادل مع بقية الأمم وتلك هي ضريبة حتمية لازدهار اقتصادي ورقي اجتماعي وهذا لا يمنع, في الحقيقة, أيا منا من أن يكون وفيا لثقافته الأصلية ومواقفه الذاتية وهو في الوقت نفسه يعيش الحياة العصرية جنبا إلى جنب مع أخيه الإنسان في ظل قيم إنسانية عليا كفيلة بضمان حياة مقبولة من كل الأطراف, هذا الإنسان الذي نحتاج إليه ويحتاج إلينا ونتقاسم معه مشاكل وهموم وآمال عديدة ونسعى أيضا لنتقاسم معه الثمرة الاقتصادية العالمية.

          وبهذا أعتقد أن اعتبار العولمة كارثة عظمى كلها مآسٍ وخراب لنا نحن العرب هو أمر مبالغ فيه إلى حد ما.

          ويجب ألا نكذب على أنفسنا, فنعترف بأننا مسئولون إلى درجة ما عن وضعنا غير المتكافئ مع بعض الدول المتقدمة.

          والمخرج الوحيد لذلك هو إرساء مقومات نهضة علمية وتكنولوجية مدروسة وطويلة النفس وغرس روح الاجتهاد والمبادرة ونشر النزعة النقدية والتفكير العلمي لدى الناشئة, كما دعا إلى ذلك العالم أحمد زويل في أحد تصريحاته لمجلة (العربي).

          إن تقديس قيمة العمل وإتقانه يعتبر حجر الزاوية لأي عمل تنموي وإبداعي, فلنترك الثرثرة والبكاء على الأطلال والعيش على لفتة من الأثرياء أو معجزة تغير حالنا فجأة. وفي ديننا الحنيف أبلغ دروس في هذا المضمار.

          إن الثروة الحقيقية تأتي عندما نعرف كيف نستخدم عقولنا وأيدينا ونشحذ إرادتنا ونوجهها نحو إنتاج الخيرات ولمّ الشمل, فعائقنا الوحيد وعدونا الأساسي هو الجهل والأنانية والأحقاد. فبقدر مقاومتنا لهذه الآفات انطلاقا من ذواتنا, بقدر ما يصلح أمرنا وأمر أبنائنا مستقبلا. حينئذ سوف يكون مكان أمتنا العربية أعلى وأرقى ويكون نصيبنا من الكعكة العالمية محترما.

          كما علينا أن نعتبر أن مقولة (صراع الحضارات) هو حجر عثرة كبير وجرثومة خبيثة تعشش في عقول بعض الناس وتجعلهم على هامش الواقع حابسين أفكارهم على اجترار مقولات تشجع على الصراع بين الحضارات والشعوب ناظرين إلى الواقع بمنظار أسود مخدوش والأجدر بهم استعمال منظار شفاف يكشف المواضع الحقيقية للخلل فيتحركون لإصلاحها.

          ومهما كانت الظروف العالمية الراهنة فالحل الوحيد في اعتقادي هو محاولة فهم هذه الظروف ودراستها بعمق وتوظيفها قدر الإمكان لتأمين مصالحنا العامة.

ناصر بن عبدالرحمن الخليفي
سوسة - تونس

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات