وردة اليازجي 1838-1924م شاعرة وناثرة من رائدات القرن التاسع عشر

وردة اليازجي 1838-1924م شاعرة وناثرة من رائدات القرن التاسع عشر
        

          عندما نتحدث عن الرائدات اللواتي أسهمن في النهضة العربية التي شعت أنوارها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لابد لنا من التوقف عند شاعرة وكاتبة اشتُهرت في كل من لبنان ومصر هي وردة ابنة العالم الشيخ ناصيف اليازجي, وشقيقة الشيخين إبراهيم وخليل اليازجي. ولدت (وردة) في بلدة كفرشيما في جنوب لبنان ثم عاشت في بيروت مع أسرتها منذ بلوغها العام الثاني من عمرها. درست في معهد للبنات في بيروت  أنشأه المرسلون الأمريكيون, وعندما بلغت الثانية عشرة من طفولتها لحظ أبوها حبها للمطالعة والعلم فأحضر لها مَن درّسها الصرف والنحو والبيان لتتمكن من اللغة العربية. كان أبوها شاعرا, ولما شبّ أحبّت شعره فعلّمها علم العروض, وقبل أن تبلغ عامها الخامس عشر شرعت تنظم الأشعار في الوصف والمديح.

          تزوجت وردة الأستاذ فرنسيس شمعون ببيروت وهي على مشارف الثلاثين عام 1866 فأعجب بها وبكتاباتها إذ كان مثقفاً من خريجي الجامعة الأمريكية فيها, وهذا ما ساعدها على الاستمرار في كتابة الشعر والنثر فصدر ديوانها (حديقة الورد) في بيروت عام 1867 وألحقته بدراسة نثرية موسعة عن النساء العربيات والغربيات المتفوقات. لقد اعتمدت في هذا البحث على ديوانها المذكور الذي طُبع مجددا في بيروت عام 1984 وصدر عن دار (مارون عبود للنشر), وهو يقع في 113 صفحة من الحجم الكبير, وقد افتتحته بهذه الأبيات التي وجهتها إلى زميلتها وسمّيتها ورْدة نقولا الترك (هي ابنة شاعر الأمير بشير الشهابي (نقولا الترك)):

يا وردة التركِ إني وردةُ العَرَبِ فبيننا قد وجدنا أقربُ النَّسَبِ
أعطاك والدك الفن الذي اشتهَرتْ ألطافُهُ بين العلم والأدبِ
فكُنْتِ بين نساءِ العصر راقيةً أعلى المنازِلِ في الأقدارِ والرُّتَبِ


          كانت عائشة التيمورية معاصرة لوردة اليازجي فأعجبت بها وأهدت إليها نسخة من ديوانها (حلية الطراز) فشكرتها على الهدية بهذه الأبيات:

يا نسمةً من أرض وادي النيل وردت فأطفأت بالسلام غليلي
أنتِ الفريدةُ في النساءِ فكيفَ لا أهوى حبيباً باتَ دونَ مثيلِ
عَلَّمْتِني قولَ النسيبِ وَهُجْتِ بي ما هاجَ حُبُّ بثينةٍ بجميل


          ومن شعرها التقليدي في المناسبات أذكر هذين البيتين اللذين أرسلتهما إلى جمعية خيرية في بيروت عام 1876:

جمعيةٌ خيريةٌ بُنِيتْ على حُبِّ الفقيرِ لكي تُخفِّف كربَهُ
وكذاكَ قال اللهُ في تاريخِهِ: من يرحم المِسْكينَ يَقْرِضُ رَبَّهُ


          وقبل أن تنتقل إلى مصر للإقامة فيها بعد وفاة زوجها مدحت وردة شقيقة السلطان عبدالحميد (نائلة) بمناسبة زيارتها بيروت فأرسلت إليها تحيةً شعرية هذا مطلعها:

يا ثَغْرَ بيروتَ البهيجَ تبسَّمْ وَبِحَمْدِ خالِقِكَ الكريمِ ترنَّمْ
هِيَ أُخْتُ سلطانِ الأنامِ مَليكِنا وسليلةُ المُلْكِ الهمامِ الأعظمْ


عالم من الرثاء

          إن للنابغة ميّ زيادة كتاباً عن وردة اليازجي تضمن نبذةً من حياتها ودراسة لعصرها وأعمالها صدر عن مطبعة البلاغ في القاهرة عام 1965 بدافع تقديرها لريادتها فعلمنا منه أن وردة واجهت مآس وأحزانا في حياتها الطويلة التي بلغت ستة وثمانين عاما. مما جعل الرثاء في ديوانها يحتلُّ جزءاً كبيراً منه. فقدت أخاها نصار الذي توفي في مدينة زحلة بلبنان فعبرت عن حزنها بهذه الأبيات:

وَيْلاهُ ويلاهُ كم نشكو وننتحبُِ وَكَمْ علينا صروفُ الدَّهْرِ تنقلِبُ
وَيْحي على بَدْرٍ ثم باتَ مُنْخَسِفًا تحت الثرى وَمَحَتْ أنوارُهُ التُّربُ
يا أرضَ زَحْلَةَ لي في حُبِّها شَغَفٌ إذ في حِماها شقيقُ الروحِ مُحْتَجِبُ
روحي فدى من به أيدي القضا نشبَتْ سهامُها, بل بقلبي السهم مُنْتَشِبُ


          كما فُجعت بوفاة أخيها إبراهيم اليازجي فرثته مشبّهةً نفسها بالخنساء, ولما توفي والدها الشيخ ناصيف اليازجي عام 1871 أعربت عن حزنها العميق بقصيدة طويلة نابعة من أعماق قلبها استهلتها بقولها:

حرام على قلبي المسرّة بعده وكيف سروري وهو قد نزل القبرا
نهاري كَلَيْلي أسوَد لا يطيبُ لي وَلَيْلي كيَوْمي بالسُّهادِ والذِكرى
فيا رحمةً اللهِ الكريمِ تغمّدي لَهُ نَفْسَ حُرٍّ لم تكن تعرِفُ الوِزْرا
عليهِ سلام الله ما هبَّتِ الصَّبا وما ردَّدَتْ لُسْنِ الأنامِ لَهُ ذِكْرا


          ومن دلائل برّها به جمعت وردة مقامات كتبها في حياته بديوان عنوانه: (مجمع البحرين) ونشرتها وقدمتها بهذه الأبيات:

مقامات أقامت شأنَ عِلْمٍ وذكراً لا يزول مدى الدهورِ
كَمُنْشِئها زَهَتْ لفظاً ومعنى فنورٌ فوق نورٍ فَوْقَ نورِ
دعاها مَجْمَعُ البَحْرَيْنِ لكِنْ دَعَتْها الناسُ مَجْمَعَ البحور


          وفي عام 1889 فقدت أخاها خليل اليازجي فرثته معربةً عن حزنها عليه وشاكية فقدها أغلى اللائذين بها بقصيدةٍ مؤثرة.

          وهكذا نرى أن الأحزان فجّرت شاعريتها في إثر تتابعها في حياتها إذ بعد انتقالها إلى مصر فُجعت وردة بوفاة ابنها (أمين) عام 1892 الذي كان في ريعان الشباب حبيباً تفتخر به وتعقد الآمال على وجوده بقربها فبكته بحرقة ورثته بقصيدة مؤثرة حقاً أنقل منها الأبيات التالية:

ألحَّ عليَّ الحزنُ من كلِّ جانبٍ فَشَنَّ على صَبْرِ الحشا غارةً شَعْوا
فلو أن ما بي في الجبال لأوشكت تميدُ لما تلقاه من مضض البلوى
لفقد أنيسي بل حبيبي وَمُهْجتي وريحانَ روحي من غَدَوْتُ به نشوى


          ولاشك في أن تلك الفواجع التي ألمّت بوردة فجّرت شاعريتها إذ كانت الوسيلة الوحيدة للإعراب عن ألمها. وإلى جانب تلك المراثي أعطت لنا وردة بعض النماذج من شعرها التقليدي وحتى الغزلي في ديوانها (حديقة الورد) لابدّ من ذكره لأنه دليل على تقديسها الصداقة والحبّ في حياتها, فلما عادت إحدى صديقاتها من السفر حيّتها بهذه الأبيات:

أهلاً وسهلاً بالقمر قد عاد من بَعْدِ السفرْ
أنتِ الحبيبةُ فانجلى عنا برؤيتِها الكَدَرْ
مَنَّتْ علينا باللِّقا كالأرضِ لاقاها المَطرْ


          وردّت على شاعر من بغداد مدحها ولكنها لم تذكر اسمه بأبياتٍ رقيقة هذا نصّها:

منَّ الكريم بها عليّ رسالةً تُفدى بكلِّ وصيفةٍ ووصيفِ
ذاك الأديبُ الكامِلُ العلم الذي أوصافُهُ وَلَّت على الموصوفِ
أَهْدَيْتَنِي مَدْحاً به أَغْرَقتني في بَحْرِ فضلٍ لم يكن بخفيف!


          كما أننا وجدنا في ديوانها أبياتاً من الشعر جميلة رقيقة ذكرت أنها أرسلتها لصديقة لها كانت مسافرة,ولو لم يكن تغزّل النساء بمن عشقن في بلادنا مكروهاً, بل محظوراً عليهن, لظننا أن الأبيات التالية ناجمة عن حبّها أحد الرجال:

رحل الحبيبُ وحُسْنُ صبري قد رَحَلْ فمتى يعود إلى منازِلِهِ الأَوَلْ
وتضيء أرضٌ أظلمت من بَعْدِهِ وَتَقَرُّ عيني باللِّقا قَبْلَ الأَجَلْ
يا غائباً والقلبُ قد سارَ بإثْرِهِ شوقي مقيمٌ في فؤادي كالجبل
يا بدرُ غِبْتَ اليومَ عنا راحلاً والبَدْرُ ليس يَغيبُ شهراً إن أَفَلْ
لَئِنْ يَكُ امتنع اللقا فإنما لا تمنعُ الكْتبَ التي تَشْفي الغُلَلْ


دعوة للتقدم

          كانت وردة مطلعةً على نهضة المرأة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في عصرها فألحقت ديوانها بدراسة نثرية جديرة بالاهتمام حقاً, لحظت إفراط بعض العربيات بتقليد الغربيات في ألبستهن والتحدث بلغتهن مهملات بذلك لغتهن وتقاليدهن العربية المشرّفة. وصفت ذلك التقليد السطحي بالمشين ليقينها بأن على نسائنا التمسّك بلغتهن وإتقانها قبل كل شيء, والاعتداد بأصلهن العربي كما دعت إلى أخذ اللّباب من التقدم في الغرب بالتعلّم لا القشور, وأطنبت بذكر الرائدتين اللتين عاصرتهما: زينب فواز وعائشة التيمورية لأنهما حققتا مكانة مرموقة في النهضة العربية بعلمهما وإسهامهما فيها إسهاماً مشكوراً بما نشرتا من أبحاث ودراسات وقصائد. وعندما تحدثت عن انبثاق النهضة العربية في الأندلس أعطتنا وردة شرحاً وافياً عن دور الشاعرات والفقيهات اللواتي أسهمن فيها بفضل وعيهن وذكائهن ومؤازرة الرجال لهن, ولقد ختمت ذلك الملحق بتحليل موضوعيّ لأسباب تخلّف النساء عامة في عصرها معزتْهُ إلى تقاعسهن عن اللحاق بركب العلم للتقدم, والانشغال بالأباطيل والخرافات, ثم عابت تقليد بعضهن للغربيات في إثر الاتصالات التي جرت مع الغرب تقليداً سطحياً فقط, ولم تنس تحميل الرجال تبعة تقصيرهم في حق النساء, زوجاتٍ كُنَّ أو بنات أو أخوات, إذ لو أرادوا النهوض بمجتمعاتهم حقاً لأولوهنّ الرعاية المطلوبة بتعليمهن وتشجيعهن على العمل في الميادين التي يقدرن عليها. إن أفضل ما أختم به هذه المقالة نقل ما جاء في كتاب ميّ زيادة عن وردة اليازجية حيث قالت: (إنها كانت مع عائشة تيمور الشعاع الأول في ظلام الحالة النسائية في الشرق).

 

سلمى الحفار الكزبري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات