إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

عرب وجيشا

          كنا شلة من الباحثين العرب في مطعم ياباني تقليدي, على درجة عالية جدا من الجمال وارتفاع الأسعار. كانت الخدمة فيه مقتصرة على بضع فتيات يابانيات يلبسن الكيمونو الذي يعطي جمالهن مسحة إضافية متميزة تجعلهن أقرب ما يكن إلى فتيات الجيشا الجميلات, وهن ذائعات الصيت في اليابان وجميع دول العالم. فجأة, التفت إلينا أحد الأصدقاء من المشهود لهم بالمرح الدائم وتغليب أسلوب المزاح في الحديث, وبعد أن تصنع مسحة من الجدية على محياه, قال: أنا عرفت السبب الحقيقي لتقدم اليابان وتخلف العرب!

          كان صامتا تماما حين كنا نتحاور بأصوات مرتفعة أثارت اشمئزاز الحاضرين في ذلك المطعم الهادئ, تطلعنا إليه جميعنا بذهول ملحوظ, فأكمل قائلا: (بعيدا عن تحليلاتكم التاريخية والاقتصادية والتكنولوجية (المعمقة) والتي لم نفهم منها شيئا, ولم تتفقوا فيما بينكم على أي منها سبب تقدم اليابان وتخلف العرب, أرى أن السبب الرئيس في نجاح اليابان يعود إلى فتيات الجيشا), ودون أن يفسح لنا في المجال للاستيضاح, تابع حديثه بشيء من الجدية قائلا: (من منكم يحدد لي العصر الذهبي في تاريخ المجتمعات العربية? بالمناسبة, أرجو ألا تنسوا أننا في مطعم ياباني جميل, فلا تدخلوا إليه أخبار الدعوات الدينية والفتوحات العسكرية), فرد أحد الحاضرين ساخرا: العصر الذهبي إذن هو عصر الأفراح والليالي الملاح!

          - نعم, العصر الذهبي الحقيقي هو الذي يدخل الفرح إلى قلوب الناس.

          - عليك إذن بعصر هارون الرشيد, أو المأمون, أو أيام الأندلس حيث الموشحات, والموسيقى الجميلة, والجواري الحسان. أجاب على الفور: - بالتأكيد. عندما كان العرب أسياد العالم, كانت أيامهم جميلة وملأى بكل ما هو جميل. وهذا ما فعله اليابانيون إبان نهضتهم الحديثة. فقد جعلوا من فتيات الجيشا نموذجا رائعا لجمال الحياة في اليابان. فيتم اختيارهن من بين أجمل الفتيات اليابانيات, ويتعلمن الموسيقى, والرقص, وتقديم الشاي, وتنسيق الزهور, وكتابة الكانجي بخط جميل, كما يتعلمن آداب الحديث, وتدليك الجسد بحساسية مفرطة, وغيرها. ورغم دخول اليابان إلى عالم التكنولوجيا بقوة, حافظ شعبها على ظاهرة الجيشا التي تبقى حلما بعيد المنال لكل من تطأ قدماه أرض اليابان, من العرب وغير العرب. وأنا أرى أن تمسك اليابانيين بفتيات الجيشا هو موقف بالغ الأهمية. فمع الاحتفاظ بفنون وتقاليد فتيات الجيشا الجميلة حافظوا على غالبية الفنون التقليدية اليابانية التي مازالت تستعصي على ثقافة العولمة وتعتبر سمة مميزة للنهضة اليابانية التي جمعت بين الانفتاح التام على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة من جهة, وعلى الفنون التقليدية التي يرون فيها تجسيدا لخصوصية الثقافة أو الروح اليابانية من جهة أخرى. بالمقابل, حين تخلى العرب عن غالبية - إن لم أقل جميع - فنونهم وتقاليدهم الجميلة, وفي مختلف المجالات, دخلوا في حداثة مشوّهة جعلتهم أشبه ما يكونون بالغراب الذي تعلم مشية الحجل).

          سنوات عدة مرت على هذا الحديث العابر الذي جرى بين شلة من الباحثين العرب في مطعم ياباني تقليدي هادئ في أحد أحياء طوكيو الراقية, لكن آثاره العميقة مازالت ماثلة أمامي, فالشعب الذي لا يحافظ على تراثه الثقافي الأصيل وفنونه التقليدية الجميلة سيتخلف عن ركب الأمم والحضارات, وسيكون عاجزا بالضرورة عن إدخال الفرح إلى قلوب الأجيال القادمة من أبنائه, وعن بناء مستقبل مشرق لهم داخل أوطانهم فيهجرونها إلى بلدان أخرى

 

مسعود ضاهر