الغجر: الرحالة الظرفاء المنبوذون
الغجر: الرحالة الظرفاء المنبوذون
يستحيل تقدير عددهم الكلي بدقة, لأن بلاداً كثيرة لا تشير إلى الغجر في إحصاءاتها, كما أن الكثيرين منهم يخفي أصله العرقي خشية التميّز. تقول بعض الإحصاءات إن حوالي 12 مليون غجري يتفرقون في أرجاء المعمورة, فهل بين أفراد هذا العدد الكبير روابط أو صفات مشتركة...? في كتابهما (الغجر: الرحالة الظرفاء المنبوذون) يتتبع المؤلفان أحوال هذه الشريحة المفتتة بين مختلف مجتمعات الأرض ويمعنان في تسليط الأضواء على البؤس الذي يعيشه الغجر أبناء اللامكان واللازمان. الغجر, اقتربت في طفولتي من خيامهم وكنت أحمل إليهم بعض أطعمتنا التي لا يعرفونها وبعض الألبسة البالية, ظننتهم أسعد المخلوقات على هذه الأرض, وكم كانت تستهويني ثيابهم المزركشة وخيامهم الملوّنة وضفائر الصغيرات الجميلات التي تتطاير في الهواء حين يتراكضن بفرح مقبلات على الحياة. كنت ألاحظ تنوّع مصالحهم بين صناعة الأسنان ومعالجتها والبيع وصناعة الأمشاط والطبول والغرابيل وما إلى ذلك, أما في تلك المساءات الجميلة فكانت الأغنيات الجميلة الراقصة ترافقها نقرات الإيقاع تتسرب إلى منازلنا القريبة منهم لتشحن نفوس الرجال بالطرب وتبهج النساء, ولكن الرجال والنساء كليهما يصرحون بكراهيتهم للغجر ويهددونهم بالطرد إذا ظلوا خارجين عن إطار عادات وتقاليد المجتمعات القروية التي يلتصقون بها وعلى مقربة منها ينصبون أعمدة خيامهم. جذور واهية...! تلك بعض عادات (القرباط), نعم إنهم يعرفون ببلادنا بهذه التسمية, والواحد منهم (قرباطي) ويعيد الكتاب هذه التسمية إلى جبال الكاربات الأوربية, وحتى لغتهم فهي قرباطية, كما كانوا يسمّونهم كذلك في بلاد الشام بـ (الدومري) وهو اسم قديم لفئة من العشائر الغجرية التي قصدت الشام, ولقد ضاع هذا الاسم, ولم يبق من ذكراه إلا رجل عرف بالدومري في أواخر العصر العثماني, وكان يعمل في بلدية دمشق مهمته إشعال الفوانيس في الطرقات وإطفاؤها صباحا, فغلب اسم الدومري على مهنته. يعدد الكتاب بعض التسميات العربية القديمة للغجر كالزط والسبابجة,, وتجمع المصادرالعربية على أن الزط قوم من بلاد الهند وبالتحديد من حوض نهر السند, ويعتقد أن (زط) عرّبت عن أصلها (جت) وهي باللغة الهندية اسم هؤلاء القوم الذين كانوا يعرفون بـ(زنوج الهند) بسبب بشرتهم السمراء, وكانت لهم حلاقة وأزياء خاصة. حين رحلوا إلى البلاد العربية اختاروا بطائح جنوب العراق ومستنقعاته وانتشروا نحو الغرب حتى وصلوا بادية الشام ليعيشوا حياة بداوة الصحراء, فأخذوا يربّون سلالات من الحمير وكلاب الصيد السلوقية, ويبدو أن العرب عرفوا الزط قبل الإسلام إذ اختلطت قبيلة تميم بهم وجاورتهم قبيلة عبدالقيس في جنوب العراق, وبعد مجيء الإسلام وانتشاره ومن ثم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قام بعض العرب بما عرف بـ(حركة الردّة), وقد ارتدّ في بني قيس بن ثعلبة الحطم بن ضبيعة ومن اتبعه من بكر بن وائل, واستمال إليه الزط والسبابجة في جنوب العراق, وأثناء وقعة الجمل برزت فرقة الزط والسبابجة كإحدى الفرق الموالية للإمام علي كرّم الله وجهه, وكانت بقيادة دنور بن علي, واستغلهم الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان فدعم بهم ثغور الشام البحرية لما عرفوا به من جلد وتمرّس في القتال البحري. تسمية السبابجة تعني الكساء الأسود أو الخرز الأسود, وأصلها فارسي معرّب, والسبابجة صفة أطلقت على الزط كلهم في أول الأمر أو على مجموعة منهم بسبب لون بشرتهم الأسمر الداكن, والفرد من هذه الجماعة يقال له (سبيجي أو سابج), والسبابجة يستأجرون ليكونوا مقاتلين مرتزقة, فهم يتقنون فنون قتال الهند التي لا يعرفها العرب, وقد اشتغلوا في البصرة كشرطة وحراس سجون, ولغتهم من لغات الهند, اختصوا أيضا بالعمل في الملاحة البحرية, وقد استقر بعض السبابجة مع ذراريهم في البصرة حتى أن أحد أحيائها حمل اسمهم, فيما قطن الزط أهوار العراق ليعملوا في الزراعة الرعوية. في البطيحة جنوب العراق يقف التاريخ مسجلاً للزط صفة غريبة حين ثاروا على الخليفة العباسي المأمون عام 201 هـ وقطعوا الطرقات ونهبوا الغلال من الضواحي, والأكثر غرابة أن أحد قادة المأمون كان زطياً وهو السري بن الحكم بن يوسف الزطي, وقد دخل مصر مع الجند الخراسانيين المرافقين لليث بن الفضل عامل الرشيد عام 182هـ, وحين نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون تزعم الزطي الجند الخراسانية ودعا للمأمون واستولى على غرب الدلتا وصعيد مصر, وبعد موت السري خلفه ابن أبو نصر محمد الذي مات عام 206هـ وأعقبه أخوه عبيدالله بن السري فاستولى على مصر كلها بعد حروب دامية, ولما أراد المأمون أن يقره واليا أعلن العصيان واستقل بملكه, وفي سنة 221 هـ, وجه المأمون عبدالله بن طاهر إلى مصر فهزم الزطي الذي طلب الأمان ثم رحل إلى العراق ليقضي نحبه في سامراء عام 251 هـ. شكل آخر للشتات لما تعاظمت ثورة الزط عام 205هـ وتحكموا في منطقة جنوب العراق بكاملها, اضطر الخليفة المأمون لتوجيه جيوش لحرب الزط بعد أن قطعوا الطريق بين وسط العراق وجنوبه, وقد أثرت ثورة الزط في هيبة الخليفة وهيبة الدولة بشكل كبير بسبب عجزها عن إخماد الثورة رغم قدرتها على إخضاع العديد من الثورات, وتوفي الخليفة المأمون وفي قلبه حسرة, وجاء المعتصم وهو قائد عسكري, فتفرّغ لإنهاء مشكلات الدولة العسكرية الداخلية منها والخارجية, وكان الزط في مقدمة اهتماماته. ومع مجيء سنة 219هـ أرسل المعتصم أحد أشهر قواد الدولة وهو: عجيف بن عنبسة لحربهم وكان القائد المناسب لذلك حيث جمع كل أخبارهم وأماكن تحرّكاتهم وعرف الكثير عن قواتهم ثم عمل على سد نهري بردودا والعروس حتى انقطع ماؤهما وسد كل الأنهار المتفرعة عنهما حتى جفّت مياههما بعد أن عرف كيف يتجمع الزط حولهما, ثم هاجم مواضع الزط فأسر منهم من أسر وقتل الكثيرين ولم يتوقف, ثم تابع عجيف حصاره لمناطق الزط ومهاجمة مواقعهم حتى ظفر بهم. واستسلم الزط فنقلهم عجيف من مناطقهم بزوارق إلى بغداد وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل وخمس عشرة ألف امرأة وطفل, وكانت الزوارق تمر بموكب لثلاثة أيام وهم ينفخون بأبواقهم, ومن بغداد نقلوهم إلى مواجهة الروم أمام بوابات الأناضول, ولكن حين هاجم الروم الدولة العباسية عام 241هـ, استاقوا الزط قاطبة مع ممتلكاتهم إلى داخل بلاد الروم, لم يفلت منهم أحد لتبدأ رحلة الشتات الكبرى للزط في أوربا, فبعد وصول الزط إلى القسطنطينية وإقامتهم حولها, تحرّكوا غرباً متفرّقين إلى جماعات قليلة العدد ودخلوا أوربا كرحّالة مسالمين. ثم لم تنته حكاية الزط في البلاد العربية الإسلامية, لأن زط العراق لم يجتمعوا كلهم للرحيل, ولأن رجلا يدعى أبا حاتم الزطي خرج عام 295هـ من زط السواد (جنوب العراق) والتحق ببقايا القرامطة بعد هزيمتهم وتزعمهم, ويحكى أنه حرّم عليهم الثوم والبصل والفجل والكراث, كما حرّم عليهم إراقة دماء الحيوانات, ويحكى أن الملك الفارسي بهرام جور كان لديه مجلس يزخر بالمتع, ولكن بلا موسيقى, فأرسل يطلب من ملك الهند (ثانغول) بعض الموسيقيين, فأرسل إليه اثني عشر ألف موسيقي من الرجال والنساء, فأعطاهم بهرام بقرا وقمحا, وبعد أن نفد ما لديهم, شرعوا يتنقلون في البلاد يرقصون في النهار لكسب الرزق, وفي الليل يسرقون بمساعدة حيواناتهم المدربة. ومع رياح البادية, تناقل الناس رواية فحواها أن عشيرة منهم بدوية تتجول في بوادي الشام والعراق ونجد, وهذه العشيرة عرفت بالصُليب, وأفرادها كالبدو في هيئتهم ولباسهم وبعض طرائق حياتهم, ولكنهم لا يتزوجون ولا يزوّجون إلا من عشيرتهم, وهم يسالمون الجميع ويمتازون بالبساطة والنشاط, يعتمدون في معيشتهم على الصيد ويربّون قطعان الحمير البيضاء ليتاجروا بها ويتاجروا بالملح أيضا وهم أطباء البادية, ثيابهم زاهية وحفلاتهم الراقصة كثيرة, نساؤهم يرقصن ويغنين في حضرة الغرباء على نقرات الإيقاع بأصابع ذويهم, اشتهروا بقرض الشعر مديحاً وغزلاً برفقة آلة الربابة, يقولون إنهم من المسلمين ولا يؤدون شعائر المسلمين, زعيمهم الكبير كان في النصف الأول من القرن العشرين في بادية العراق معروفاً بالشيخ معيذف الملقب بـ(تل اللحم) لكرمه, ولغتهم عربية خليطة بكلمات تركية وفارسية وسنسكريتية. الصُلَيبيون نحيفو الأجسام وسيطو القامة, شديدو السمرة, شعرهم أسود, تغيرت حياتهم الآن بسبب انعدام الصيد وسنوات الجفاف المتوالية, فلجأوا إلى القرى والمدن وقد امتهن معظمهم البيع. حياتهم... بين المد والجزر عرف الغجر في ظل الدولة العثمانية الحياة الحرة ولكن السلطان سليم في عام 1530م أصدر فرماناً يضبط فيه بقاء الغجر في عدد محدد من مقاطعات الإمبراطورية, وأعفى ابنه السلطان سليم الثاني الغجر العاملين في مناجم البوسنة من الضرائب, ولكن مع تراجع موارد الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر ازدادت الضرائب عليهم حتى أثقلتهم, إلا أن حياتهم بقيت في ترحال مستمر وتعددت أعمالهم وتحوّلت من الصناعات التعدينية إلى صناعة المكانس وتنظيف مداخن المنازل, كما عملوا موسيقيين وراقصين ومدربي دببة وحدّادين. الغجر في البلاد العربية أعفاهم العثمانيون من الضرائب والتجنيد, وعاشوا كما يشاءون يمارس بعضهم التسوّل ويحتالون على الناس بالتنجيم والشعوذة ويقيمون الحفلات الساهرة في بلادهم, ويصنعون الطبول والغرابيل, ويصنعون الخناجر والمقصات ويعالجون الأسنان. تأثر بحياتهم بعض الشعراء, وأبرزهم الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل المعروف بعرار وهو أشهر مَن وصف حياة (النَّوَر) - اسم آخر لهم - وخاصة بعدما أغرم بسلمى الراقصة الغجرية الممشوقة القد والقوام حتى قال:
وقد تعدد الشعراء الذين مدحوا (النَّور) لكنهم لم يصرّحوا بأسمائهم خجلاً أو خشية الاضطهادات رغم مسالمتهم الدائمة في كل رحلاتهم. الغجر في أوربا وأمريكا امتلأت نفوس الأوربيين بالكره نحوهم حتى أنهم اتهموهم بأنهم هم الذين دقّوا المسامير في صليب المسيح, واتهمهم البريطانيون بتهم نقل الأوبئة وإشعال الحرائق ونشر الحيوانات الضارة كالفئران, واتهموا في بعض البلاد بحرق الغابات والقيام بأعمال الشعوذة والتجسس, وفي كل أنحاء أوربا تمت مواجهتهم ومحاولة طردهم أو تصفيتهم. في أعقاب الحرب العالمية الثانية, أخذت الدول الأوربية تلفظهم خارجا, وتسنت لهم فرصة البقاء في دول البلقان فقط, فتكاثرت أعدادهم بشكل كبير هناك, ولكن تجمعاتهم لم تعفهم من الاضطهاد الصريح غالبا, وفي رومانيا الحديثة لاقوا الأهوال في عصر الرئيس تشاوشيسكو الذي استعبدهم في أعمال قذرة, وفي مختلف أقطار أوربا الشرقية الشيوعية السابقة حرمتهم الحكومات من تداول الثقافة الغجرية وحظرت عليهم التحدث بلغتهم. ولما غذيت نار الكراهية الدينية والعنصرية في البلقان انصبّ كره الجميع وحقدهم على الغجر. وللغجر تنظيمهم في أوربا, ففي أبريل عام 1971 انعقد المؤتمر العالمي للغجر وانتخب الشاعر الغجري اليوغسلافي (سلوبودان بربرسكي) أول رئيس له اعترافاً بجهوده من أجل الحقوق الخاصة بهم مع المنظمات الدولية, وكما هي حالهم في بلاد الدنيا هي حالهم في أمريكا, إلا أن حياتهم هناك انطبعت بالاستقرار نوعاً ما وهم يعملون بمهن يرفضها الأمريكيون. للغجر معتقداتهم التي يطول شرحها, وقد بيّنها الكتاب, كما بيّن أساطيرهم وبعض طقوسهم وصور بعض تقاليدهم وتتبع ثقافاتهم وفنونهم ولغاتهم ولهجاتهم, وتخطى ذلك إلى علاقتهم وعملهم في تربية الحيوان وبالتحديد للدببة التي يدرّبونها على الرقص بأشكال عجيبة والكلاب التي يدربّونها على الصيد, والحمير التي تخدمهم في ترحالهم. هذه جوانب من حياة الغجر أولاها الكتاب الاهتمام إلى جانب العادات والتقاليد الغجرية وأحوال المرأة, وكيف يعيش الأطفال في تجمّعات الغجر, ويشد الكتاب القارئ بالصور الملوّنة لحياة الغجر وهم ينشطون في مختلف النواحي, ولم يقسم الكتاب إلى فصول وإنما إلى مواضيع غذاها المؤلفان بما يشوق القارئ بالطريف المتناقض في حياة مليئة بالبؤس والفرح معاً.
|