الفساد والاقتصاد العالمي

  الفساد والاقتصاد العالمي
        

          تحوّل الفساد على مدار السنوات الماضية من هاجس وطني أو إقليمي إلى قضية عالمية. وفي النصف الأخير من العقد الماضي اندلعت على الصعيد العالمي (هوجة) ضد الفساد. وفي عام 1992, تبنى عدد  من المنظمات الدولية, الحكومية وغير الحكومية, هذه المسألة بحماس. أبرزها منظمات مثل: الأمم المتحدة, ومنظمة الشفافية الدولية, والمنتدى الاقتصادي العالمي, والإنتربول, ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, وغرفة التجارة الدولية, ومنظمة الدول الأمريكية.

          هذا الكتاب الصادرة ترجمته عن مركز الأهرام للنشر والترجمة, هو محاولة منهجية لدراسة الفساد وظروف انتشاره, وآثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وإمكانات مواجهته. أما محرر الكتاب ومؤلفوه فهم خبراء دوليون, وأساتذة جامعيون, وعلماء في السياسة والاقتصاد.

          ولا يدين هذا الكتاب, المجتمع العالمي الذي أصبح فيه الفساد نظاماً سائداً فحسب, وإنما يستعرض أيضاً الجهود الدولية المبذولة لمكافحته. ولعله يكشف عن جزء خفي من ظاهرة العولمة, حيث يصعب اليوم الحديث عن مشكلات محلية ليس للعالم شأن بها, بل أدرجت معظم القضايا كمشكلات دولية, حتى الفساد, ولو صمت عنه المجتمع المحلي, فهناك مجتمع عالمي يمكنه الآن أن يعاقب هذه الحكومة أو تلك إذا ما تمادت في الفساد أو تستّرت عليه.

          لقد انكشف الفساد لأسباب عدة: التغير السياسي المنتظم في ربع القرن الأخير, وتوازن القوى بين الحكام والجماهير, فالعالم يتحوّل إلى أساليب الحكم المفتوحة والديمقراطية نتيجة للوفرة والتعليم, وعصر المعلومات الذي ساهم في ظهور بيئة ثرية بالمعلومات, لم يعد القادة في ظلها قادرين على إخفاء تصرّفاتهم. فمنذ نصف قرن, أطاحت (ووترجيت) بالرئيس الأمريكي (نيكسون), وسقط العديد من الحكام المستبدين في أمريكا اللاتينية, واتخذ (جورباتشيف) من (الجلاسنوست) شعاراً لكل التغيرات التي شهدها الاتحاد السوفييتي ثم شرق أوربا.

          من ناحية أخرى, انتهت الحرب الباردة, ولم تعد هناك حاجة لحكم الأنظمة العسكرية, ودعم الجيوش والترسانات الوطنية المسلحة, وهي الأنظمة التي تقوم على السريّة والديكتاتورية والفساد, ولم تعد هناك حاجة لطغاة إفريقيا وآسيا الذين قمعوا مواطنيهم ونهبوا المصارف المركزية في بلادهم.

لصوص الخصخصة

          ينظر الكتاب إلى عمليات خصخصة الممتلكات العامة كأحد المصادر المهمة للكسب غير المشروع, من ناحية أخرى, أدى تعولم الاقتصاد إلى تعولم المشكلة, فيعمل النظام المالي الدولي المتشابك إلكترونياً على زيادة فرص الفساد, كما يتيح أيضاً فرصاً جديدة لفضح الفساد والسيطرة عليه.

          وتبقى أهم الجهود المبذولة هي محاولة إحكام السيطرة على مشكلة تقديم الرشاوى في معاملات الأعمال الدولية, حيث تسمح الكثير من الدول المتقدمة بتقديم الرشاوى, وتعتبرها الشركات جزءاً من نفقات المشروعات. وهي ممارسة أفسدت البلدان الصناعية بها حكام العالم النامي.

          وفي 1994, أقرّت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية توصية للدول الأعضاء لاتخاذ تدابير فعّالة لمكافحة تقديم الرشاوى للمسئولين العموميين.

          والمثير أنه رغم أن القانون الأمريكي كان يجرّم مثل هذه الرشاوى, فإن بيوت الأعمال الأمريكية في الخارج كانت تفرط في استخدامها كوسيلة لتسهيل أعمالها, لذلك: أضيرت بشدة من جراء هذه القوانين. ففي عامي 1994 و 1995 فقط, خسرت الشركات الأمريكية 11 مليار دولار, وتأثرت 60% من الشركات الأمريكية وتقلصت قدرتها على التنافس في الخارج نتيجة تطبيق هذه القوانين. إلا أن قادة الشركات الأمريكية الكبرى يرون أن لها فائدة إذا ما تم تدويل القوانين المناهضة للرشوة, وفي هذا الإطار, دعم الأمريكيون جهود المنظمات الدولية في مجال مكافحة الفساد.

          ولما كانت المكاسب غير المشروعة تعطي أمثال (ماركوس) و (موبوتو) و.. و.., حافزاً للتعلق بمقاعد السلطة حتى آخر لحظة ممكنة. فإن البلدان النامية تشكّل العثرة الأساسية ضد عولمة قوانين مكافحة الفساد وتنفيذها. على سبيل المثال, بادرت حكومة (جزر سيشيل) باستصدار قانون عام 1995 يعطي الحصانة للأجانب الذين يستثمرون أكثر من عشرة ملايين دولار ضد أي مخالفات جنائية, هذا القانون لا يتغير إلا باستفتاء وطني وتعديل دستوري!! وهو بمنزلة دعوة علنية لغسيل الأموال, ولزعماء عصابات المخدرات للنشاط في (سيشيل), ورغم رد الفعل الدولي ضدها, لم تلغ القانون.

          وتقرر (سوزان روز) في دراستها للاقتصاد السياسي للفساد, أنه يستشري عند خطوط التماس بين القطاعين العام والخاص. فكلما كان لدى مسئول عام سلطة توزيع منفعة أو تكلفة ما على القطاع الخاص,  تولّدت حوافز الرشوة. والشركات الخاصة دائماً على استعداد للدفع مقابل الحصول على هذه المنافع. وتشير الإحصاءات إلى أن  5% من مبلغ 90 مليار دولار تمثل حصيلة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم النامي دفعت كرشاوى, أي  4,5 مليار دولار سنوياً.

          وكلما كان للحكومة دور أكبر في إنتاج وبيع وشراء السلع والخدمات,  كان الفساد أشمل وأعم, وقد انطوت عمليات الخصخصة في الاتحاد السوفييتي السابق وفي الكتلة الشرقية والعالم النامي على عمليات دفع رشاوى وعمولات ضخمة, ويصل الفساد مداه برشوة القضاء والشرطة للتغاضي عن نشاط مقدمّي الرشوة. وعندما يكون الفساد متغلغلاً, تعم الرشاوى مقابل تيسير الخدمات اليومية للمواطنين, مثل الحصول على خط تليفون أو استخراج جواز سفر أو رخصة قيادة, وغير ذلك.

          فالفساد لا يؤدي إلى الظلم وقلة الكفاءة فحسب, بل أيضاً يقوض الشرعية السياسية للدولة, ويساهم في التنمية, وتوزيع المنافع بشكل غير متساو.

          أهم ما تقرره (سوزان) أن الفساد واسع الانتشار عرض وليس المرض نفسه, ولن تجدي محاولات القضاء على الفساد مادامت هناك حكومة أوتوقراطية جامدة. وتضيف: أن إصلاح الخدمة المدنية هو الخطوة الأولى لمكافحة الفساد, فإذا كانت أجور القطاع العام أقل بكثير من معدلات الأجور في القطاعات الأخرى, فلن ينجذب للعمل فيه سوى مَن لديهم استعداد لقبول الرشاوى, ولاشك أن الصحافة الحرّة وتقليل القيود المفروضة على حرية تبادل المعلومات وقوانين القذف. وخاصة تلك التي تعطي حماية خاصة للمسئولين العموميين, كل هذه الأمور مهمة في مواجهة الفساد.

المستبدون دائماً لصوص

          في دراسته عن العلاقة بين الفساد والاستبداد السياسي, يؤكد (مايكل جونستون) أنه بالرغم من عدم وجود نظام ديمقراطي خال من الفساد, فإن الأنظمة غير الديمقراطية أكثر فساداً. فالقادة في البلدان السلطوية غير معرّضين للمساءلة, كما يتلاعبون بقضايا الفساد.

          ويرى الكتاب أن أفضل طريقة لمكافحة الفساد, ضرورة إخضاع أعمال الحكومة للمساءلة والشفافية, والمراقبة الدولية والوطنية بشكل ديمقراطي لأعمال الحكومات والإدارات الوطنية,  ومشاركة الجماهير في الأمور العامة باعتبار أن الديمقراطية أفضل سبيل لتقليص الفساد والحدّ منه.

          أما البلدان التي لا تنعم بالديمقراطية, وشعوبها لا تملك مساءلة حكّامها, فليس أمامها سوى أن تستعين بتدخّل المجتمع الدولي وخاصة المنظمات غير الحكومية لفضح الفاسدين وتضييق الخناق عليهم.

          وعن التعاون الدولي والمبادرات الدولية لمكافحة الفساد, تقول (مارك بيث) في دراستها: إن بعض الاقتصاديين وقف ضد هذه المبادرات في السبعينيات بحجة أن الفساد مفيد وضروري للتنمية. بينما قال آخرون إن مشاق التعولم والمنافسة الدولية المتزايدة أصبحت هائلة بحيث إنه لم يعد بوسع دوائر الأعمال ببساطة أن تمتنع عن دفع الرشاوى كوسيلة ضرورية لترويج منتجاتهم في بعض الأسواق. وبالفعل تمكّنت هذه الحجج من تعطيل بعض المبادرات. منها على سبيل المثال, ما طرحه الأمريكيون في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 1989 لمكافحة الرشوة واتخاذ تدابير محددة من أجل ذلك, لكن الأمر استغرق خمس سنوات من المناقشات وقدراً هائلاً من الضغوط, وفي النهاية انتهوا إلى نص غامض وغير ملزم, يشكل مجرد توصية باتخاذ إجراءات لمنع الرشوة.

          ومنذ منتصف الثمانينيات تبذل أوغندا جهوداً مستميتة للقضاء على الفساد, لكنها لم تنجح إلا في الحد من نطاقه, ويرجع (أوغسطين روزيندانا) تعثر هذه الجهود إلى توطن الفساد وارتباطه الوثيق بالحكم الديكتاتوري. فبعد الاستقلال, تسلم الحكام الجدد نظاماً استعمارياً يدار بواسطة الاستخدام المفرط للقوة, وعملوا على استمراره بدلاً من تغييره ليكون أكثر تجاوباً مع الشعب. واستخدم قادة أوغندا الجدد الجيش والبوليس, للإطاحة بالمسيرة الديمقراطية, وسرعان ما برز الفساد, واعتمد التأييد المستمر للحكام على المحسوبية, وبدأت بعد الاستقلال مشاريع كثيرة لمكافحة الفقر والجهل والمرض, وترتب عليها توزيع المجاملات لكسب الولاءات. وانهارت نظم السيطرة والرقابة والمساءلة والإدارة خلال فترات الحكم الديكتاتوري, فضلاً عن انكماش الاقتصاد وتدهور مستويات المعيشة.

          وبحلول عام 1986, تولت حكومة (يوري موسيفيني) السلطة, وشرعت في مواجهة الفساد, لكنها لم تحقق نجاحاً إلا في وقف معدلات نموّه, ولاتزال الظروف التي تواجه البلاد تدعو إلى اليأس, كما يؤكد المؤلف في دراسته أهمية دور المجتمع المدني وحماية وسائل الإعلام الحرّة والمستقلة. شرط أن تكون وطنية المنشأ والأهداف.

          وفي النهاية, يتوجه الكتاب للمؤسسات الدولية, على شاكلة البنك الدولي, ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية, ومجموعة الثمانية, كي يتعاونوا معاً لاتخاذ إجراءات فعّالة لوقف الفساد, رغم أن هذه المؤسسات ذاتها لعبت ولاتزال تلعب دوراً في نشر الفساد على نحو ما يكشف الكتاب ذاته.

          ويشير المحرر (كيمبرلي آن إليوت) إلي أن المكسيك في أوائل عام 1997, فصلت أعلى مسئول فيها عن تنفيذ مكافحة المخدرات نتيجة لقبوله الرشاوى, وأغلقت الوكالة الخاصة بمكافحة المخدرات نظراً لتغلغل الفساد فيها. من ناحية أخرى أعلن رئيس جمهورية أوكرانيا الحرب ضد الفساد. وأعرب رئيس وزراء الصين عن جزعه لأن البلاد تعجز عن ملاحقة الفساد. وتعهد وزير خارجية روسيا آنذاك بأن يقضي على الفساد قضاء مبرماً. وقاطع الناخبون في باكستان مراكز الاقتراع بأعداد هائلة بعد أن خاب أملهم بفعل انتشار الفساد. وفي واشنطن اتهمت المدارس العامة بتفشّي الشللية والمحسوبية.

          فضلاً عن ذلك, ساهمت فضائح الفساد في السنوات الأخيرة في سقوط حكومات في إكوادور والبرازيل وإيطاليا والهند. ووهنت أحزاب حاكمة كانت راسخة القدم, منها الحزب الديمقراطي في اليابان, والحزب الثوري الدستوري في المكسيك. وفي الولايات المتحدة تعود قضية تمويل الحملات الانتخابية إلى البروز مرة أخرى بعد سنوات من فضيحة (ووترجيت).

          إن البلدان التي تعاني من الفساد تتنوع في أهميتها, وتتجاوز البلدان النامية, فالفساد ليس فقط مشكلة البلدان النامية وبلدان الكتلة السوفييتية السابقة, بل يمتد إلى بلدان أوربا الغربية واليابان والولايات المتحدة.

          كما أن التكامل العالمي المتزايد زاد من أهمية الفساد كقضية دولية, فمع التعولم الاقتصادي, فإن الآثار المحتملة للفساد على التدفقات الدولية لرءوس الأموال تتزايد هي الأخرى, كل ذلك يزيد من صعوبة القضية, ويفرض ضرورة التعاون الدولي لمواجهة الفساد.

          وفي النهاية, يقر المؤلفون أنه لا توجد سبل علاج سريعة أو بسيطة للفساد, لكن المساءلة السياسية والمنافسة الاقتصادية وزيادة الشفافية هي العناصر الأساسية التي تقلل فرص الفساد بصفة عامة.

 

كيمبرلي آن إليوت   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب