أرقام

  أرقام
        

بـعـد نـصف قرن?!

          كيف نرى العالم حين يتضاعف عدد سكانه, وحين تتجه غالبية هؤلاء لسكنى المدن والشواطئ بعيدا عما تعودوا عليه منذ آلاف السنوات?

          قراءة المستقبل وسط متغيرات كثيرة تحدث ليست سهلة, ومع ذلك فإن بعض الجهود العلمية تحاول أن تقرأ, وتفهم, وتحلل, وتجيب عن السؤال: ماذا ينتظرنا غدا?

          وحول الغد تقول دراسة أخيرة للبنك الدولي: إن عدد سكان العالم والذي يبلغ الآن نحو ستة مليارات نسمة سوف يصبح عام (2050) تسعة مليارات, ثم تتباطأ الزيادة ليصبح العدد نهاية القرن عشرة مليارات.

          تقول الدراسة نفسها - والتي صدرت في تقرير التنمية في العالم لعام (2003) إنه, وفي تاريخ قريب هو عام (2025) سوف يعيش ثلاثة أرباع سكان العالم بالقرب من سواحل البحار وعلى بعد يبلغ نحو مائة كيلومتر, وذلك بعد أن تدهورت - ومنذ الخمسينيات - نحو ربع الأراضي الزراعية والمراعي والغابات, وبعد أن سجلت الدراسات أن ما يقرب من ربع سكان العالم وبالتحديد (1.3) مليار نسمة يعيشون على أراض هشة قاحلة لا تكفي للإعالة ومن ثم, سوف يلجأ الكثيرون إلى البحر, وسوف يصبح ثلثا سكان العالم - وفي عام 2050 - من سكان المدن.

          إنها تحركات بشرية تحدث لأول مرة في التاريخ بهذا الحجم الذي يدفعنا لأن نقول: إنه عالم من المدن, أما العلة في ذلك فهي فقر الطبيعة التي لم تعد - وتحت ضغط تطورات بيئية مختلفة - تعطي كما كانت تعطي.. أي أن الناس يزيدون, والموارد تقل, المعادلة نفسها التي تنبأ بها عالم من قبل (مالتوس) حين قال إن سباق السكان والموارد حين يزيد الخلل, سوف يؤدي إلى كارثة.

          وبطبيعة الحال, فإن الجهود العلمية والطبية والاجتماعية حاولت أن تحد من تزايد السكان وهو ما يفسر أن تكون الزيادة المقدرة في النصف الأول من القرن الجديد ثلاثة مليارات نسمة, بينما لا تتخطى هذه الزيادة مليارا واحدا في النصف الثاني من القرن.

          لكن الجهود العلمية - والتي تحاول أيضا زيادة الموارد - وقفت عاجزة أمام ظروف فرضتها الطبيعة.

          العالم في حالة تزايد سكاني مستمر, والزحف إلى المدن يعني استهلاكا أكثر للطاقة والمياه والمساكن الحضرية والخدمات.. ولكن, وفي الوقت نفسه, فإن الموارد الطبيعية - وأبرزها المياه - في حالة عجز عن الوفاء أو إشباع لهذه الحاجات.

          سوف يزيد استهلاك المياه في العالم - وكما يتوقع البنك الدولي - بنسبة خمسين في المائة خلال ثلاثين عاما قادمة, لكن موارد المـــياه لا تزيد بالنسبة نفسها, بل إن أزمة مياه تنتظر العالم.

          وعلى غرار المياه, ولكن بنسب مختلفة, تتعرض كثير من الموارد المعدنية  القابلة للنفاد - إلى استنزاف مستمر, ابتداء من البترول الذي سوف ينحصر وجوده عند منتصف القرن في عدد محدود من الدول, وامتدادا لأنواع أخرى من المعادن وأنواع الطاقة غير المتجددة.

          هي الحرب إذن, من أجل كوب ماء, ولقمة عيش, وجدران مدينة تأوي السكان الجدد, أو حياة أفضل تتاح للمهمشين في العالم الذين يعيشون في مناطق قاحلة ويبلغ عددهم كما قلنا (1.3) مليار, وينمو هذا العدد بسرعة أكبر من أي مناطق حضرية أو زراعية تتوافر لها سبل الحياة.

          المأساة إذن قادمة, والشرق الأوسط يواجه ظروفا أسوأ من غيره.

عالمنا العربي

          يبلغ عدد سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (وهو التعبير المستخدم عند البنك الدولي والمنظمات الدولية): (295) مليون نسمة, لكنهم - وفي عام 2050 - سوف يصبحون (560) مليـــون نسـمة, وذلك مع انعـــدام الأمن المائي اللازم للحـــــياة اليومية, أو للحيـــــاة الاقتصادية والزراعة والصناعة.

          وطبقا للتوقعات فإن معدل نصيب الفرد من الماء والذي يبلغ (1200) متر مكعب في العام سوف يهبط إلى النصف خلال ثلاثين عاما.

          وربما يفسر ذلك صراع الماء بين إسرائيل وجيرانها, كما يفسر تجارب تحلية مياه البحر, أو نقل المياه من أقطار غير عربية مثل إيران والتي صممت مشروعا لذلك مــــع الكويـــت, بل إنه يفــســــر أيضا محاولة تركيا التحكم في مياه الأنهار التي تنبع من أراضيها وتروي كلا من سـوريا والعراق.

          ورغم ما يتنبأ به البعض من نشوب حروب عسكرية بسبب المياه في الشرق الأوسط, فإن خطرا آخر يهدد الجميع وهو خطر (الخصخصة) وبيع المياه كمادة خام مثل النفط وهو ما تدعو له بعض الهيئات كوسيلة لترشيد استهلاك المياه.

          الأزمة في الشرق الأوسط كبيرة, فهو الأعلى من حيث نسبة الزيادة السكانية, وهو الأعلى أيضا من حيث نقص المياه وعدد من الموارد الطبيعية, ووفقا للأرقام المتاحة فإن ثلث سكان الشرق الأوسط و(70) في المائة من فقرائه يعيشون في منظومات وصفها تقرير البنك الدولي بأنها (منظومات بيئية ريفية هشة), أي أنها لا تتمتع بظروف إنتاجية وحياتية جيدة.

          وهكذا, وإذا تأملنا أوضاع الوطن العربي في هذه الدائرة التي نتحدث عنها, وهي دائرة الشرق الأوسط فإننا كثيرا ما نجد أن دوله تتأرجح بين فقر الدخل وفقر الموارد, وكلتا المجموعتين تحملان مستقبلا خطرا إذا لم تتغير السياسات القطرية وسياسات التكامل العربي - العربي, ولكن في المجموعتين يبدو تحدي سوق العمل كبيرا, فبالنظر إلى التزايد السكاني الكبير فإن المطروح في سوق العمل سوف يحتاج إلى نمو أسرع في فرص العمل, ومن ثم نمو أسرع في معدلات الادخار والاستثمار, وذلك على عكس ما كان في الحقب الأخيرة التي تدهورت فيها نسب النمو ومعدلات الاستثمار الجديد ووقف فيها الشرق الأوسط - لعوامل سياسية وإدارية - في ذيل المناطق التـي تتلــــقى استثــــمارات دولية.

          وهكذا, فإن مشكلة البطالة تطل من الآن, رغم تزايد نسبة التعــليم, ورغم وفرة رءوس الأموال التي لا تجد مجالا لها للعمل إلا عبر الحدود, وخارج المنطقة العربية, فماذا عن المستقبل إذن?

هذه الروشتة

          يرصد البنك الدولي السلبي والإيجابي في الوضع الراهن, ويمد البصر للأمام فيقول إن الاقتصاد العالمي سوف ينمو بنسبة أربعة أمثاله مع تخفيض عدد الفقراء خلال الخمسين عاما المقبلة, لكن أثر ذلك قد يتبدد تحت تأثير سوء توزيع الدخل وفرص الحياة, فخلال الأربعين عاما الماضية اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم, وأصبح متوسط دخل الفرد في العام الماضي في أغنى عشرين بلدا في العالم يعادل (37) مرة متوسط دخل الفرد في أفقر عشرين بلدا, ولنا أن نتصور أن فرصة إنسان يولد في الشمال تعادل فرصة من يولد في الجنوب (37) مرة سواء في المأكل أو المشرب أو المسكن أو الصحة أو التعليم!!

          وسوف يستمر هذا الخلل المزدوج (خلل توزيع الدخل وخلل نقص الموارد الطبيعية قياسا لحاجة السكان), سوف يستمر إذا لم تتعدل السياسات, والتي يرى تقرير (التنمية في العالم) أنها تبدأ بدور للدول النامية التي ينبغي عليها أن تعزز المشاركة الديمقراطية, وتعيد بناء مؤسساتها من أجل إدارة أفضل للموارد.

          بعدها, يأتي دور البلدان الغنية والتي يتعين عليها زيادة المعونات, وتخفيض ديون البلدان الفقيرة, وفتح أسواقها أمام المصدرين من البلدان النامية, والمساعدة في نقل التكنولوجيا اللازمة للوقاية من الأمراض وزيادة كفاءة استخدام الطاقة وتعزيز الإنتاجية الزراعية.

          وتمتد الأدوار للمنظمات المدنية ومنظمات القطاع الخاص.

          السؤال: هل يحقق ذلك طوق نجاة? وهل يحقق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية التي وضعتها لتكون هاديا للعالم حتى عام (2015)?

          لقد تصورت برامج الأمم المتحدة أنه في هذا الأجل القريب (2015) سوف يتم تخفيض نسبة من يعيشون على دولار واحد في اليوم إلى النصف وأن تنخفض نسبة الجوعى إلى النصف أيضا, وأن يتمتع كل أطفال العالم بالتعليم الابتدائي, وتزال الفروق بين الجنسين تماما في مراحل التعليم, وأن تنخفض نسبة وفيات الأطفال دون الخامسة بنسبة الثلثين.

          إنه برنامج لتقليل نسبة (البؤس) في العالم في عام (2015), فكيف تكون الصورة عام (2050)?

          حرب الطبيعة والإنسان بما تعنيه من نقص في الموارد سوف تستمر, لكن حربا أخرى لا ينبغي إغفالها وهي حرب العلم والتي تسير في اتجاه عكسي.

          لقد جاءت الهندسة الوراثية لتقول لنا إن إنتاجا أكثر, بل إنسانا أفضل يمكن أن يوجد في القرن الجديد بواسطة هذا العلم.

          وجاءت من قبلها وبعدها - علوم الذرة لتقول إنها تستطيع الإسهام في شئون الحياة كما تستطيع الإسهام في شئون الحرب. إنها إمكانية تكنولوجية في الصناعة والزراعة والطب وعلوم الطاقة.

          أيضا, فقد جاءت أبحاث الفضاء لتقول إن للإنسان نصيبا من (الإنتاج الفضائي) إن جاز التعبير, وإن بعض ما تقدمه هذه الأبحاث يجري ليفيد الحياة الاقتصادية على الأرض وليس لمجرد تسلق الكواكب الأخرى وإشباع فضول علمي.

          ثم جاء الكمبيوتر وثورة المعرفة التي تساعد على نقل الخبرة وإشاعة الديمقراطية.

          أليست هذه كلها أدوات في الحرب المضادة لأزمة (السكان والمواد)?

          أظن ذلك.

          ولكن سوف يظل العالم الثالث محكوما بهذه الأزمة مادام الشمال الغني والقادر اقتصاديا وتكنولوجيا هو المثال والنموذج, فأي إمكانية اقتصادية أو إدارية أو تكنولوجية لدى دول هذا العالم النامي لكي يلحق بالعالم الأول?

          لا أظن, وباستثناء دول معدودة, أننا سوف نلحق بالأوائل, وأظن أن الطريق للنجاة هو بناء نموذج حضاري, ومعيشي, واستهلاكي, وتنموي مختلف.

          أساسيات الحياة معلومة للجميع: غذاء, وكساء, ومسكن, وفرصة صحة وتعليم وثقافة وقدر من الترفيه.

          وأساسيات الحياة - على مستوى الدول - استقلال وأمن وتنمية وإدارة رشيدة للمجتمع والدولة.

          وكلا الأمرين, على مستوى الفرد أو الدولة, لايشمل آخر موديل من السيارات, أو الفضائيات, أو أدوات التجميل!

          كلاهما لا يشمل امتلاك قنبلة نووية, أو ترسانة سلاح كثيرا ما تمثل عبئا اقتصاديا ولا تمثل عائدا أمنيا!

          وكلا الأمرين, على مستوى الفرد أو الدولة, لايشمل بالضرورة ارتفاع فاتورة (الاتصالات) عن طريق المليارات التي يستنفدها اختراع باهر وجميل هو: المحمول, لكنه غير لازم لكل الأفراد!

          إن الكثير من العادات الاستهلاكية - ومن ثم أنماط الإنتاج والتجارة الخارجية - يأتينا من الغرب وندفع ثمنه على حساب بنود قد تكون أكثر أولوية مثل: الصحة أو التعليم.

          والأكثر أن فنون الإنتاج أيضا, والأكثر تقدما, قد لا تكون دائما هي الحل لمشاكلنا فالأرقام تسجل أنه كلما تقدمت التكنولوجيا تفاقمت مشكلة اليد العاملة, وعلى العكس وحين زادت الدعوة للصناعات الصغيرة فإن ذلك كان يعني: القناعة بتكنولوجيا بسيطة وغير مكلفة.

          باختصار, وإذا أرادت دولنا - دول الجنوب, وفي القلب منها الدول العربية, أن تعيش حياة كريمة في عام (2015) أو (2050) أو في أي تاريخ لاحق, فإن عليها أن تبني نموذجها الخاص وألا تندمج في هذه اللعبة الخطرة لعبة العولمة والحدود المفتوحة والاستهلاك (اللامتناهي).

          سوف نفتح الحدود لنزداد فقرا, ولكن أهلا بالانفتاح إن كان يعني الحصول على استثمار وتكنولوجيا وفرص تعاون حقيقية.

          قيل قديما المثل الصيني: (خير أن نعطيك سنارة.. من أن نعطيك سمكة).

          والعالم الثالث الآن ومع متغيرات دولية كثيرة لم يعد يحصل لاعلى السنارة ولا على السمكة.

          الخطر قائم كما يقول البنك الدولي, والحل عندنا: إدارة مختلفة لشئون الشعوب والدول, في علاقتنا بالذات, وبالآخر أيضا

 

محمود المراغي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات