شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ
        

(خاين بك).. والزحف العثماني!

          عرفه التاريخ باسم (خاير بك).. ولكن الرواة من أولاد البلد المصريين الذين برعوا في فن التنكيت وتحوير الأسماء لتنم عن أصحابها وما جبلوا عليه من صفات.. سموه (خاين بك). والحق إنهم لم يكذبوا أو يدعوا عليه ما ليس فيه.. فقد كانت الخيانة كامنة في أعماقه تسري في عروقه مسرى الدم. ولا بدع في هذا الوصف لمن خان عهده وسلطانه وأمته وغدر بهم غدرا لم يكونوا يتوقعونه من أجل أن يصعد على أكف هذه الخيانات لارتقاء سلم الترقي والجاه والمجد الزائف حتى أشرف منه على السقوط إلى أسفل سافلين بعد أن أصبح جبارا عنيدا سفاكا للدماء مناعا للخير مسرعا إلى الشر..!

          (خاين بك) هذا.. أو (خاير بك) له قصة يحكيها التاريخ.

          هو جركسي الجنس من مماليك الأشرف قايتباي. وكان من المماليك السلطانية في مصر ثم أعتقه سيده وعينه في بعض مناصبه المهمة حتى بلغ من الجاه والمجد والسيادة حدا كان يحسد عليه وبخاصة حين أصبح أحد عظماء الأمراء الجراكسة. وتقلبت به ظروف حياة جادة حتى بلغ بحيلته عليها ما لم يبلغه سواه, وأتى عليه حين من الدهر كان نائبا على مصر أشبه بالسلطان منه بالأمير. ولكنه لم يسلك إلى مجده سبيلا مشرفا. إذ كانت الخيانة متأصلة فيه, فاستخدم أخس ضروب الحيلة وسلك أحط المسالك والسبل حتى ليصح اعتباره وصمة عار في تاريخ الأمراء الجراكسة ونقطة سوداء في جبين مصر, رغم أنه صار أمير جيش في دولة الناصر بن قايتباي, فأمير طبلخانة, ثم بعثه السلطان الناصر مبعوثا من قبله إلى السلطان العثماني الذي رحب به وأكرمه. فلما قتل الناصر انقلب السلطان العثماني على خاير بك وأساء معاملته وأمر بسجنه.

بداية سلسلة الخيانات

          حين عاد خاير بك إلى مصر كانت السلطنة قد آلت إلى الأشرف الغوري الذي أطلق سراحه, وأنعم عليه وعينه حاجب الحجاب ثم ولاه نائبا عنه على حلب حيث أصبح الشام كله في حوزة مصر. واستمر نائب السلطان هناك اثنى عشر عاما حتى وقعت الواقعة بين الغوري سلطان مصر وسليم الأول سلطان العثمانيين, حيث كان الغوري قد أجار (فرقود) أخ سليم الذي نجا من مذبحته التي قضى فيها على كل إخوته حتى لا يزاحموه في السلطنة. وأرسل سليم إلى سلطان مصر يطلب منه تسليم أخيه فأبى أن يمكنه منه. ومنذ تلك اللحظة بدأ مسلسل الخيانات التي راح يقترفها (خاين بك)!

          خرج الغوري (عام 1516م - 921هـ) للقاء خصمه في الديار الشامية والحلبية ونزل في حلب, حيث استقبله نائبه (خاير بك) الذي عينه السلطان قائدا على ميسرة الجيش المصري الزاحف لملاقاة السلطان العثماني. وحتى يمسك العصا من الوسط تبادل (خاين بك) الرأي مع صاحبه (جان بردي الغزالي) والأمير سيباي نائب الشام وأخبرهما أنه سيحاول إقناع سيده بأن يبعث رسولا منه إلى سليم لعله يزيل ما بينهما من جفاء حقنا لدماء المسلمين. وفي الوقت نفسه أرسل (خاين بك) بالأمر إلى السلطان سليم الذي كان يتبادل معه الرسائل سرا ليضمن مكانه في حلب إذا انتصر العثمانيون على الغوري وجيشه. ووقف الرسول ومعه عشرة من خيار العسكر في ملابس فاخرة مزينة بشرائط الذهب - حسب نصيحة نائب حلب لسيده - بين يدي السلطان سليم الذي امتلأ غيظا وقال له: (ألم يكن أمام أستاذك رجل من أهل العلم يرسله لنا فأرسلك بهؤلاء المماليك العشرة يرعب بهم قلوب عسكري ويخوفهم برؤية أجناده? ولكن أنا أكيده بمكيدة أعظم). وأمر سليم بالمماليك العشرة ليشنقوا وأعاد الرسول إلى الغوري بعد أن حلق ذقنه وألبسه طرطورا وأركبه حمارا أعرج معقورا. وحين شهد ما جرى لرسوله وأجناده أمر الغوري بأن تخرج قواته من حلب وتتهيأ لقتال العثمانيين. ولم يحتمل نائب الشام سيباي ما حدث فقبض على (خاين بك) وجره بين يدي السلطان الغوري قائلا له: (يا مولاي السلطان إذا أردت أن ينصرك الله على عدوك فاقتل هذا الخائن). ولكن الغوري لم يفعل إذ سمع إلى رأي جان بردي الغزالي رفيق خاير بك بقوله: (يا مولانا السلطان لا تفن العسكر وتدعهم يقاتلون بعضهم بعضا فيزداد طمع عدوكم فيكم وتضعف شوكتكم والرأي لكم..!). واقتنع الغوري بهذا الرأي فأبقى على (خاين بك) دون أن يمسه بسوء كان أجدر به قبل أن تزداد خياناته..!

الخيانة والهزيمة!

          وتتوالى الخيانات...

          فعندما التقى الجيشان في موقعه (مرج دابق) كادت الهزيمة تحيق بالعثمانيين أولا ويكتب النصر لجيش مصر. ولكن خاين بك نائب حلب والذي عين قائد الميسرة.. انسل تاركا ميسرة الجيش متظاهرا بالهزيمة - وهي جزء من برنامج متفق عليه بينه وبين العثمانيين لخيانة بلاده وسلطانه بفتح ثغرة قاتلة في صفوف الجيش المصري نفذ منها السلطان سليم وقواته إلى قلب جيش السلطان الغوري.

          كان الجيش المملوكي منقسما على نفسه, والصراع الأشد بين مماليك (الجلبان) (الذين جلبهم واشتراهم الغوري) وبين مماليك (القرانصة) (وهم الأقدم في الخبرة وتربوا على السلاح منذ الصغر). وكان خطأ الغوري أنه قدم القرانصة للقتال واحتفظ بمماليكه الجلبان حوله لا يتحرك منهم أحد. وأثار ذلك الفرقة بين القوتين حتى أن الذين كلفوا ببدء القتال اتجه أمراؤهم إلى السلطان قائلين: (نحن نقاتل بأنفسنا ضد النار التركية وأنت واقف تنظر إلينا كالعين الشامتة كأنك تبغي التخلص منا فلا تأمر أحدا من مماليكك للخروج إلى الميدان..!?).

          وإذا استشعر سليم العثماني انتشار الفرقة بين أجناد الغوري انقض مخترقا الصفوف إلى قلب الميدان حيث السلطان المملوكي. وفي اللحظة نفسها كان خاين بك المتآمر على سيده ينادي بأعلى صوته في جند السلطان هاتفا: (الفرار الفرار.. لقد أحاط بكم جيش سليم العثماني وقتل الغوري وانكسرت قواتنا وهي بلا قائد.. فليتبعني من يريد الحياة منكم إلى حلب)! وتشتت العساكر وقد خدعوا بنداء المنادي وظنوا أن سلطانهم قد قتل بالفعل فألقوا سلاحهم وأسرعوا خلف خاين بك الذي فعل ذلك اتفاقا مع العثمانيين وخيانة ومكيدة في سيده وسلطانه الذي وجد نفسه يقاتل وحده وما من أحد حوله من الأمراء سوى أمير لوائه والقليل من العسكر. ووقع الغوري على الأرض مغشيا عليه وقد أصابه الفالج.. بينما انقضت قوات سليم على من بقي من المماليك الجرحى يقتلونهم ويمثلون بهم.. وداست حوافر خيولهم على السلطان الغوري تمزق جسده وتقطع رأسه لينتهي بمقتله عصر سلاطين المماليك!

الخيانة حتى للخليفة!

          كان خاين بك قد ذهب إلى حلب وتبعه من ولوا ظهورهم لسلطانهم. ولكن أهلها الذين بلغتهم أنباء المعركة قابلوه دون ترحيب ورفضوا دخول العائدين معه من المماليك الهاربين من القتال. ومن أجل ان ينتقم من حلب وأهلها أرسل إلى السلطان سليم يدعوه إلى دخول المدينة التي كانت تحت إمرته في ظل وجود الغوري ولكنه حذره من أنه لا يخشى عليه الا من المشايخ الذين كانوا قد جاءوا مع سلطانهم وأقاموا في حلب وأصبح يملؤهم الغضب لما علموه من انكسار الغوري ومقتله.

          وحين جاء سليم إلى المدينة أمر بإحضار المشايخ بين يديه وقتلهم عن آخرهم وكانوا يزيدون على ألف رجل. وكان المشير له بذلك هو خاين بك الذي انتهز الفرصة ليقنعه بأن الطريق إلى القاهرة قد أصبح مفتوحا أمامه وأن مصر الزاخرة بالخيرات والأسلاب تستقبله استقبال الأبطال. قال خاين بك للسلطان العثماني عندما استشعر تردده: لن تستطيع مصر أن تقف في وجه السلطان المنتصر, كما أن الخليفة العباسي الذي يقيم بها إنما هو أضعف من الآخرين وسيمتثل لأمر السلطان العثماني الجديد!

          قال سليم: وما لي والخليفة العباسي الضعيف?

          رد خاين بك: ليس المهم الخليفة وانما ما توارثه من الخلفاء ومنه ذهب الخلافة والآثار النبوية والأمانات المقدسة التي تؤكد الشرعية لمن يملكها. ولم لا تكون أنت الخليفة على المسلمين?!

          قال السلطان العثماني وقد أغراه الحديث: ولكن كيف لي بأخذ مصر وجميع المماليك الجراكسة قد اجتمعوا بها وسلطنوا عليهم طومان باي نائب الغيبة للسلطان الغوري المقتول?

          أجاب خاين بك: نركب إلى مصر قبل أن يستعدوا فنأخذها ونقطع طائفة الجراكسة نهائيا..!

          ولم يجد السلطان سليم ما يمنعه من استغلال تلك الفرصة ليدخل مصر ويضمها إلى الدولة العثمانية!

على باب زويلة

          برغم اقتناعه فقد استشعر سليم بأن الحرب ضد المماليك وعلى أرض مصر لن يكون وراءها غير الهزيمة والخراب. وبعد أن فكر مليا عزم على العودة إلي بلاده واضطرب خاين بك لدى سماعه هذه الرغبة من السلطان لأنها ستقضي على طموحاته فقال:

          يا مولاي السلطان, إن فعلت هذا سقطت من أعين الملوك ويقولون هرب من الجراكسة, ولكن لماذا لا ترسل إلى طومان باي تدعوه لوقف القتال على أن تكون السكة والدعاء لك في المساجد?!

          عندما تلقى طومان باي هذه الدعوة رفضها وقرر السلطان سليم مواصلة الحرب.

          والتقى الجيشان عند (الريدانية) قرب القاهرة وكادت الهزيمة تلحق بالعثمانيين في 22 يناير 1517م.

          وفي اثناء القتال قصد طومان باي وبعض الشجعان مركز قيادة سليم وقتلوا من حوله وأسروا وزيره سنان بك وقتله السلطان بيده ظنا منه أنه سليم العثماني. ولكن شجاعة المماليك لم تنفعهم إذ تغلب عليهم الجيش العثماني بمدافعه ونيرانه. وبعد ذلك بثمانية أيام دخل العثمانيون مدينة القاهرة رغما عن مقاومة المماليك الذين حاربوهم من شارع لشارع وكانت حصيل القتلى خمسين ألف نسمة. أما طومان باي ومن بقي معه فالتجأ إلى عرب بر الجيزة وصار يناوش أعداءه ويقتل كل من يأسره منهم.

          ولكنه لم يلبث أن وقع في أيدي العثمانيين بخيانة من معه وبينهم الأعراب وزعيمهم حسن بن مرعي الذين كان خاين بك قد دفع لهم أكياس الفضة مع الوعد بالمزيد من السلطان عندما يقدمون أسيرهم إليه.

          عندما أدخلوا السلطان الأسير على سليم وحوله خاير بك والغزالي راح يعنفه ويقول له:

          - أما نهيناك عن القتال وأرسلت إليك أن تجعل السكة والخطبة باسمي فأبيت وقتلت رسلي? وهكذا التقت جيوشنا بجيوشك في الريدانية وأرسلت لك قضاتك رسلا فلم تقبل الصلح وقتلت الرسل?

          أجاب طومان باي: إن قتل رسلك لم يكن بأمري وإنما جرت به المقادير, أما عن زوال دولتنا وإقبال دولتك فذلك شيء كتبه الرب القدير ولا يغلب الله غالب, ولولا ذلك لما قدرت أنت ولا غيرك على أخذ بلادنا, وهأنتم رأيتم كيف فعلنا مع عسكركم وكسرناهم أكثر من مرة. وما وقعت بين يديك إلا عبر خيانة الخائنين. وأما قولكم إنكم كنتم تريدون السكة والخطبة باسمكم فقد والله ما أخذت السلطنة برغبتي إنما قومي وعسكري اختاروني ووجب علي أن أرد عنهم وأدافع عن أموالهم وأنفسهم وأولادهم.

          قال سليم: أنا ما جئت عليكم إلا بفتوى علماء الأمصار عندما أراد سلطانكم الغوري مهاجمة بلادي فكان علي أن أدافع عن موروث آبائي وأجدادي وسلطنتي. والسلطنة لا تكون ولا تليق إلا برجال يكون آباؤهم وأجدادهم سلاطين. وأنتم مماليك بلا عتق تجعلون الواحد منكم سلطانا ثم تعزلونه وتقتلونه.

          فمن أجاز لك أن تقتل عسكري وقد قتلت من قتلت من رجال المسلمين?

          أجاب طومان باي: مراعاة الله تعالى أجازت لي ذلك وهو أصدق القائلين فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .

          تدخل خاين بك قائلا: والله ما كان قصد السلطان أذيتك وكان في نيته الرجوع إلى بلاده لولا أنك رفضت الصلح على أن تجعل له السكة والخطبة وهو أحق بها من الجراكسة المماليك!

          أجاب طومان باي: أنت قلتها يا جركسي. فالنفوس التي تربت في العز لا تقبل الذل. ونحن قوم قد خصنا الله سبحانه وتعالي بذلك ما دمنا لا نتآمر ولا نخون. وأقولها لك أيها السلطان إن هذين المتبرئين من جنسهما كانا مجلوبين مثلي واشترانا السلطان قايتباي من النخاس. وأنا أعرف أنه لن يكون أضر لك من هذين الشيطانين الخائنين فإنه لو كان فيهما خير لكان لنا..!

          قال السلطان سليم في إعجاب للحاضرين: والله مثل هذا الرجل لا يقتل فأخروه حتى ننظر في أمره. يقول المؤرخ المعاصر الرمال انه علم من محمد ابن السلطان الغوري الذي كان حاضرا المجلس (أن السلطان سليم لم يكن في نيته قتل طومان باي وإنما كان السبب في ذلك خاير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي, فإنهما لما رأيا أن سليما لم يسهل عليه قتله وكان يريد أن يأخذه معه إلى بلاده ويبقيه رهينة بعد أن يستحلفه الأيمان المغلظة وقد ثبت عنده دينه وصلاح أمره, اتفقا معا على تدبير الحيلة لدى السلطان ليحسنا إليه قتله. فكتبا إليه ورقة قالا فيها: فليعلم مولانا السلطان أن أهل مصر والشام لم يصدقوا أن سلطانهم قد سلم نفسه. ولتعلم أنك متى أبقيت عليه فقد ضيعت لقبك وسفرك وهلاك عسكرك. فإنك فور أن تسافر يخرج للناس فيفسدهم عليك بالعطاء وتندم حيث لا ينفع الندم. فإن أردت أن تطيعك الممالك والبلاد فعجل بهلاكه واصلبه على باب زويلة ليراه الخاص والعام وتيأس الناس من بقائه وتطمئن على نفسك وتملك هذا الإقليم العظيم وتأخذ كل ما في مساجده من النفائس والأمانات المقدسة)!

          وكان هذا هو ما فعله السلطان سليم بالفعل, فقد شنق طومان باي على باب زويلة وترك جسده يتدلى لعدة أيام ونقل قلب الإسلام من القاهرة إلى القسطنطينية وأخذ معه آخر خلفاء بني العباس إلى بلاده وجعله ينزل عن الخلافة للعثمانيين ويسلم سليم كل الآثار الإسلامية التي توارثها عن الخلفاء العباسيين تأكيدا لشرعية توليه خلافة المسلمين. وكافأ السلطان سليم خونة الأمراء المماليك الذين عاونوه في خطة فتح مصر. وعين خاين بك نائبا عن السلطان في القاهرة ومنحه لقب ملك الأمراء. ولكن القدر كان له بالمرصاد فقد لقي أبشع نهاية كتبها الله عليه نظير خياناته المتعددة وأصيب بوباء الطاعون وانفتحت كل مسام جسمه ومنافذه لتخرج منها الديدان. فما مضت أعوام حى قضى ودفن في مقابر باب الوزير, وقيل إن الناس ظلت تسمع صراخه في القبر وهو يصيح طالبا الغفران لسنوات طويلة تالية!.

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات