المرأة وريشة الفنان زينب عبدالعزيز

احتفلت ريشة الفنان التشكيلي بالمرأة على مر العصور، في محاولة لتخليد بعض إيقاعات ملامحها المتعددة.. ولا يتسع المجال هنا إلا لتناول شذرات من تلك الملامح، وإن كانت تمثل في حد ذاتها علامات على الطريق.

تعد لوحة "الجيوكاندا" والمعروفة أيضا باسم "موناليزا" للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452-1519)، قمة ما وصل إليه عصر النهضة من تعبير إنساني، هادئ السحر والغموض، ما زالت تستوقف المشاهد لها جتى في يومنا هذا، وكأنها حوار ممتد عبر الزمان والمكان.. أما لوحة "المرأة الباكية" للفنان بيكاسو فتعكس بلا شك ما وصل إليه الفن الحديث في أوربا، وما آلت إليه انفعالات المرأة في خضم معاناتها الطاحنة مع مجتمع لا يرحم..

المرأة الحالمة

يوشوا رينولدز (1723- 1792)
لقد صوب رينولدز نظراته الفنية إلى البريق المتلالئ للصالونات الفاخرة والحدائق الغناء الممتدة، منتقيا نماذجه الإنسانية بين صفوف المرأة الأرستقراطية البريطانية.. وعبر مشوار فني متواصل العمل توصل إلى أن يكون مصور المرأة في القرن الثامن عشر.. المصور المتألق، الرهيف الحس، الهادئ الخلجات..

إلا أن المرأة الحالمة، ذات الجمال الساكن في ردائها الشفاف الأبيض، أو تلك التي تختال وسط الزهور وظلال الحدائق اليافعة المليئة بالتماثيل والنافورات، لا تمثل كل اهتمامات الفنان، أو الجانب الوحيد الذي اشتهر به. فقد التفت أيضا إلى المرأة - الأم، إلى ذلك النبع الدائم الحنان، المتدفق في سكينة واطمئنان، وإلى ذلك البرعم الذي يحمل آفاق الغد ..

وقد اعتلى رينولدز- ابن القس المتواضع - درجات الشهرة بخطى واسعة، تعتمد على قدراته الفنية الإبداعية، والعمل المتواصل، والهدف الواضح المعالم منذ بداية الطريق.. فوصل إلى منصب رئيس الأكاديمية الفنية التي أسسها، وإلى لقب أشهر فنان يعبر عن المرأة وعن الطفولة، ليس في بريطانيا فحسب، وإنما في كل أوربا.

وربما كانت أهم سمات تعبيره الفني هي تلك التلقائية الفطرية الشديدة الحساسية، والتي كانت تصل به إلى حد المعاناة.. لذلك لم يخطئ الذين وصفوه قائلين: "إن مقدرة رينولدز الفنية هي تتويج رائع لإرادة الإنسان"..

الإسبانية.. عاشقة ومتحدية

فرنشنسكو سجويا (1746- 1828)
إن كان الفنان الإسباني جويا قد عاصر رينولدز في فترة ما من حياته، إلا أن قدراته الفنية وتطلعاته الإنسانية تختلف عنه كلية. وعلى الرغم من أن جويا يعد من أشهر فناني القرن الثامن عشر، إلا أنه كان أول من أطل على القرن التاسع عشر وفتح آفاقه الشاسعة.. تلك الآفاق التي امتدت أصداؤها حتى التأثيريين. فبينما كانت إسبانيا آنذاك تعاني من الاضمحلال الفني، كانت روح جويا الوثابة الجامحة تتدفق بالحيوية والشباب، معلنة العصيان على كل ما هو قائم!.

ومن الوهلة الأولى يبدو جويا ثوريا ثائرًا، بارعا في تناول السيف أو الريشة! ومنذ أول طريقه الفني لم يهتم جويا بالتعبير عن إسبانيا الغامضة بتعصباتها الدينية، وإنما راح ينهل من ملامحها المتألقة الصاخبة الألوان، سواء في البلاط الملكي أو في أعيادها الشعبية.. معبراً عن تلك الملامح المتدفقة التي تهوى المرح واللهو، وتعيش نبضات الحب، وتغوص في المعاناة والأحزان..

ويعد جويا أفضل من عبر عن المرأة الإسبانية العاشقة المتحدية، ولعله استطاع التعبير عن تلك الأعماق الدافئة من كثرة معايشته للمرأة وحبه الهائم لها وبها.. والمرأة في لوحات جويا تمثل تلك البسمة المضيئة التي توازن ذلك الهجوم الساخر الذي شنه ضد مفاسد السلطة أينما كانت حتى في الكنيسة.

ولقد اهتم جويا بالتعبير عن المرأة في عمره من خلال مختلف مجالاتها ومستوياتها الاجتماعية، من قمة البلاط الملكي، حتى غياهب الطبقات الشعبية وأساطيرها.. وانعكست هذه الرؤية على أسلوبه الذي تدرج من النعومة المرهفة إلى العنف الجامح السواد..

المرأة الشرقية

أوجين ديلاكروا (1798- 1863)
إذا ما كانت رياح الرومانسية قد هبت من مختلف بلدان أوربا لتخترق فرنسا وتتجمع في أعماقها، فلا شك في أن الفنان ديلاكروا هو الذي استطاع بلورة معطياتها في شحنات خلاقة عارمة، جعلت منه زعيما متوجا لهذا المذهب! ذلك أن لوحاته تتدفق بالمشاعر الفياضة والحركة الدائبة، والألوان المتألقة في حيوية صاخبة، يكاد المرء يسمع شهيق موارها وتطاحنها، وصهيل أحصنتها، وزئير أسودها وسط قرع رماحها والدماء المتدفقة..

ولقد اشتهر ديلاكروا بتصوير النمور الهائمة أو المتحفزة، والمعارك الضارية، وجحيم الصراعات القاتلة، والأساطير المتوارثة أو الأحداث المعاصرة. ولعل تلك الرؤية العنيفة الرؤيا ترجع إلى أن أحداث حياته كانت في مطلعها بنفس العنف الصاخب. ففي الثالثة من عمره كان قد تعرض للشنق والحرق والغرق والتسمم والاختناق! وإن كانت كلها أحداثاً من قبيل الخطأ أو السهو أو الجهل..

ورغم شهرته بالقدرة على التعبير عن تلك الموضوعات المتنوعة، إلا أنه كان من الفنانين الذين اهتموا بالتعبير عن المرأة واستعانوا بإلهاماتها المتعددة. ولعل لوحات مثل "الحرية تقود الشعب"، و"اليونان تحتضر في معركة ميسولونجي"، و"مذبحة سكيو" و "امرأة وبغبغان"، و "نساء جزائريات"، هي لوحات تمثل بعضا من الموضوعات التي تحتل فيها المرأة الصدارة رغم التنوع الشديد والاختلافات الواضحة في الموضوع والتكوين، إلا أن اللوحة المعروفة باسم "يتيمة في المقابر" تمثل قمة فريدة في أعماله.. إنسانة وحيدة وسط القبور، لا تملك سوى دموع تحجرت في مآقيها، ونظرة مشحونة تحمل كل ما لا يمكن للكلمات أن تعبر عنه من وحدة موحشة وضياع وتساؤل واتهام وإدانة لتلك السماء التي تصوب إليها نظراتها الخرساء..

امرأة المقاهي

تولوز لوتريك (1864- 1901)
يعد الفنان الفرنسي تولوز لوتريك من الفنانين القلائل الذين لم يهتموا إلا بالتعبير عن الإنسان في بساطة شديدة. فعلى حد تعبيره: "الإنسان فقط هو المهم، والطبيعة لا توجد إلا كعنصر مساعد، يجب أن يقتصر دورها على المزيد من فهم وتوضيح طابع الإنسان"..

ولقد اهتم بالفعل بالتعبير عن الإنسان، سواء أثناء تحركاته المختلفة أو أثناء جلسات الراحة الهادئة، كما صوره في أعنف توتراته النفسية، أو في استرخائه واستكانته، وذلك عبر تخليد لحظات زمنية معينة ترتسسم على الوجوه، أو في حركات دائبة، تعكس رؤيته المميزة الزاوية والإضاءة. لذلك تعد أعماله خير تجسيد لمرحلة زمنية بعينها، بكل ما بها من جموح وروعة عابرة وقلق حزين الإيقاع. أي أنها أعمال تمثل ذلك الجو الذي تميز به حي مونمارتر بباريس في أواخر القرن الماضي.

فما أن تذكر تلك الحقبة حتى ينبثق اسم تولوز لوتريك ليتداخل مع لوحات مقهى "مولان روج" (الطاحونة الحمراء)، وراقصات الـ "فرنش كان كان". فمن خلال موضوع فتيات الليل - وكان أول من يفرد له هذا الكم من اللوحات - استطاع لوتريك أن يعبر عن الجانب الآخر للبريق العابر وومضاته السطحية، ويغوص في أعماق تلك النفوس البشرية التعسة..

ولم تستطع المناقشات الفنية الحامية الدائرة من حوله أن تجذبه إليها، ولا أن تجعله يحيد عن اختياره. فقد كانت التأثيرية في أوجها ومذاهب الرمزية والانفصالية والانقسامية تتجاذب أفراد الساحة الفنية آنذاك. ولم يشترك لوتريك في أي منها، بل ولم ينتم إلى أية مدرسة، إذ آثر السير وحيدا مستقلا للتعبير عن اهتماماته ورؤاه.

وتمكن لوتريك من التعبير عن ذلك الصخب المحيط به في تلك المقاهي، كما عبر عن ذبذبات دواماته في أسلوب متقطع الإيقاع، جعله خلفية شديدة الإيجاز لفتيات الليل بأحزانها ومباهجها العابرة..

الوجود الصاخب للمرأة

بابلو بيكاسو (1881 - 1973)
تحتفل باريس حاليا بإقامة معرض شامل لمختلف أنواع الأعمال الفنية للفنان الإسباني الأصل الفرنسي الإقامة بابلو بيكاسو. ولا شك في أن بيكاسو يعد أكثر الفنانين الذين اختلفت حولهم الآراء والتقييم إلى درجة التناقض الشديد. إذ وضعه البعض في مصاف الآلهة، بينما هبط به البعض الآخر ليتهمه بالغش والتدمير.

ولا يتسع المجال هنا لتناول تلك الخلافات، إلا أن بيكاسو الذي تربع بالفعل على الساحة الفنية للقرن العشرين، قد تحول إلى أسطورة بالنسبة للفريقين.

وكان لامتداد حياته، من جهة، ولتراقصه على إيقاعات كل المذاهب المنبثقة أو المختلفة في الفن الحديث، من جهة أخرى، أثره في صعوبة تناول إنتاجه المتعدد المجالات والمواد والمراحل والموضوعات.

ورغم هذا التنوع، فإن موضوع المرأة يحتل مكانة. مميزة في أعمال بيكاسو، إن لم يكن يحتل الصدارة. ولعل تلك الانعكاسات الفنية ترجع إلى الوجود الفعلي الصاخب للمرأة في حياته، إلى كثرة ما اشتهر به من هزات عاطفية عنيفة وغير سوية.

وما أكثر التعبيرات المشوهة التي تناول بها موضوع المرأة.. وتبدو هذه التعبيرات وتمزقاتها الشديدة الوضوح جلية لمن يقارنها بأولى مراحله الفنية، سواء الوردية أو الزرقاء. ورغم اختلاف النقاد في التقييم إلا أنهم يتفقون جميعا في أنه لم يكن في حياته سوى شيئين: المرأة والتصوير.. ذلك التصوير الذي قال هو عنه: "إنني اتجهت للتصوير بالمصادفة" !! أي أنه لم يكن من اختياره..

وتظل المرأة هي النبع الذي لا ينضب، النبع الممتد عبر الآفاق لتلهم المزيد من الفنانين عبر الأجيال.

 

زينب عبدالعزيز