جمال العربية

 جمال العربية
        

هل هي (حكاية خاصة) أم حكاية جيل?

          و(الحكاية الخاصة) واحدة من القصائد التي أبدعها الشاعر والكاتب الأردني (خالد السّاكت) في ديوانه الشعري (المسيرة) الذي أصدره منذ سبع سنوات, بعد رحلة طويلة مع الإبداع الشعري والكتابات النقدية وأدب اللوحة القلمية والسيرة الذاتية, تمتد منذ ختام خمسينيات القرن الماضي حتى الآن.

          ولد خالد الساكت في مدينة (السلط) بالأردن عام 1926, وتلقى تعليمه في مدارسها الابتدائية والثانوية ثم عمل في بعض الوظائف التعليمية والثقافية لسنوات عدة قبل أن توفده بلاده في بعثة تعليمية إلى مصر, حيث كانت دراسته الجامعية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة, وتخرجه فيها عام 1956.

          ومنذ ذلك الحين وهو صوت نقدي وإبداعي متميز من أصوات الحياة الأدبية في الأردن, مُفجّرا للعديد من المعارك الأدبية والنقدية, مؤصِّلاً لفكر قومي جديد, يرى في الوطن العربي عالمه الواحد, وفي مصير هذا الوطن المتحرر المتقدم والمتحد: حلما وعقيدة راسخة, قبل أن تعصف نكسة 1967, وتداعياتها الفاجعة بعقود متتابعة من التشرذم والشتات والإحباط.

          لكن خالد الساكت لم يفارق جلده ولا هويته, ولم يبتعد عن قلمه الذي يناوش ويشاغب ويحرّك الساكن في جرأة وحدة وضراوة, الأمر الذي يترك تأثيره في مسيرته الحياتية والوظيفية, ويجعله - في ختام المطاف - يؤثر العزلة والاعتكاف بين تخوم بلدته (السلط) التي لم يغادرها منذ عودته من بعثته القاهرية, وعمله الدبلوماسي في بيروت وبعثته العلمية الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

          ويجيء ديوانه (المسيرة) وكأنه خلاصة الخلاصة لرحلته في الحياة والفكر والمواقف والرؤى والتحولات. الوجوه الراحلة من حوله - وجوه أصدقائه وأحبّائه - تتحول إلى هواتف شعرية, ومحطات العمر الطويل المثقل تستصرخه وتحضّه على المعاودة والتأمل, وعلاقته بالكلمة - في تجلياتها المختلفة نثرا وشعرا - تزداد تكثيفا وتركيزا وعُمقا. واللغة بين يديه, وعلى قلمه, طيّعة نابضة, تحمل سمْت طبيعته البدوية الجبلية, وصرامة حسّه النضاليّ الضاري, وتشي بنسيج واسع من خيوط تأثراته بقراءاته النافذة في الشعر الأردني, خاصة شعر (عرار): مصطفى وهبي التل, وفي الشعر الفلسطيني خاصة شعر إبراهيم طوقان, وفي الشعر العربي على امتداد الساحة العربية, وهو الذي شهد في القاهرة - إبّان سنوات البعثة وطلب العلم في الجامعة (1952-1956) - بواكير حركة الشعر الجديد, ممتلئ الحماس لنماذجها الأولى, والفرح بمنجزها الجديد: لغة وصيغة وصورا وإنتاج دلالة وروحا شعرية عارمة, تجاوز الأفق الرومانسي إلى التحسّس الواقعي لارتطام وجدان الشاعر بهموم مجتمعه وقضاياه وشجونه ومطامحه, والتزامه بقضايا وطنه وعالمه.

          وفي قصيدته (حكاية خاصة) مذاق هذا الشعر في أكثر صوره إحكاما ونضجا ودلالة, حين يقول:

لا تلمني على الهوى يا عذولي
واتئد, إنني بيوم الرحيلِ

* * *

هل تُراني أحببتُ?
كان حنيناً,
ظمأً لاهثا وقلبا حزينا
وخُواءً
تطلّعا لغيوبٍ مجهولةٍ
تضرّعاً مسكونا
بشعور عذب رقيقٍ وجرحٍ
يستثيرُ الإشفاقَ
يستنطقُ الأيامَ
طيفاً مُكلّلاً بالجمالِ
وبقلبٍ يرافقُ القلْبَ
هل ألقاهُ?
حولي من المحبين رهطٌ
يحسن الشدو والغناءَ
أنا الوِجدُ, سارحاً مذهولا?
وإذا ميُّ طَلَّةٌ
ليس تدري من أنا, من أكونُ
أحببْتُها,
تمنّيْتُ,
كانت قصائدي دامعاتٍ
تخاطبُ المجهولا
هل تُراني أحببتُ?
لما التقينا
كانت المعجزاتُ
حديث يجرُّ حديثاً
ورؤى
أيقن القلبُ ذاك المُعنّى
أنها الحلمُ والمنالُ الجميلُ
حين سافرْتِ
سافرتْ فِيَّ أشواقٌ
تتبّعْتُ مسراكِ
كم هو يالبنانُ ظمآنُ
ليالٍ قضيْتُها
وبعينيَّ التباشيرُ
ورأسي تمورُ فيه الخيالاتُ,
وترتدُّ أذرعا ضارعاتٍ للقاءٍ
فيه, سيصبحُ الخافقانِ قلبا
لا, فلا التيه نبض أناشيدي
ولا الهمُّ, التقيْنا
مع الأَرْز والبحر والشاطئينْ
وَرُحْنَا
أنا الملهم الكلماتِِ
في ريشةٍ تلوّن كوْناً من جمالٍ
في لوحةٍ بِكْرٍ
ونَشْدُو معاً لحونَ هوانا
ذات يوم تحدّثت عن هواها:
سوريا والهلالِ
تحدثت عن بلادٍ
من محيطٍ إلى خليجٍ
لم يكن للوفاق أيّ محلٍّ
كان شرّاً
خصومةً
وصراعا
ونزيفاً مُزيّفا
إن للمبدأ العظيم صلاتٍ
خالداتٍ بالحبّ
هل يكره الحبُّ موطن الحبّ يوماً?
ومضتْ في طريقها
تركتْني لطريقي
وهاجَرتْ حيث لا أدري
وأُنْبئْتُ بعد عامَيْن
أنها في يد الحَصْرِ سكناها
وأنا عدتُ
لستُ ألوى على شيءٍ
غير أني ما كنت أومن أنّ الحبّ العظيم امتلاكٌ
نصفُ قرنٍ
وحبُّها في فؤادي
صامتٌ صارخٌ
وهي جذلى
لم أرافق حقدًا
ولم أعتبْ
ولم أُحبّ سواها
لا أراها
رأيتُ أن لن أراها
رسمها خالدٌ, عجوزٌ?
إنني لا أرى بعمري سواها
وصباها, وتيهها, وهواها
كان جيشُ التتار قد أعماني
ورماني
فهل تُراهُ رماها?
ما تكلمتُ عن لهيب هوانا
ما تحدثتُ عن نجوانا
كان لي حزمةٌ من الورق الفضّي
لا, لم تُعدْها,
ولا أوراقها, رددتُ إليها: نبْضها
هل تفوّهتُ كلْمةً عن فراقٍ?
كل ما قلتُ: لم يفارق طيفها خاطري
وما عرفت سواها
أنا أرّختُ قصّتيْنِ
وأخفيْتُ كبريائي الجريحا
غير أني أرّختُ ومضة قلبيْنِ
وروحا, تعانق الدهر, روحا
وسلامٌ لقلبكِ اليوم من حبٍّ
تَشْواقهُ ليس يُمحى!

* * *

          من السهل على من يعبرون هذه القصيدة في قراءة عابرة أن يصنّفوها باعتبارها قصيدة عاطفية, تتناول تجربة حب لم تكتمل, وتنطق مقاطعها بأثارات من الجوّ النفسي والوجوديّ الذي دارت فيه هذه الحكاية الخاصة, التي لا تختلف عن حكايات كثيرة مشابهة, ابتدأت - ككلّ قصة حب - بما يشبه الحلم الذي يسعى إلى الاكتمال والتحقق, ثم سرعان ما تبددت كما يتبدد السراب, مخلّفة ندوبا في الروح وشروخا في القلب الذي فاض لما امتلأ, مخفيا كبرياءه الجريح.

          أما القراءة الثانية - المتأملة - فترى في هذا النصّ الشعري تصويراً لانهيار الحلم القومي, وتكشُّف الوهم الكبير - الذي مشى تحت لوائه جيل من الحالمين بالعدل والتوحد والتحرر - عن أسى عميق وفراغ موحش واكتشاف للزيف:

كان جيشُ التتار قد أعماني
ورماني
فهل تُراهُ رماها?

وحين يقول:

نصف قرنٍ
وحبّها في فؤادي
صامت, صارخٌْ
وهي جذْلى
لم أرافق حقدا
ولم أعتبْ
ولم أُحبّ سواها!

وحين يقول:

ذات يومٍ تحدّثت عن هواها:
- سوريا والهلالِ -
تحدثت عن بلادٍ
من مُحيطٍ إلى خليجٍ
لم يكن للوفاق أيّ محلٍّ
كان شرا
خصومةً
وصراعا
ونزيفاً مزيّفا!

          (خالد الساكت) يقدم في حكايته الخاصة مرثيته لجيل, ومرثيته لحلم, ويُعلن وداعَ مرحلة غالية من العمر, اقتضاه وداعها والإفاقة من زيْفها نصف قرن, والذين عرفوه عن كثب, وعاشوا معه حلمه, واكتووا كما اكتوى بعذابات انهيار الحلم, يدركون معنى قوله في قصيدة (المسيرة) التي حمل الديوان اسمها:

لا...
لا أُرهق عينيّ
فَمِي مُرٌّ,
في رأسي كلّ طيور النوْرس طارت بددَا
أشعرُ أن البحر سيبتلع الباقي
من أحلامي المنثورة في الدّنيا
رعبا,
لي,
للكونِ,
أُصيخ السمْعَ
أليست شلالات الأحزانِ بكلِّ مكان
وأنين المهدودين
المكدودين الـ(ضاعوا)
سُدًى بسدى?
لا,
لا أُرهق عينيّ,
وجوهُ الناس بغيرِ عيونٍ,
بالقصب العاري يصطدمونَ,
يغوصون بوحل الأهواءِ
ومن عجبٍ,
يلهون, يغنون, يغنون!

حتى يقول:

الفقراءُ الأحبابُ
رفاقُ الدّرْبِ,
فلا ينسوْنَ القهر
ولا يُرْعبهم شبحُ السلطان
أُعلن للمليون بأنى أقوى, أبهى
لا أتسلّح إلا بالثورة والعصيانْ
عِدْني, واتبعني,
فأنا ماضٍ لا أعرف معنى العودة للاستخذاء
عِدْني
إنّي,
إني يقظانْ
أرسم بيدٍ غُصْنَ الزيتونِ
وأمحو بيدٍ كلِّ الأحزان
وجعي: فرحُ الفقراء
واسمي البوْحُ الآمِلُ
والممتدْ من الصحراءِ إلى الصحراء
اسمي لا أحشرهُ بين الأصواتِ الخرساء
اسمى علمٌ رفّ وميضا
ألقاً
وعْدًا,
بين جميع الأسماء!

          تُرى ما الذي خلفته المسيرة, مسيرة نصف قرن من الحلم وانكسار الحلم, في شعر غيره من شعراء الجيل الخمسيني على امتداد الوطن العربي كله?.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات