إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

أتيت لتحكم لا لتقتل

          يروى أن أحد حكماء الصين دخل على الإمبراطور فوجده يصدر حكما بالإعدام على أحد اللصوص. أظهر الفيلسوف امتعاضه الشديد لأن الحكم جائر, والجريمة لا تستحق ذلك العقاب. فخاطب الإمبراطور بحدة, قائلا له: (أتيت لتحكم لا لتقتل). فرد الإمبراطور بغضب: (وما تريدني أن أفعل باللصوص?).

          أجاب الفيلسوف: (تقضي حاجتهم. فليس القتل عقابا للسارق ولا أسلوبا للحكم). 

          لقد وجدت الدول الديمقراطية في تصرف الفيلسوف الصيني عبرة لإقامة نظام عادل أفضى إلى ما عرف في التاريخ المعاصر باسم (دولة الرعاية) التي جعلت من القصاص أسلوبا لتقويم اعوجاج الخارجين على القانون بهدف إرجاعهم إلى الممارسة السوية التي يتصف بها المواطن الذي يحترم نفسه ودولته. وقد اتسمت بتشريع النظم الديمقراطية, وتطبيقها بشكل عادل على الجميع لتزداد ثقة المواطن بدولته, وتتعاون مؤسسات المجتمع المدني معها لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية بأساليب حضارية دون عنف. 

          بالمقابل, كانت بعض الدول تشهد انقلابات عسكرية متلاحقة يقتل فيها جميع من اتهموا بالانقلاب, ويسجن آلاف الأبرياء لمجرد الاشتباه بهم. وبعد أن انتشرت الانقلابات على نطاق واسع في دول العالم الثالث, عاش مواطنو تلك الدول سلسلة من المآسي الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية حتى استقر بهم الوضع على شكل من الدولة غير مسبوق في التاريخ. فقد تحولت الجمهورية إلى ملكية أطلق عليها تهكما اسم (الدولة الجملكية), أي الدولة الجمهورية ذات النظام الوراثي الشبيه بالملكية غير المقيدة. 

          نشير هنا إلى أن لبنان قدم نموذجا بالغ الدلالة حول (دولة الرعاية), وذلك قبل دخوله مرحلة الحرب الأهلية عام 1975 فهو بلد صغير عرف عن شعبه ميله للحكم الديمقراطي ورفض الانقلابات العسكرية.مع ذلك, شهد لبنان محاولة انقلابية يتيمة قام بها الحزب القومي السوري الاجتماعي في آخر ليلة من عام 1961.

          وبعد أن أصر قضاة المحكمة من العسكريين على إصدار حكم الإعدام ضد قادة الانقلاب, وكان بينهم ثلاثة ضباط وسبعة عسكريين فقط من الجيش اللبناني, أصر رئيس محكمة التمييز, وهو قاض مدني, على مخالفة الحكم, فاعترض على حكم الإعدام من موقعه كرئيس للمحكمة, واعتبر أن المحاولة الانقلابية سياسية بالدرجة الأولى, قامت بها قلة من الحزب لم تتعد مائة وثمانين عضوا. وقد رفض عقوبة الإعدام لأن من واجب دولة الرعاية أن تساعد الحزب على تصويب مساره, وذلك بدفع أعضائه إلى تغليب الخط الديمقراطي على الخط الانقلابي في داخله, فأيده وزير العدل الذي أقنع بدوره رئيس الجهورية, فاستبدل بحكم الإعدام حكم المؤبد. وبعد سنوات قليلة أصدر المجلس النيابي قانونا بالعفو طال جميع السجناء السياسيين في لبنان. 

          وعندما أطلق سراح المسجونين, دعا الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى إعادة النظر في أسلوب عمله, فشكل محكمة حزبية لمحاكمة الذين قاموا بالانقلاب, فأصدرت أحكاما جريئة في 8 يوليو (تموز) 1972, بإدانة مبدأ الانقلاب العسكري, مع الإدانة الحزبية والمسلكية لمن قام بانقلاب على الدولة اللبنانية كاد يقضي على سمعة الحزب, وشوه صورته أمام اللبنانيين, وألحق ضررا بالغا, ماديا ومعنويا, بكثير من أعضاء الحزب. 

          هكذا أفسحت دولة الرعاية في لبنان المجال أمام الحزب لكي يستعيد دوره في الحياة السياسية اللبنانية على أساس احترام العمل الديمقراطي, فأصبح لديه الآن كتلة برلمانية, ويتمثل بوزير في الحكومة الحالية. 

          في الختام, ليس من شك في أن الأنظمة العربية بحاجة إلى نصيحة الفيلسوف الصيني: (أتيت لتحكم لا لتقتل). ومن أولى سمات الحكم القابل للحياة أن يكون عادلا, وأن ينمي الجانب الإنساني في المواطن عبر أسلوب حضاري يرسخ ركائز دولة الرعاية ويعيد الثقة المفقودة بين الحاكم وشعبه.

 

مسعود ضاهر