الأهواني.. عاشق تراث الأندلس

الأهواني.. عاشق تراث الأندلس

لمسة من الوفاء يقدمها كاتب المقال لواحد من أهم أساتذة اللغة العربية الذين حققوا التراث الأندلسي وساهموا في حوار الحضارات بين العرب والغرب.

لكل واحد من أساتذتي الذين تتلمذت عليهم في قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة تأثيره العميق في تكويني الجامعي والفكري بوجه عام, ولكن لتأثير عبدالعزيز الأهواني أهمية خاصة في تكويني لأسباب عدة, ترتبط بالإنجازات الأكاديمية التي اقترنت بمسيرته الجامعية, وبالمنهج الفكري الذي كان ينطوي عليه ويتميز به عن أقرانه, والمرونة العقلية التي كانت تدفعه إلى التعاطف مع الجديد والسعي إلى فهمه وتقدير بواعثه, ونزعته القومية التي كانت تتجلى في إيمانه العميق بالوحدة العربية, لا بالمعنى الوجداني الساذج أو الحماس الأجوف, وإنما بالمعنى العميق الناتج عن التأمل الهادئ والنظرة التاريخية الموضوعية. وأضيف إلى ذلك خصاله الإنسانية التي أنزلتني منه بمنزلة الابن في علاقته بأبيه الروحي, فقد كان عبدالعزيز الأهواني الأب العلمي الذي أسهم في تكويني الفكري, بينما كانت سهير القلماوي الأم التي أسهمت في تكويني النقدي, خصوصا بما تعلمته منها من أنه لا معنى للنقد بعيداً عن التركيز على تقنية الأدب, أو أدبيته التي تجعل منه ما هو عليه من قيمة.

وقد عاش أستاذي الأهواني حياة علمية حافلة على امتداد سنوات عمره الخمس والستين, فقد ولد سنة 1915, وتوفي في الثالث عشر من شهر مارس سنة 1980, وكان محبّا للأدب منذ نعومة أظفاره, متاحة له سبل الاتصال به بسبب نشأته الميسّرة بين أسرة تحسب على كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة الشرقية. وقد دفعه حبّه الأدب إلى الالتحاق بكلية الآداب بجامعة القاهرة, جامعة فؤاد الأول في ذلك الوقت, فاستقر طالبا في قسم اللغة العربية حيث تتلمذ على الأعلام الروّاد من أمثال طه حسين وأحمد أمين وطه إبراهيم وغيرهم من الأساتذة المصريين والأجانب الذين أسهموا في تكوينه الباكر. وكان لطه حسين بشخصيته الطاغية,وحضوره المنهجي الفريد, وخصاله العقلية الجسورة, أعمق الأثر في شخصية الأهواني الشاب. ولذلك, تأثر به كل التأثر, ورأى فيه نموذج الأستاذ الجامعي الذي ظل منطويا عليه طوال حياته, بينما رأى فيه عميد الأدب العربي وعدا جديدا في ميدان دراسة الأدب العربي بوجه عام, والأدب الأندلسي بوجه خاص.

زملاء القاعة الشرقية

ولم يخيّب الأهواني التلميذ ما توقعه له أستاذه العميد منذ أن تخرج على يديه في قسم اللغة العربية سنة 1938, وانطلق في حياته الأكاديمية من إحدى قاعات مكتبة الجامعة التي التحق للعمل بها فيما كان يسمى (القاعة الشرقية) التي كانت تزخر بأهم مصادر الأدب العربي وحضارته. وهي القاعة التي زامل فيها الأهواني صديقه المرحوم عبدالقادر القط, جنبا إلى جنب المرحوم محمد عبدالهادي أبو ريدة, وظل الثلاثة معا لسنوات إلى أن تغيرت أوضاعهم الوظيفية والتحقوا بالركب الأكاديمي.

وساعد على اقتراب الأهواني من الدراسات الأندلسية - في هذا الركب - أمران متعاقبان, أولهما الغرام الوجداني الذي دفع بعض أبناء جيل الأهواني إلى التعلق بالأندلس, ذلك (الفردوس المفقود) الذي ظل الوعي العربي يعمل على استعادته بواسطة الذاكرة الإبداعية التي أثمرت الكثير من الأعمال الأدبية عن أحداث (الفردوس المفقود) وشخصياته, والتي أثمرت كذلك دراسات عديدة من أدب هذا الفردوس الذي لم يفارق سحره الخاص في الذاكرة العربية. والأمر الثاني هو الفضول العلمي الذي يتفجَّر في داخل العلماء الشباب حين يجدون أن القليل الذي يعرفونه في مجال بعينه من العلم يدفعهم إلى الاستزادة منه, والمضيّ وراء ما يعرفونه إلى ما لا يعرفونه وما لا يعرفه غيرهم في الوقت نفسه. ولعل بداية هذا الفضول العلمي ترجع إلى المحاضرات التي ألقاها المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال على طلبة الجامعة في فصل من فصول السنة الدراسية 1937, قبل أن يتخرج الأهواني بقليل, وكان بروفنسال يمضي في طريق التقاليد البحثية التي سبقه إليها رينهارت دوزي إلى المدى الذي أتاح لبروفنسال أن يصبح أكبر مؤرخ للأندلس في أوربا.

وكان بروفنسال قد حمل معه إلى مصر مخطوطات كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) لابن بسام الشنتريني المتوفى سنة 541 للهجرة. وكان يزمع نشره في مطبعة مدينة ليدن الشهيرة بهولندا.

وقد أخبر بروفنسال طه حسين بعزمه على مكان طبع كتابه, فلم يوافقه طه حسين على ما انتواه, وأقنعه بأهمية طبع الكتاب في مصر, والاستعانة بمجموعة من الشباب الواعد في قسم اللغة العربية إلى جانب أساتذتهم. ووافق بروفنسال على ما عرضه طه حسين, وتشكلت لجنة من قسم اللغة العربية, ضمت أحمد أمين ومصطفى عبدالرازق وعبدالحميد العبادي وعبدالوهاب عزام وطه حسين. وكشف طه حسين عن دوافعه في تقديم المجلد الأول من كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) الذي صدر مطبوعا محققا سنة 1939, ضمن سلسلة مطبوعات كلية الآداب بجامعة القاهرة, وأوضح طه حسين أن قسم اللغة العربية رأى أن النشاط الأدبي في مصر الحديثة لم يشمل الأدب العربي في الأندلس ولم يسع إليه إلا في تردّد وعلى استحياء, وأن القسم أراد تغيير هذه الحال, وأن يمد نشاط الحياة الأدبية إلى الأندلس التي لم يبلغها تماما, ورأى القسم أن كتاب الذخيرة جمع طائفة ضخمة من أدب الأندلس شعرا ونثرا وتاريخا, وذلك على نحو يكشف عن مجموعة هائلة من النصوص التي تجلي الأوجه الغامضة في بعض بيئات الأدب العربي وبعض عصوره.

ويضيف طه حسين في تقديمه أن قسم اللغة العربية كلّف الأستاذ ليفي بروفنسال مع عدد من شباب القسم بتهيئة المخطوطات للطبع بعد تحقيقها, ويذكر من هؤلاء الشباب: محمد عبده عزام, وخليل عساكر, وبخاطره الشافعي. ويخبرنا محمود مكي - في دراسة له- أن الأهواني انضم الى الشباب المعاون لبروفنسال بعد أشهر قليلة من العمل مع زميله عبدالقادر القط (1916 - 2002) الذي تخرج معه في قسم اللغة العربية في السنة نفسها. وقد وقع عبء العمل على مجموعة الشباب المعاون, خصوصا بعد رحيل بروفنسال إلى الجزائر بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية.

حوار الحضارات

وكان عمل الأهواني في تحقيق كتاب (الذخيرة) بداية الخبرة الحقيقية بالتراث الأندلسي, الأمر الذي ساعده على الانتقال من الحلم بالفردوس المفقود, والانصراف عن مشروع المعتمد بن عباد الذي كان قد رأى فيه موضوعا مناسبا لأطروحة الماجستير, إلى التفكير في موضوع (الموشحات الأندلسية) خصوصا بعد أن أتاحت له المادة الموجودة في (الذخيرة) معرفة كبيرة بموضوعه, كما أتاح له العمل مع بروفنسال اكتشاف ما أنتجه اتصال الحضارات في الأندلس من ازدواج لغوي, ترك أثره في (خرجة) الموشحات أو خاتمتها. ولم يكن ذلك بغريب, فقد استمر عمل لجنة التحقيق التي كان الأهواني أحد أعضائها ست سنوات, استطاعت خلالها أن تخرج ثلاثة مجلدات من الذخيرة: القسم الأول في مجلدين ما بين سنتي 1938 و1942, والمجلد الأول من القسم الرابع سنة 1945. وبذل الأهواني جهده في هذه السنوات لاستيعاب كل ما أتيح له من مخطوطات عن الأدب الأندلسي وتاريخه, والاطلاع على ما كتبه الكثير من المستشرقين, خصوصا حول موضوع الموشحات الذي اختاره موضوعا لأطروحة الماجستير التي حصل عليها سنة 1947.

وسافر الأهواني إلى إسبانيا بعد أن حصل على درجة الماجستير ليجمع مادة بحثه لدرجة الدكتوراه التي اختار لها موضوعا في الاتجاه نفسه, أقصد الاتجاه الخاص بحوار الحضارات على أرض الأندلس, على نحو ما تجلّى في الازدواجية اللغوية التي ظهرت في خرجة الموشحات, وانتشرت على امتداد لغة فن (الزجل) الأندلسي الذي جعله الأهواني موضوعا لأطروحة الدكتوراه. وقضى أستاذي أربع سنوات في الأندلس التي كانت خارجة منهكة من الحرب العالمية الثانية, وذلك في الفترة من 1947 إلى 1951. وكانت أمامه أكثر من مهمة. الأولى تعلم اللغة الإسبانية التي سرعان ما برع فيها, وأتقنها إلى جانب اللغة الفرنسية التي كان يستخدمها لقراءة أعمال المستشرقين الفرنسيين والحوار مع المختصين منهم حول الأدب الأندلسي, فضلا عن تعلم اللغة اللاتينية وتحولاتها العامية في الأندلس, خصوصا بعد أن أدرك أنه لا يمكن أن يفهم العامية الأندلسية التي استخدمها ابن قزمان - أمير الزجّالين في الأندلس - إلا بعد معرفة الأصول اللاتينية الفصحى المتحولة إلى عامية أندلسية. واتصل بهذه المهمة الاطلاع على المخطوطات العربية في إسبانيا, سواء في مدريد أو في قرية الأسكوريال, لمعرفة كل ما ورد في هذه المخطوطات عن الأزجال بوجه خاص, وعن أدب الأندلس وحضارته العربية بوجه عام.

معهد عربي في مدريد

أما المهمة الثانية فكانت مرتبطة بتنفيذ توجيهات أستاذه طه حسين الذي عقد عزمه على إنشاء المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد. وقد أتيحت له الفرصة لتحقيق ما عزم عليه عندما أصبح وزيرا للمعارف, فاتفق مع الحكومة الإسبانية التي وافقت على مقترحه, وبدأ الإعداد لإنشاء المعهد الذي أوكل طه حسين إلى تلميذه الأهواني مهمة الترتيب والتأثيث وإعداد المكتبة, وتزويد مبنى المعهد بمطبعة عربية أوربية, ونجح الأهواني في مهمته, فافتتح المعهد سنة 1951 في افتتاح مهيب بحضور طه حسين وكبار رجال الدولة الإسبانية جنبا إلى جنب كبار المستعربين الإسبان, وأصبح عبدالعزيز الأهواني أول وكيل للمعهد إلى أن عاد إلى القاهرة للفراغ من مناقشة درجة الدكتوراة التي كان قد انتهى منها.

وظل الأهواني يقوم بتنقيح أطروحته عامين تقريبا بعد عودته, مدققا في كل شيء كعادته التي تعلمها منه تلامذته الأقرب إليه, وتمت مناقشة أطروحته سنة 1953, ولم يتوقف عن تنقيحها بعد ذلك إلا عندما نشرها في كتاب عن معهد الدراسات العربية بعنوان (الزجل في الأندلس) سنة 1957 في القاهرة. وكان الكتاب كالأطروحة محطة مهمة على الطريق الأكاديمي الشاق الذي دفعه إلى الاهتمام بمخطوطات ديوان ابن قزمان, وجمعها وتحقيقها, ومراجعة التحقيق سنوات وسنوات. ولكن لم يمهله القدر, مع الأسف, كي ينهي ما شرع فيه من جهد عظيم, جهد ظهرت بعض علاماته في الدراسات الثلاث التي نشرها تعقيبا على تحقيق المستشرق الإسباني الكبير جارثيا جوميس للديوان سنة 1972 في ثلاثة مجلدات, وقد رد المستشرق الإسباني على دراسات الأهواني الثلاث بمثلها, في نوع من المناظرات العلمية الراقية النادرة في تاريخ العلم.

وقد أظهر عمل الأهواني في أطروحتي الماجستير والدكتوراة اهتمامه بجانبين غير منفصلين في دراسة الأندلس وحضارته. الجانب الأول هو جانب تحقيق المخطوطات التي تكمل صورة الحضارة الأندلسية وآدابها, فتتيح لدارسي الأدب النصوص التي تعينهم على تكوين الملامح السليمة للصورة الأصلية, وتعين المؤرخين على معرفة الكثير من الحقائق عن الجوانب التي ظلت غامضة في غيبة هذه النصوص. وكانت البداية الإسهام في تحقيق كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) في أواخر الثلاثينيات, وهي بداية قادت إلى تحقيقات عدة لاحقة, أهمها في مجال كتب برامج العلماء في الأندلس نص برنامج ابن أبي الربيع المتوفى سنة 688, والكشف عن مخطوطين جديدين من كتاب (صلة الصلة) لابن الزبير و(الذيل والتكملة) لابن عبدالملك, وجغرافية العذري لأحمد بن عمر بن أنس العذري المعروف بابن الدلائي المتوفى سنة 478. وهو المخطوط الذي عثر الأهواني على الجزء المتبقي منه بعد أن ظل الكتاب مجهولا لوقت طويل. وأضيف إلى ذلك دراسته عن (ألفاظ مغربية من كتاب ابن هشام في لحن العامة). وبعده (أمثال العامة في الأندلس).

وكان لحرص الأهواني على نشر المخطوطات الأندلسية أثره البالغ على تلامذته الذين عملوا تحت إشرافه, أمثال العالم المغربي الكبير محمد بن شريفة الذي نشر مع إحسان عباس الأجزاء المتبقية من (الذيل والتكملة), لابن عبدالملك, فيما بين سنتي 1963و1974, وهي الفترة التي عمل فيها ابن شريفة تحت إشراف الأهواني في تحقيق مجموعة الأمثال العامية لأبي يحيى عبيدالله بن أحمد الزجال القرطبي, وهي المجموعة التي اتخذها الباحث موضوعا لرسالة الدكتوراه التي أعدها, وناقشها تحت إشراف الأهواني سنة 1968. وذلك مثال واحد على تأثير الأهواني في العديد من الباحثين العرب والإسبان على نحو ما أوضح الدكتور محمود علي مكي في دراسته التي سبق أن أشرت إليها.

أصل الموشحات

أما الجانب الثاني من الجانبين اللذين شكلا إنجازات الأهواني الأكاديمية, فهو الجانب المتصل بحوار الحضارات أو تفاعلها, وهو الجانب الذي اقترب منه الأهواني كل القرب بفضل دراسة الموشحات والأزجال, مدركا أن كلا الفنين كان مجالا لالتقاء حضارتين, إحداهما إسلامية عربية شرقية تمتد جنوب البحر المتوسط, والثانية مسيحية لاتينية غربية تمتد إلى الشمال من ذلك البحر, وفي ضوء هذا التصور, نقض الأهواني الآراء التي أرادت أن تجعل من فن الموشحات فنا عربيا أصيلا, مؤكدة النشأة العربية الخالصة لهذا الفن, واكتماله قبل انتقاله إلى الأندلس التي أخذت الكثير من المشرق دون أن تحدث فيه أثرا يذكر. وذلك ما ينقضه الأهواني, مؤكدا أن النشأة العربية الخالصة تخيل مبعثه التعصب القومي لا أكثر, وأن النشأة الحقيقية تولدت في الأندلس من التقاء الشعر العربي بالأغاني الشعبية الدارجة التي كانت موجودة في الأندلس, ومغنّاة في أسواقها, وأن هذا اللقاء هو الذي تولد عنه فن الموشحات التي تبين عن أصل تولّدها من (الخرجة) التي تختتم بها, والتي كانت تمتلئ بكلمات لاتينية الأصل, أو تراكيب أعجمية أندلسية تدل على أصلها الشعبي, ويبدو الأمر - من هذا المنظور - كما لو كانت (الخرجة) بقية أغنية أو أغان شعبية بالعامية الأندلسية التي لم تكن تخلو من مفردات العامية اللاتينية وتراكيبها, وأن هذه (الخرجة) كانت النواة التي انبنت عليها بنية الموشحة المكتوبة بالفصحى, والنواة التي انبنت عليها بما يجانسها من كلمات عامية بنية فن الزجل الذي كان ملحونا كله, وبعامية أهل الأندلس.

وكان معنى ذلك أن نشأة فن الموشحات ثمرة تفاعل العامية الأندلسية بميراثها الأوربي من ناحية, واللغة العربية الفصحى بميراثها الأدبي من ناحية مقابلة, وذلك على النقيض من فن الزجل الذي كان إبداعا للعامية الأندلسية, لكن بما لا يخلو من علامات التفاعل الحضاري, ولذلك ظل الأهواني يرى أن اللقاء نفسه الذي أثمر الموشحات هو الذي أثمر فن الزجل الذي كان أقرب إلى العامية الأندلسية التي كانت مزيجا من العربية واللاتينية, ولذلك لا يمكن فهم أزجال ابن قزمان إلا بمعرفة هذين الأصلين المتفاعلين معا.

جهود في الأدب المقارن

وقد قادت هذه النظرة المقارنة الأهواني بعد ذلك إلى دراسة التجليات اللغوية المزدوجة الأطراف من خلال دراسة أمثال العامة في الأندلس, فضلا عن دراسة الحكايات الشعبية التي خلطت ما بين التراث العربي وتراث اللاتينية الإسبانية في الوقت نفسه. وترك الأهواني - في هذا الجانب - دراسات فريدة تركت أعمق الأثر على الدارسين بعده. وأتصور أن اهتمامه بهذا الجانب المقارن هو الذي دفعه إلى ترجمة رائعة الكاتب الإسباني سرفانتس (دون كيخوتة) لأنها تنطوي على بقايا المعتقدات الإسبانية الشعبية المسيحية عن العرب المسلمين الذين لم تنصفهم هذه الرواية العظيمة في الحديث عنهم. وفي الوقت نفسه, تتضمن تقاليد الفروسية الأوربية في العصور الوسطى, وهي التقاليد التي لا تخلو رواية (دون كيخوته) من السخرية منها, وتقديمها بطريقة لا تخلو من تهكم, يؤكد انتهاء زمن هذه الفروسية وبداية زمن جديد, يدل على مرحلة متحولة من مراحل التاريخ.

وقد قادت النظرة المقارنة الأهواني إلى الاهتمام بالجانب الحضاري في التأريخ للأدب, خصوصا بعد أن أبرز على نحو ملموس أثر التفاعل الحضاري بين ثقافتين على لغة الأدب الأندلسي الصاعد, فحاول البحث عن منظور جديد لتاريخ الأدب العربي, مقلّلا من شأن التحقيب التاريخي الذي يعتمد على تاريخ الأسر الحاكمة, الأموية, العباسية, الفاطمية, الأيوبية... إلخ, مؤكدا أهمية الصراع بين البداوة والحضارة داخل مرحلة التأسيس الأدبي في التراث العربي من ناحية, وكاشفا عن إمكانات جديدة لتحديد مراحل لاحقة ترتبط بتحولات الحضارة العربية ومتغيراتها من ناحية مقابلة, وكان في محاولته تأسيس هذا المنظور الجديد متأثرا بابن خلدون الذي أعاد قراءته معنا, نحن طلابه في سنة 1966 على وجه التحديد, دافعا إيانا إلى استغلال فكرة الصراع بين البداوة والحضارة عند ابن خلدون لتأصيل منظور جديد للحقب الأدبية لتاريخنا الأدبي, وقدّم لنا أمثلة على ذلك من ملاحظاته التي لم تنشر بعد وفاته, وأرجو ألا تكون قد ضاعت فيما أهمل من أوراقه التي كان بحوزة تلميذه وأستاذي عبدالمحسن بدر, وتلميذه وزميلي سليمان العطار, وقد تعهّد كلاهما بنشرها بعد وفاته.

التراث العربي ومستوياته

وانتهت النظرة المقارنة بالأهواني, كذلك, إلى تأكيد قضيتين مهمتين, لا تنفصل كلتاهما عن الأخرى, أولاهما أن التراث العربي كان يعيش دائما في مستويين, ويتخذ للتعبير عن نفسه أداتين: المستوى المثقف الذي يصطنع اللغة العربية الفصحى, والمستوى الشعبي الذي يتخذ اللغة العامية أداة للتعبير. ولئن كانت العناية بتسجيل التراث الشعبي قليلة بوجه عام, وذلك لأسباب عدة, فإن ذلك لم يمنع هذا التراث الشفاهي من أن يتسرّب تسرّبا خفيا أو ظاهرا إلى عقول وأقلام أصحاب الأدب الرسمي الفصيح, وهو الأمر الذي يمكن أن يلمحه الدارس في الموشحات الأندلسية. بل في غيرها من أعمال الشعراء العرب الذين تأثروا بأكثر من ثقافة, وظهرت في أشعارهم, كما في آداب غيره, تجليات عدة للازدواج اللغوي الذي ظل قائما إلى اليوم.

أما القضية الثانية التي لفت إليها الأهواني انتباه الباحثين فترتبط بما انتهى إليه من أننا حين نلتمس التقاء الحضارات في التراث الأدبي لأمة من الأمم, علينا أن نتوسع في مدلول الأدب, أو على الأقل نتوسع في التفتيش عن الآثار المطلوبة في مؤلفات أخرى غير دواوين الشعر ومجموعات النثر الفني, ويتطلب ذلك الاهتمام بكتب التاريخ والجغرافيا والرحلات والنبات والحيوان وما أشبه, إذ إن مؤلفي هذه الكتب كانوا أقل تزمتا فيما يتصل بالمفهوم الأدبي, وأقرب إلى التماس الطرائف, أو إلى مخاطبة جمهور أكبر من قراء الشعر والنثر الفني, ولذلك لم يكونوا يتحرجون من سرد بعض النصوص التي نراها نحن اليوم أدبية بكل معنى الكلمة

 

جابر عصفور