يــقــظــة
يــقــظــة
كان جسراَ يمتد فوق الماء, فإذا كنت في آخره, أحاطك البحر, فلم تر إلا الأزرق بدرجتيه, البحر والسماء, هناك كنت واقفا أنظر للمشهد الروحي وبيني وبينه حاجز... أعجز عن تخطّيه, أو معرفة طبيعته, وبينما أنا أتحسّر على انعدام حظي, تنبّهتُ للرجل الواقف مستقبلاَ المشهد في سكون وصمت, وبعد أن قطعتُ الجسر مرات جيئة وذهاباً - مراقباَ إياه - وجدتُ أن الرجل وقفته قد طالت, على هيئة واحدة, لم يحرك حتى رأسه... فحسدته على ما أوتي من حظ أن استطاع على هذا السكون وهذا التأمل صبرا, وبينما أنا بين حسرتي وحسدي فطنت إلى حقيقة ساخرة, إن هذا الرجل نائم! فشعرت بانتصار خَفي وشماتة, وذهبت إليه أوقظه وعلى وجهي ابتسامة خفيفة فيها شيء من استعلاء: - (سيدي... أنت نائم)?! صدمني الرجل في هدوء: - (بل متيقظ) منطق مازلت أتقدم للخلف, أمشي بظهري, أستقبل بوجهي ما انقضى من طريق, وأدبر ما أمشي إليه! وكنت أتوهم أن في قفاي عينين, أو أن قفاي هو وجهي وأنني أستقبل ما أمشي إليه وأدبر ما انقضى, ثم تنبهت إلى أنني أمشي بظهري, حاولت بأن أستدير فشعرت بأن الاستدارة غير منطقية, فوجدت أن المنطق السائد أن نستقبل ما نمشي إليه, فنراه, وندبر ما انقضى, وأن المنطق يعود فيناقض نفسه, ويقرر بأن أمشي للخلف, بظهري, وأشعر بأن الاستدارة غير منطقية, إن المنطق غير منطقي. خيال نظر إلى ما بين يديه وقال: هذه هي الشمس... ثم فكر قليلاً, نعم, والأبيض حولها هو السحاب, ثم مد قطعة الخبز الصغيرة بيمناه واغترف من السحاب, أكل, وما بين لقمة شمس ولقمة سحاب حتى انتهى منهما, فقام وجهز شموسا أخرى وأكلها والسحاب, فشعر راضيا بامتلاء بطنه, وربت على كرشه في حنان قائلاً: لكم كان البيض لذيذاَ! حقا?! أدرك الآن أنه أكل بيضا لا سحاباً ولا شمساً! لو أقام في ظنه بأنها شمس لأنارت له الليالي المظلمة - وليس كل الظن إثما.. أما الآن.. فإن الشمس ترقد ميتة في معدته. عين مكتوب على جبهته: الأرض مكانك... لا تحاول.. ولكنه يريد أن يطير, كيف يهيمن عليه قانون الجاذبية وهو ليس إلا قانونا بين ماديات لا تفقه, قانونا يستمد وجوده من علاقات بين أشياء وليس له وجود حقيقي مثله, هو كيان مدرك, يستسلم لقانون لا يشعر حتى بنفسه! سيطير.. سيحاول بكل ما أوتي من يأس.. هاهي الأرض.. سأرتفع... سأطير.. الأرض بعيدة والبيوت صغيرة.. أنا أطير. كانت الصدمة مذلة حينما سقط من هذا العلو, أما البيوت الورقية فتكسّرت تحت صدره. شعر بالعجز.. والألم.. مع أن جسده انثنى فقط فوق النموذج الصغير للمدينة, لقد احتقر القانون الأصم, وتجاهل أن جسده من مفردات هذا القانون ذاته, فكيف يتعداه! أمسكتُ الحلم وأغرقتُه حتى سكنت حركته, أخرجتُه ورميته في احتقار, لم أكن أستحق إلا هذا. فكرة جميلة, ركب المصعد إلى آخر الأدوار, وألقى نفسه بين أحضان قانون الجاذبية, لقد كان القانون كريما على كل حال, جسده مقابل دقائق في الهواء. الطيور تحوم فوق الجسد الممزق, هبط طائر صغير رقيق ووقف فوق الوجه الساكن, داعب بمنقاره الدقيق بقايا دمعة سابحة بين الرموش, ثم وقف على عيني, وعلى جبهتي حفر أغنية اليأس الأبدي, ثم طار عاليا لينضم إلى رفاقه, واختفوا بعيدا في السماء. نور -1- وقفتُ إلى نافذتي وما تستشرف, وقد قُطعت الكهرباء عن المدينة, فأظلم البيت إلا من شيء من نور هادئ, تأملتُ المصدر فلم أجد في تأمله إلا أنه كما هو. القمر المكتمل كل ليلة لم يكن في ليل المدينة إلا بقعة بيضاء منسية, قد وضح قرصه بعد أن كان في أطراف البصر, وبان نوره المنتشر في السماء والأرض, خافتا, كاشفا, ومتوحدا. -2- لأستطلع حصيلة ليلة, الممددون على المصباح والمتناثرون أسفله في الليل كانوا يدورون حوله حتى السقوط, فإذا الشمس تشرق ولا تشهد منهم إلا الجثث.بكفّي عن الشمس حجبته, لأرى في ظله إن كان مضاء أم...!! أطفأته. في الليل سيسترد إضاءته, وسيدور حول الناموس المجنون حتى يهلك. أين هو هذا الناموس أثناء النهار.. ونور الشمس.. أتراه يذهب فيه لو رأى أصالة مصباحيتها المهيمنة. لو فعل لما دار... فهي أبدا تواجه... خبرة هذه الأجسام أعدادها لا تحصى, قد غطت تماما كوم القمامة, وحينما عاد العجوز المريض وضرب فيهم بعصاه هاجوا قليلاً في الهواء ليعودوا بعد ذهابه إلى طعامهم, ضايقتني حركتهم العشوائية المندفعة وهم يصطدمون بي, تركتُهم ورائحة القمامة تلاحقني, والتفتُ إليهم في سخرية محبطة.ألن أحتفظ بصورة العجوز المريض كي أكسر الدائرة وأتحرر, تذكرتُ كثرة التجارب المريرة وازددت إحباطاً
|