الغناءُ عِند العَرب

اكتشف العرب في البيئة الصحراوية أن الغناء يبدد وحشة الليل. واكتشفوا في أسفارهم أن الجمال التي هي «سفن الصحراء» أيضًا تطرب إلى الحداء، وكأن الخلاء والتأمل في النجوم يجعلانهم يربطون بين نظام إيقاعي يحسّونه من حولهم. وكان لابد للحداء أن يتألف من إيقاعات وكلمات بسيطة تقترن بالحركة. من هنا، ولد عروض الشعر الذي ينبني على الموسيقى. ومن هنا أيضًا ظهر سحر «الخبب» الذي يشبه إيقاع حوافر الخيل، وغيره من الإيقاعات التي تلائم الأجواء. ويمكننا أن نلاحظ في مرحلة انتشار الترف في العواصم الرئيسية بدءًا من مكة والمدينة، وبغداد ودمشق، الإقبال على استقدام المطربين وشراء القيان اللواتي يتقنّ العزف.

 

يمكننا أيضًا ملاحظة أن حصر مواضيع الشعر المغنى في ذلك الوقت التي تستلهم الوقوف على الأطلال، لها بعد روحي من الوحشة، تغشيه غلالة من الحزن الرقيق. وكذلك فإن ظهور ظاهرة «الحب العذري» وأشعار البث والحنين، وكأن هذا في حد ذاته يداعب شعورًا عميقًا في النفس الإنسانية وأشواقها.

فالتطور الموسيقي الذي أدخله أساطين الموسيقى في ذلك الزمان من مثل: إبراهيم الموصللي، وزرياب والفارابي يعكس اهتمامهم بهذا الجانب الثقافي ودور الموسيقى في إثارة المشاعر المختلفة. والجميع يعرف قصة هذا الأخير، حين أطربهم وأضحكهم وأبكاهم ثم أنامهم. كل هذا يقودنا إلى فهم أن العرب اعتمدوا الموسيقى جزءًا ثقافيًا مهمًا، تتجلى فيه شتى نزعاتهم وأهوائهم ولحظات انتصاراتهم وهزائمهم، وكذلك احتفاؤهم بالمقدس. فقد كان للموسيقى والأهازيج الغنائية دورها للحض على الصمود في ساحات الدفاع عن حقوق الأمة.

ونلاحظ أن مستوى الإبداع والاهتمام بالروح شأن تلازم مع الاستقرار السياسي الذي تنعم به العواصم العربية. فنرى أن نوعية الكلام ونوعية المشاعر التي يتم التعبير عنها في أوقات الاستقرار تختلف عنها في عصور الانحطاط، الأمر الذي ينسحب أيضًا على بقية مجالات الحياة التي تتكون منها تراكمية حضارة المجتمعات. ومن هذا المنطلق يمكننا اعتبار الموسيقى كلامًا ولحنًا كوثيقة اجتماعية.

فتلازم الموسيقى مع سجع الكهان الذين استخدموا الموسيقى من آلات وترية وآلات نفخ عنصر مساعد في تشكيل المناخ العام، وهيمنة وجهة نظر تعكس الثقافة والمعتقدات والتوجهات الفكرية والسياسية، لدى الشرائح الاجتماعية من قمة أعلى الهرم حتى أسفله، هو شأن تجلى باستمرار كوسائل أساسية للتأثير على الرأي العام حتى عصرنا الحاضر في العبارات الرتيبة، التي يرددها العمال الذين يقومون بأعمالهم، كذلك فإن الصيادين اشتهروا بأهازيجهم التي تسترضي آلهة الريح، والتي تحتوي على عبارات تمنحهم الشعور بالأمان، وتنسيهم ما قد يتعرضون له من أخطار، كذلك يحفظ الجميع عبارات من مثل: «ما تشد قلوعك» أو «هيلا هوب هيلا» التي أدخلها عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة «النيل نجاشي».

أما إذا أردنا الدخول إلى عصور الانحطاط فنجد أن الإسفاف في الكلمة ورتابة اللحن، والذوق الفاسد الذي يتدخل للإمعان أكثر في الانحطاط هذا، ونرى أن البعض يعمد إلى حشر ألفاظ وتراكيب عامية مبتذلة تعكس التردي الكبير، ويمكننا في أزمان كهذه ملاحظة اختراق الإسفاف هذا حتى في التواشيح والتراتيل، حيث يتم تركيب كلمات عامية ليس لها أي بعد روحي يغلب عليها الطرب والرقص أحيانًا من دون أي مسوغ أو من دون أي رابط يعبر عن روحية مناخ الكلام العام. وقد رأى المطرب صباح فخري في أحد لقاءاته أن لا علاقة بين ألحان التواشيح الرصينة ذات البعد الروحي وتلك التي يتم استبدالها بكلمات لا يقصد منها سوى التطريب والانفعالات الرخيصة.

وإذا تتبعنا مرحلة الانحطاط هذه التي بدأت مع عصر الدويلات والعصر العثماني، نجد الابتذال في الكلمة واللحن والاستكانة إلى المجون واللهو، ونشر ثقافة الامتثال والاستخذاء الذي يكرّس التباعد الطبقي، أو الانفصال بين القمة والقاعدة. نذكر هنا بعض الأمثلة على الإسفاف في الكلمة واللحن من مثل «هات القزازة واقعد لاعبني، والمزة طازة والحال عاجبني»، ونشر التهتك والانحلال الخلقي، وما شابه من طقاطيق تمجد الغرائز بدل الارتقاء بها.

 

سطوة السياسة

كذلك فإن للسياسة سطوتها في هذا السياق، وحيث يكون هناك حراك سياسي يتغير المناخ الثقافي مع الرغبة في التحرر. وهنا يأتي دور الموسيقى والغناء كمحرض ودافع في تغيير الأطر الاجتماعية برمتها، بل ويرسم أفقًا يتلاءم مع تطلعات الوعي السياسي، والتبشير بطرق الخلاص، والترويج لفكر ما.

ومَن منا لا يذكر دور قصيدة «سلام من صبا بردى أرق» ذات البعد الوحدوي الذي يكرّس الفكر والموروث الثقافيين، ووحدة حركات التحرر؟

قبل ذلك يذكر العالم العربي جيدًا دور الموسيقى في تأليب الجماهير وإعطائها دورها عبر نشر وعيها بأهمية قدراتها وضرورة مواكبة العصر واتخاذ المبادرة إلى صنع المستقبل، بالانتقال من العبودية إلى التحرر. وفي سياق كهذا لا يسعنا تجاهل الدور الروحي في عملية الارتقاء بالموسيقى، لا ليبدأ دورها السياسي فقط، بل والروحي الاجتماعي الإنساني أيضًا.

وقد تجلى ذلك عبر ظهور ما كان يعرف بـ«الأوبريت» الذي شكّل نقلة نوعية هائلة في الوعي والذائقة العربيين، معتمدًا الحداثة كمعطى متغير متلائم مع طبيعة التغيرات التي حدثت عالميًا في أواخر القرن الثامن مع بروز الثورة الصناعية في العالم.

أما إذا انتقلنا إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما جرته على العالم من ويلات فنجد على الصعيد الأوربي انحسار تأثير الموسيقى السيمفونية الراقية ودخول الأغنية القصيرة المجتمعات التي عرفناها لدى مشاهير ذلك الزمان، والتي ساهمت السينما في الترويج لهم وصناعتهم. كذلك انتشرت ظاهرة الأفلام الاستعراضية التي غزت مجتمعاتنا العربية بشكل كبير، فتأثر بها كبار الموسيقيين والمغنين من مثل: أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي، وأسمهان وليلى مراد.

وعلى الجانب الأطلسي الأمريكي كانت موسيقى الجاز موسيقى العبيد «البلوز» التي تعبر عن الحنين إلى وطن آخر، والتي تعبّر أيضًا عن مكبوتات الطبقات الاجتماعية المسحوقة الـ(under ground) في وسط حضارة لاتمت إليها بصلة، تهمّشها وتطمس حضارتها.

 

موسيقى ما بعد الحرب

أما إذا انتقلنا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من خلخلات اجتماعية على كل الصعد الاجتماعية والفكرية والفلسفية كظهور الوجودية ومدارسها، فنجد أن تأثيراتها انعكست على الموسيقى والغناء أيضًا فتنوّعت وسائل التعبير وبرزت مدارس مختلفة. حيث كنت تجد من يعبّر عن أشواق رومانسية هروبًا من مشكلات العصر ووطأة جبروته. مع أنها كانت تسير جنبًا إلى جنب مع عصر «السامبا والرومبا والجيرك» وغيرها من الإيقاعات والضروب العنيفة التي تخاطب نواحي صاخبة ومكبوتة لدى الإنسان، وهي ظاهرة انتقلت من أوربا إلى أمريكا، وسرت فيها مسرى النار في الهشيم، فأوربا التي كانت تنظر إلى الجاز على أنه موسيقى صاخبة بعيدة عن حضارتها عادت إليه في ستينيات القرن الماضي، واستوردته إلى مجتمعاتها. وهنا لم يكن العالم العربي بمنأى عن هذه التحولات. فلم يجد مبدع مهموم حقيقي بأمر البحث والتجديد من مثل محمد عبدالوهاب بداً له من مواكبة هذه التحوّلات وإدخالها تدريجيًا إلى الذائقة العربية التي كان يسيطر على مناخاتها «الموال» الحزين الذي غنّاه هو أيضًا، ولكن ضمن قوالب وأشكال وإطارات متطورة، إضافة إلى القصائد والمطولات الغنائية التي كانت في جل ما تسعى إليه المباراة وعرض العضلات من قبل المطربين، ومن بإمكانه الصمود والتلوين والتطريب الكثير المتشعب المتداخل أثناء تقديم العمل. إلا أن عبدالوهاب استفاد ووظف كل هذه الإيقاعات والأنواع الغنائية إضافة إلى الآلات الغربية لمصلحة الغناء والموسيقى العربيين. حيث كانت أغنية «جفنه علم الغزل» التي استخدم فيها إيقاع «الرومبا» الأمريكي اللاتيني الجذور، وأغنية «عندما يأتي المساء» التي غناها على إيقاع «الكوكوريتشي» المستوحى من الموسيقى الأرجنتينية، وكذلك أغنية «سهرت» على إيقاع «سامبا» وكذلك أغنية «الصبا والجمال» التي أطلق فيها للبيانو الباع الطويل. وقد حرص على الحفاظ على الخصوصية والأصالة العربيتين عبر اختياره كلمات هذه الأغاني من الشعر العربي الفصيح. وهو اختيار يقوم على أكثر من تأويل واحتمال وفيه من التلاقح والتثاقف بقدر ما فيه من الرد على القائلين بعدم طواعية الموسيقى والغناء العربيين مع الموسيقى والإيقاعات الغربية.

 

بعد النكبة

وفي مرحلة ما بعد النكبة التي كانت بداية لتحولات وسياسات هزت الوجدان العربي، وهددت حتى الهوية نجد الموسيقى والكلمة قد لعبتا دورًا في تجذير الهوية والتمسك بها في مواجهة التهديدات التي كادت تنال منها وتشطبها من الوجود.

أما بعد النكسة فنجد الآثار المدمّرة على الحراك الاجتماعي، الذي كان يسوده الإحباط والتراجع، فقد انبرى فنانون من مثل عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم، وكذلك الرحابنة للدفاع عن الهوية واستعادة الوعي. وقد اعتمد هؤلاء كلمات أغان وإيقاعات وجملاً موسيقية تحض على التمسك بالقيم، وأنه لا مجال لبناء المستقبل إلا بالعمل الدءوب الجاد. فقد اعتمد الرحابنة مثلاً تقديم أعمال من مثل أوبريت «سنرجع يومًا» وأغنية «أسوار القدس» ونمطًا فكريًا ثقافيًا تلعب الموسيقى والغناء الدور الأساسي في تزكيته وبث كل رسائله وإظهار التراث اللبناني السوري الفلسطيني كمعطيات تاريخية قادرة على التجدد ومواكبة التطورات، التي من شأنها إعلاء دور الأمة والفرد ودخوله في حركة الوعي الإنساني الشاملة التائقة إلى التغيير، وأنه (أي الإنسان العربي) بمقدوره الاستفادة من منجزات الحضارة، من دون التخلي عن مكتسباته ومنجزاته الحضارية الواسعة.
------------------------------------
* باحث من لبنان.