إطلالة على الشعر الماليزي المعاصر محمد إبراهيم أبوسنة

 هذه المقالة تقيم حسراً كان مفقودا بين الوجدان العربي والحركة الأدبية في بلدان العالم الإسلامي وهي تقدم إطلالة حية من خلال عيون شاعر عربي على زملائه الشعراء في ماليزيا.

كنت عائدا من مهرجان الشعر الدولي في كوالا لامبور عاصمة ماليزيا والذي يعقد كل عامين، وحينما كانت الطائرة تحلق في الآفاق العليا على ارتفاع آلاف الأقدام كانت روحي لا تزال أسيرة السحر الذي غمرني بمجرد وصولي إلى هذه البلاد، وطواني وأنا أتنقل مذهولا بين مشاهد الطبيعة التي تتلألأ بألوان من الزهور والنباتات والأشجار وكأن الأرض قد فرشت بملايين الطواويس.

كان صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد لا يزال يشنف أذني وهو يرتفع من. مئذنة مسجد " شاه علام " في ضواحي العاصمة حيث تشع الطبيعة وظلال المسجد بهذا الصفاء النادر أو ما تسميه الشاعرة الماليزية " زورينه حسن " " بالفضاء الحي ". كانت الخواطر تتزاحم في مخيلتي وقد انطبعت في وجداني صور البشر الذين يفيضون بالطيبة والأنس ويتخلقون بأخلاق الإسلام الحقيقية، الصبر والتسامح والرفعة والسمو الإنساني والإخاء. وحين ورد على الخاطر بيت المتنبي الذي يقول فيه واصفا شعب بوان ببلاد فارس حين يقول:

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

لاحت لي على العكس ألفة حميمة ما أحسستها في مكان بعيد عن بلاد العرب من قبل.

هل كانت عبارة " الحمد لله " التي تتردد على الألسنة الماليزية مع كلمة السلام في كل وقت هي التي قتلت بيت المتنبي في نفسي؟!.

جسور غائبة

لقد تأملت الموقف الأدبي في بلادنا العربية وكيف أننا منذ عصر النهضة في القرن الماضي قد جعلنا من المصدر الأوربي مرجعا وحيدًا للمعاصرة. وتساءلت: لماذا غاب البعد الروحي في العلاقات الأدبية بيننا وبين العالم الإسلامي؟ نحن لا ننكر أن جهودًا قد بذلت من قبل المخلصين من أساتذة اللغات الشرقية لترجمة نماذج من الشعر الباكستاني والفارسي والتركي. ولكن ثمة بلادا كثرة لا تزال بأدبها بعيدة عن الوجدان العربي ومنها ماليزيا وأندونيسيا وأدب المسلمين في جنوب شرقي آسيا. لقد كان الشعر دائم مرآة حية لوجدان الشعوب ومعينا للحكمة ومصدًا للبهجة. وهو في كل ذلك تجسيد للحقيقة الكلية ببعدها الواقعي الاجتماعي وجناحها التاريخي وعمقها الروحي بمعنى أن الشعر هو أصدق الأجناس الأدبية في الدلالة على طبيعة وتكوين شعب ما من الشعوب إنه يشبه في ضرورته وحيويته وكثافته ودلالته على صحة الجسم ومرضه يشبه الدم الذي يجرف في العروق. إن تحليل عينة شعرية أصيلة من شاعر قوي القريحة والموهبة يكشف فوراً عن العناصر الأصيلة ليس في لغته وتراثه فحسب بل في أمته كلها. ومن هنا تأملت غياب البعد الروحي لا تأثر شعرنا المعاصر في السنوات المائة الأخيرة بالشعر الأوربي حتى عندما أفلس هذا الشعر، وصار مجرد ومضات ميتافيزيقية تضرب في أغوار المجهول الروحي واللاشعور، لوجداني ليخرج بعد ذلك عناقيد من الصور الرمزية التي تشبه المعادلات الرياضية الجافة. حتى هذه المرحلة التي لا تمت بصلة لتطورنا الروحي انعكست في شعرنا العربي المعاصر خاصة التيار التجريبي منه. ولست في هذا المقام داعيًا إلى نبذ التأثر بالشعر الغربي، ولكنني فقط أدعو لتوسيع رقعة التأثر وإدخال عناصر جديدة ولكنها تنتمي روحيا إلى رؤيتنا الإنسانية، وسنجد بالطبع أن هذه الآداب الإسلامية في بلادها قد تأثرت هي الأخرى بالشعر الأوربي بينما سعى عدد كبير من شعراء الغرب للكشف عن ينابيع للإلهام الشعري في أدب الشرق البعيد والقريب كما فعل جوته الألماني وازرابا بوند الأمريكي واليوت الإنجليزي وكما تأثر الشعر الفرنسي بالشعر الإفريقي.

إن فتح قنوات الاتصال الشعري مع بلاد الإسلام، وماليزيا من أبرز هذه البلاد، سيدفع بدماء حية جديدة إلى القصيدة العربية المعاصرة. من هنا جاء حرصي في هذه الإطلالة الموجزة على الشعر الماليزي مسترشدًا بكتابين مهمين هما " منتخبات من الأدب الماليزي المعاصر " للشاعر الدكتور محمد حاجي صالح و " الشعر الماليزي منذ عام 1975 إلى 1985 " للشاعر أحمد كمال عبد الله.

البدايات والانتماء للوطن

ولم يكن الشعر الماليزي المعاصر بعيدًا، منذ مرحلة النهضة التي بدأت عام 933 ا أن، عن التطورات الأساسية التي مرت بها ماليزيا، وكانت مرحلة اليقظة القومية تعتمد كل إحساس عميق بالانتماء إلى العناصر المشتركة سواء كانت عناصر عرقية أو دينية- أو وطنية. وقد نشأ " جيل الخمسين " الذي جسم بداية الوعي الاجتماعي متأثرًا بهذه العاصفة التي هبت على العالم الثالث طامحة إلى الاستقلال السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار. وقد كانت أشعار هذه الجماعة بداية الإحساس بالتضامن القومي في ماليزيا ويمثل هذه الجماعة الشعراء " عثمان أو انج " "ومسوري " وشعراء من خارج الجماعة مثل " أفريني أدهم" و " حليم أنور " واسمرا" و " يشارك نوريدا " " وسحميي حاجى محمد " و " مختار ياسين ". ورغم أن هؤلاء الشعراء قد انخرطوا في الهموم العامة وعبروا عن ذلك في قصائدهم إلا أنهم التفتوا إلى التجارب الذاتية مثل الحب والأمومة ومشاعر الأبوة يقول عثمان أو انج في قصيدة عن الوطن:

إن بطنك حبلى أيها الوطن
إنها حبلى بالأمطار والأشعة الهائلة
إن أطفالا جددا يولدون من بذور الفلاحين

إن الشاعر هنا يضم في قران شعري بين الإحساس بثراء طبيعته وبين الإحساس المتفائل بمستقبل شعبه كما لا تخلو الأبيات من دلالة إنسانية.

ويقول مسوري:

إن الفضيلة التي ندين بها
هي الدم. الدم المتدفق
في البذرة السائلة
التي تمنحنا الميلاد
لكننا ندين أولا
إلى الائم وإلى الأب
إلى زهرة الحب
إلى التعفف
نحن نعطي ونأخذ

وهكذا نجد أن الجيل الأول للنهضة الشعرية كان معنيا ومهمومًا بفكرة البحث عن الخلاص القومي ثم البحث عن الجذور الأولى وتأسيس قضية انتمائه. إنه إنتماء إنساني إلى الفطرة الأولى المتمثلة في الدم ثم في العلاقة الحميمة المتمثلة في الأم والأب.

بين الرمز والاحتجاج

لقد أعقب هذا الجيل الأول جيل جديد تفتحت مواهبه في الستينيات وتأثر بالجيل الأول ولكنه حاول تأسيس ذاتية جديدة وخطا بالقصيدة الماليزية المعاصرة خطوات أخرى على طريق التطور والنمو والثراء الفني والموضوعي، من أبرز شعراء هذا الجيل " صمد سيد " و " أمين نور " و " سالمي ما نجا " و " محمد غزالي ". لقد عمل هؤلاء الشعراء بجدية شديدة للتحرر من أشار الجيل السابق عليهم لتحقيق أصالتهم وتفردهم واتجهوا إلى لون من الذاتية الرمزية التى تعتمد على التكثيف والتركيز والبعد عن الإسهاب والإطناب. يقول الشاعر غزالي في قصيدته قطرة ندى:

قطرة الندى فوق قلبه
تعكس الليل الحالك
قطرة الندى فوق قلبه تقول
إن الشمس قد غربت
الندى فوق صدره
لكنها ليست من أجلها
قطرة الندى فوق
قلبه تعكس خيانته
الباردة

ويقول الشاعر أمين نور:

عش أولا
خطوات مبكرة ومتأخرة
ابتسامة في المدينة
إغراء خارجي
السموات تومض
أصوات تعلو
إنه صوت الإنسانية

لقد حاول هؤلاء الشعراء أن يطوروا تجربتهم إلى لون من التأمل الفكري كما فعل " صمد سيد " ولكن جيلاً جديدًا قد ظهر في مقدمتهم " قاسم أحمد " الذي عرف بالتزامه الاجتماعي وكتب قصائد تتسم بالتطور والتفوق مثل " الطريق إلى البرلمان " و " حوار " و " الأرواح المدعوة إلى الاجتماع " ومع هذا الشاعر تبرز أسماء شعراء آخرين هم " أنيس صابرين " و " بهاء زين " و " على أحمد ". وقد تمخض المعترك الشعري في هذه الفترة عن ظهور أنماط وأساليب جديدة تميل إلى البساطة والعمق كما نجد عند الشعراء أحمد كمال عبد الله " كمالا " و "فردوس عبد الله " و " عبد الوهاب علي " و " رستم " و " شمس والدين جعفر ". وقد حاول هؤلاء الشعراء العودة إلى الارتباط بالناس والحديث عن الحب والاحتجاج الاجتماعي ويقول الشاعر أحمد كمال عبدالله:

أنت مدعو إلى أن تحيا
والعالم مدعو إلى أن يكون جميلا
والبشرية مدعوة إلى أن تكون شريفة
والحب مدعو إلى أن يكون وفيا

الجذور وإعادة الاكتشاف

لقد تطورت التجربة الشعرية الماليزية فجاء محمد حاجي صالح ليكون صوتا جديدًا متميزًا. وركز في قصائده على ما يسمى بإعادة اكتشافه الجذور وحاول التخلص من السيطرة المباشرة للشعر الأوربي على الشعر الماليزي الحديث وكانت الأساطير القديمة والفلكلور والتاريخ بأمرائه ورجاله وناسه وأطفاله مصدر، ثرياً لتجربة محمد حاجي صالح الشعرية. يقول الشاعر محمد حاجي صالح في قصيدة " هذا الجانب من عالمي "

هذا الجانب من عالمي
يتطلب أن يكون لينا
في روحه ومقصده
هذا الجزء من عالمي
قد وضع وجهه في لفافات بلاستيكية
ويسير على إيقاع الماكينات
خلق الزمن لكي نحيا معا
لنخلق المعنى الذي يرتبط بالثقة
عظام الظهر التي تربط الجسم بأيامي
إن المدن تقيم حوائط نحيلة حول الحقيقة
بالإضافة إلى قنوات من الحامض
لا نستطيع أن نؤسس حضارة من
المعونات والمطالب ومناجم النحاس القديمة
أريد أن أتغنى بالحياة
مستخدمًا أغاني الطبيعة الحميمة
أن أصبح خلال الأيام
أصبح في التلال والحقول
أن أستمع إلى الطيور فوق الأشجار العالية
أن أسبح في النهر
أن أتحدث بلغة طاهرة
أن أقع في حب الجنس البشري
أن أكون مرغوبًا كرجل
قويا.متعاطفا مفهوما

ومنذ عام 1975 وحتى منتصف الثمانينيات والشعر الماليزي يمر بمرحلة بالغة الحيوية في تاريخ الأدب الماليزي المعاصر ويتبدى ذلك في تنوع الأصوات وفي الأساليب الفنية التى تعبر عن مواقف أشد اتساعا. لقد كان الإسلام والتاريخ والطبيعة والأمل هي العناصر القوية المكثفة داخل المرحلة الشعرية المعاصرة في الشعر الماليزي. إن التواصل العربي مع الآفاق الأدبية في عالم المشرق الأقصى عامة والبلدان الإسلامية خاصة يمكن أن يقيم توازنا ملهما في التجربة الشعرية العربية المعاصرة بدلا من هذا الولع الشكلى الزائف بالتجربة الشعرية الأوربية. إن تنويع الرؤية ومصادر الإلهام وعناصر التأثير والتأثر يمكن أن يقيم جسورًا عريضة وقوية تعبر فوق المشاعر والتجارب والرؤى المتجددة كما تساهم بصورة عميقة في خلق هذا التفاهم الإنساني والذي يعد الشعر أجمل قنواته وأشدها صلابة لارتكازه على عنصر اللغة والتراث المشترك والوعى بالحياة والحلم بالأفضل. وليست ماليزيا في هذا المجال إلا مثالا حيا وجذابا لبلاد أخرى في جنوب شرق آسيا وفي إفريقيا وربما شرق أوربا أيضا مثل يوغوسلافيا وألبانيا. إن صوت الشعر الجميل يفصح دائما وفي إيقاع متناغم عن حنين الإنسان لأخيه الإنسان وشوقه لمعرفته ثم التآخي معه. وهذه الإطلالة على الشعر الماليزي المعاصر ليست إلا ومضة متواضعة من هذا الوهج المنير الذي سطع منبعثا من كوالا لامبور في زيارة قصيرة ولكنها بالغة الثراء.