تـجربة عـبدالـله الـفـرج فـن غـناء (الصوت)

تـجربة عـبدالـله الـفـرج فـن غـناء (الصوت)

مجموعة ألحان الصوت التي لحنها الفنان الكويتي عبدالله الفرج, والتي سُجِّلت بفكرة وإشراف المؤرخ الكويتي والأديب المعروف المرحوم أحمد البشر الرومي, وبصوت الفنان الكويتي الكبير يوسف البكر, قد تعطي فكرة بسيطة عن إمكانات هذا الفنان المبدع, ولكنها لا تعطي الحقيقة الكاملة عن أصالته, أو الدور الذي لعبه في التأثير الكبير في الأغنية الخليجية.

الفرج كما هو معروف فنان مطبوع, لم يكترث للثروة التي خلّفها له والده بعد أن مات, وهو في سن مبكرة, بل بدّدها في وقت قصير, لأن المادة لا وجود لها عنده, ولا تهمه كثيراً, ويكفيه من حياته الشعر والغناء فهما أبقى. وأنت عندما تفتح الراديو أو التلفزيون في أي محطة خليجية, يتردد على مسامعك الصوت العربي أو الشامي أو الخيالي. مما يدلّ على شعبية هذا النمط من الغناء, وتقبل الشعب الخليجي له, حتى أصبح إحدى سمات الغناء في دول الخليج العربي.

والحق يقال, أننا نشأنا ونحن نستمع إلى الصوت, بمختلف أشكاله, فيشدنا, وتبهرنا الإيقاعات الجميلة, وتؤثر فينا المعاني البسيطة وتهزنا من الأعماق, وتثير فينا الشجن, أو كما عبّر عنها شاعرنا المرحوم محمد الفايز عندما قال:

صوت الدفوف يرن في أذني فتشربه العروق من الحنين.

إيقاعات الفطرة

وكنا نربط هذه الألحان, وما تحمله من معان, وإيقاعات إلى تجاربنا الخاصة. ونتمثل فيها معاناتنا الشخصية, كل حسب ظروفه.

ومازالت تلك الأصوات تتردد في المخيلة, ولها التأثير نفسه بالرغم من مضي الزمن. فهي خالدة فعلاً. مثل:

جفني لطيف الكرى يا صاح قد هجرا ودمع عيني دماً يوم الفراق جرا


أو

أمر على الأبواب من غير حاجة لعلي أراكم أو أرى من يراكم


أو - من هوى بدري وزيني

أو - جرحت قلبي

أو - ملك الغرام عنانيه

أو - يا ليلة دانا - لدانا

وغيرها وغيرها الكثير. هذه الأغاني التراثية التي فيها بصمات عبدالله الفرج, والتي تجاوزت شعبيتها الكويت, إلى دول الخليج قاطبة, ولقيت النجاح الباهر الذي تستحقه فعلاً.

وأعتقد أن الصوت بمختلف إيقاعاته, نال هذه المكانة المرموقة في قلوب الشعب, لسمات محددة ميزته عن أشكال الأغاني العربية الأخرى. وربما يرجع السبب إلى ما يلي:

أن ألحان الفرج, وعلى الأخص الصوت بإيقاعاته المؤثرة نابعة من الفطرة. إنه فن الطبيعة الذي تشعر وأنت تستمع إليه, ببساطة اللحن. ولكن وراء هذه البساطة عمقا وإحساسا وانفعالا.

إنه فن السليقة الذي لم يتدخل فيه العلم بتقنياته, أو ضوابطه أو قوانينه. ومع ذلك تشعر طيلة الوقت بأن هنالك ميزاناً دقيقاً جداً, وأن أي خلل في اللحن أو الإيقاع يفقد الأغنية رونقها وبهاءها. وهو فن يختلف في مجمله عن (الجداء) الذي يشدو به البدوي وهو يقطع فيافي الصحراء على جمله. حيث إن اهتمام البدوي هو بكلمات الشعر أكثر من اهتمامه باللحن أو الإيقاع أو الأداء. وفي ألحان عبدالله الفرج استخدام أكبر للسلم الموسيقي من ارتفاع وانخفاض. كما أنه استثمر المقامات العربية الأصيلة من رصد وبيات وهزام, الخ أحسن استثمار. وهذا في حد ذاته تطور كبير في مجال الأغنية.

الميزة الأخرى التي يتسم بها الصوت, هي الوحدة القوية بين الإيقاع واللحن, بحيث تشعر بأن كلا منهما يكمل الآخر. وأن اللحن من دون إيقاع لا طعم له. وأنك لو تعمدت تغيير الإيقاع يفقد اللحن تأثيره. كالجسد والروح, فهما متلازمان ولا قيمة لأحدهما دون الآخر.

وينبع جمال الصوت من السكتات المفاجئة والمتماشية مع اللحن, والتي لها أثرها العميق في النفس, وجرسها الخاص في أذن السامع.

الميزة الثالثة للصوت هي مشاركة المستمع بالتصفيق (الإيقاع) وأحيانا بالغناء (التوشيحة). ومن الملاحظ أن الجمهور يتعطش لإيقاع الصوت, فتراه يستعجل المغني على خشبة الصالة, والذي يبدأ عادة بالموال بصياحه (صوت.. صوت). إن هذه المشاركة الجماهيرية بالتصفيق أو ترديد بعض المقاطع, تقضي عادة على الرتابة, أو الترديد في اللحن, وتعطي للصوت حيوية وتجدداً طيلة الوقت.

إن ألحان الفرج - الصوت بالذات - وضعت للعود والمرواس, إلى جانب الصوت الإنساني. وقد يضاف الكمان لدعم اللحن. وهذه الآلات البسيطة كافية ومعبّرة, ومن الظلم استخدام آلات أخرى فائضة عن الحاجة كما شاهدت في عدة مناسبات.

فهي لن تضيف شيئاً, ولا لزوم لها. وهي عامل تشويه أكثر منه عامل تطوير. إن عملية التطوير أمر آخر له قواعده وأصوله. فإذا لجأنا إلى التراث, واستثمار بعض ألحانه, فقد نستوحي جملة من الجمل الموسيقية ونبني عليها في خلق عمل موسيقي جديد, تسري فيه دماء جديدة بالرغم من أن ملامح الأصل قد تبرز على السطح بين وقت وآخر. وفي هذه الحالة, يمكن أن نستخدم آلات موسيقية أو إيقاعية حسب الحاجة التي يتطلبها الموقف, أو تتطلبها الأحاسيس. ويكفي أن أعطي مثالاً على الموسيقى التصويرية لفيلم (الرسالة) التي وضعها الموسيقار الفرنسي (Mousis Jarr), والمستوحاة من الأذان. فبالرغم من أنك تشم طيلة الوقت رائحة الأصل, وتطل عليك ملامحه, فإن الموسيقى في حد ذاتها خلق جديد مستقل, ومؤثر أيضاً, بتوزيعه الموسيقي وتفاعله, وسرعاته المتغيرة حسب المواقف, وإيقاعاته المستخدمة بتقنية العالم الخبير بفنه.

الأمر الآخر المميز للصوت, هو شعورك وأنت تستمع إلى اللحن وإيقاعاته بتأثير عبدالله الفرج القوي النفاذ. فقد طبع الصوت بطابعه, ونفخ فيه من روحه إلى درجة أن سماعك لأي صوت جديد, فإنك تزنه بوجدانك, وتقارنه بما يتوافر لك من ذخيرة أصوات الفرج. فإذا شعرت بالسليقة بأن هذا اللحن الجديد, يقتفي الأصل في طريقة التلحين, ومطابقة الإيقاع مع اللحن, فإنك تجيزه وتتقبله. وهو شعور المستمع الخليجي بالذات, الذي نشأ وترعرع على سماع الصوت منذ نعومة الأظفار. وبقدر ما يكون هذا الصوت قريباً من روح الفرج, وفيه بعض سماته, بقدر ما يحكم له بالأصالة ويكتب له النجاح. إلى هذا المدى تسيطر روح الفرج على الصوت الكويتي بالرغم من مرور أكثر من مائة عام. وهي مدة كبيرة حصلت فيها تطورات حضارية جذرية يطول الحديث عنها.

ثروة فنية

إنه بالرغم من أهمية عبدالله الفرج بصفته واضع الأساس لما يعرف اليوم بالأغنية الخليجية ذات الإيقاعات المتعددة والمتميزة, وعلى رأسها (الصوت) بمختلف أشكاله وإيقاعاته, فإننا لا نعرف عنه الكثير. ولولا أن الشاعر خالد الفرج نشر الجزء الأول من أشعاره (النبطية), وكتب مقدمة قصيرة عنه, لما توافرت لدينا أي معلومات قيّمة. ويذكر أن كثيراً من شعره النبطي والفصيح, ومن ألحانه التي كما يذكر زادت عن الثلاثمائة أغنية, فقد الكثير منها, لعدم تقدير من تحولت إليه تلك الثروة الفنية, لأهميتها ووزنها في عالم الفن, إن شعراً وإن موسيقى. وقد كنا نسمع القصص الغريبة, ونحن صغار, عن الثروة التي تركها له والده بعد وفاته وهو في سن الثامنة عشرة. والتي بدّدها بوقت قصير لميله إلى (اللهو والملاذ) كما يذكر خالد الفرج في مقدمته القصيرة عنه لشعره النبطي, الذي نشر منه الجزء الأول فقط. مما يدل على أن المادة لا تهمه كثيراً بقدر ما يهمه الفن, إن شعراً وإن غناء, وهي صفات الفنان المطبوع. وبعد أن بدّد الثروة في الهند, عاد إلى مسقط رأسه. وكان يتردد بين الكويت والبصرة. وتوفي عام 1319هـ معدماً.

ويذكر خالد الفرج في مقدمته القصيرة أيضاً أن عبدالله الفرج متضلع بالموسيقى, وأنه تعلم الموسيقى الهندية على يد أساتذة هنود, وأنه تأثر بهذه الموسيقى. وأنه وجد بين أوراقه ألحاناً مكتوبة بالنوتة (الهندية) التي تختلف عن النوتة الغربية التي ندرسها في مدارسنا. والحقيقة أنني قضيت خمس سنوات في الهند كرئيس للبعثة الدبلوماسية في نيودلهي. وكنت مهتماً بالموسيقى الهندية التي أكن لها كل الإعجاب, ودرست (الراج) الهندي على يد عازف السيتار المعروف بالهند (بيدي سنج). ومما لاحظته في الهند تقديس الفنان, سواء أكان هذا الفنان عازفاً أم مغنياً أم راقصاً. ومن مظاهر هذا التقديس تقديمه على سواه في المناسبات المهمة. وكنت تشاهد الهنود في الحفلات العامة أو على الكراسي إن وجدت, أو جالسين القرفصاء وعلى الأرض وهم يصيخون السمع إلى الموسيقى أو الغناء وكأن على رءوسهم الطير. ويطلقون صيحات الإعجاب تجاوباً مع المغني أو العازف أو الراقصة. وكان مدرس الموسيقى (سينج) الذي كنت ألتقي به مساء كل جمعة لأتعلم على يديه أشكال (الراج) الهندي الذي أكتبه بالنوتة الغربية جملة جملة, لأردده فيما بعد في الحصة القادمة على العود. وكنت ألاحظ أصابع (سينج) وقد تشققت وجفت من فرط التدريب المستمر على السيتار. وذكر لي أنه يتدرب على السيتار خمس ساعات يومياً. وعندما يعزف الراج, يغمض عينيه ويغيب في تأملات صوفية عجيبة. يمط في اللّحن في البداية, ثم تدب الحركة في اللحن, ليتسارع, وهو في غاية انفعاله, حتى يصل إلى الذروة, فيما يشبه تدفق النهر أو سحّ السحاب, لينهي مقطوعة (الراج) التي يعزفها.

التأثر والابتكار

وبالرغم من أن عبدالله الفرج أخذ الكثير من أصول الفن عن الموسيقى الهندية, وأنه تأثر بها, فإنه لم يكن مقلّداً.

وكانت له شخصيته المرتبطة أصلاً ببيئته. وكان مبتكراً طيلة الوقت. فعلى مدى السنوات الخمس التي قضيتها في الهند, وتتبعي للموسيقى الهندية, لم ألحظ أي تشابه في الإيقاع, وبالذات إيقاع (الأصوات). ومن غريب الصدف أنني عند زيارتي إلى صنعاء في (اليمن) في السبعـــينيات, لاحظت أن اليمنيين يغنون الصــــوت بإيقاع مخـــتلف تماماً. وأنه لم يصل إلى أعماق وجداني كما هو الحال مع أصوات عبدالله الفـــــرج. وقد يكون السبب أننا نشأنا على هذه الأصوات منذ الصغر, وتعودت عليها أسماعنا, ومن ثم لا نتقبل أي تغيير فيها. أو ربما يكون السّر في تأثيرها على الســــكتات الجميلة وغير المتوقعة التي تتميز بها الإيقاعات في ألحان الفرج. والحقيقة أن إيقاع الصوت العربي كان يرن في أذني وأنا أؤلف الحركة الرابعة (نبع الذكريات) من العمل السيمفوني (السباحة ضد التيار), منذ بداية اللحن وحتى نهايته بسرعات متفاوتة, حسب المواقف والأجواء والأحاسيس. وكذلك في الحركة الأولى (الخضوع للقدر) من العمل السيمفوني (رحلة حياة), حيث استثمرت إيقاع الصوت العربي قبل نهاية الحركة بقليل. ومع الأسف لم يكن (المرواس) متوافراً في الأوركسترا في لندن فاستخدمت آلات إيقاع أخرى ومنها (التمباني) التي لا تملك التأثير الذي تتمتع به (المراويس) والتي تشير إلى البيئة الخليجية.

ومن اللافت للنظر أيضاً الجرأة التي اتسم بها عبدالله الفرج في مجاهرته بالفن والموسيقى في مجتمع متزمت, مقيد بعادات موروثة وتقاليد دينية تعتبر الغناء محرماً. ولذلك, فقد كان الغناء يمارس في السر, وفي أماكن نائية بعيدا عن الأهل والجيران. إن مجرد امتلاك آلة عود أو كمان على مرأى ومسمع من الأهل, أمر ترفضه التقاليد آنذاك, ويخدش الحياء الديني. ويذكرني الحال بشاعرنا العظيم فهد العسكر الذي كان يتحدى المجتمع المتزمت بأشعاره الجريئــــة والقـــــوية. فكان الفنانان كلاهما يسبحان ضد التيار في عصرهما

 

علي زكريا الأنصاري







عبدالله الفرج





عبدالله الفرج مع مجموعة من الباحثين