ديفيد هوكني والاسـتشـراق المعاصر

ديفيد هوكني والاسـتشـراق المعاصر

على خطى أسلافه الفنانين الأوربيين الكبار الذين سبقوه في زيارة الشرق والتأثر بحضاراته أمثال ديلاكروا وماتيس وبول كلي, ومن بني قومه البريطانيين المقيمين في مصر في الفترة المتقدمة من القرن التاسع عشر أمثال إدواردلين وديفيد روبرتس واستانلي بول وغيرهم, قام الفنان التشكيلي ديفيد هوكني - أحد أبرز فناني العالم المعاصر - بعدة رحلات إلى كل من مصر عام 1963 وبيروت عام 1966 لعمل رسومات تحضيرية لبعض قصائد الشاعر اليوناني كافافيس (1863-1933), الذي عاش ومات في الإسكندرية, وقد عاد هوكني إلى مصر مرة أخرى عام 1978 لرسم وتصميم مناظر أوبرا الناي السحري لموزارت, وقد كان هوكني يبدي دائما إعجابه بثقافة الشرق, كما اهتم بالفن المصري القديم وانشغل بعظمته وقوانينه الصارمة, وانعكس ذلك على رسوماته التي رسمها أيام دراسته بكلية الفنون الملكية بلندن مستخدما الأسلوب الفرعوني في تصوير الأشخاص كما في لوحات (موكب الوحصاء العظيم) و(انتظار البرابرة) 1961, ولوحتي (الزواج الأول) عام 1962 و(الزواج الثاني) عام 1963.

أما رحلته الشهيرة الأولى فكانت لمصر في أكتوبر عام 1963, زار فيها القاهرة وضواحيها والإسكندرية ثم الأقصر وأسوان, وقد تمت بدعوة خاصة من صحيفة الصنداي تايمز اللندنية مع بداية شهرته وحضوره القوي في وسائل الإعلام المختلفة وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين.

وكانت رحلة مثمرة أنتج بسببها أربعين لوحة تعد من أكثر لوحاته إبداعا لمرحلة مهمة من حياته وتطوره الفني, نالت مكانة مرموقة وشهرة عالمية, رغم أنها لم تنشر كما كان متفقا عليه, لتزامن موعد النشر وحادث اغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي, وانصراف الاهتمام العالمي لهذه الكارثة آنذاك.

والعمل الذي نتناوله - كاراج شل - يعكس ما يعرفه الفنان هوكني من أوضاع وأحوال عن مصر في فترة الستينيات برؤية خيالية مركبة استوحاها من احتكاكه المباشر واليومي بالحياة في مدينة الأقصر (جنوب مصر) حيث يقع كراج كتب عليه كلمة شل باللغتين العربية والإنجليزية, ويظهر في الجانب الأيسر من اللوحة صورة كبيرة للرئيس جمال عبدالناصر, وتتقاطع على جانب منه نخلة فارعة لقدمها ممشوقة من أسفل اللوحة حتى نهاية اللوحة من أعلى, كما يبدو واضحا شعار كوكاكولا المعروف أعلى يسار البورتريه بلونه الأحمر الزاهي, وكان هذا الشعار بمنزلة إعلان يصنع من الصاج المغطى بطبقة من المينا (بالحرارة), أما الجانب الأيمن من اللوحة فنشاهد فيه شابا وخلفه يقف رجل أكبر منه عمرا يعتمر طربوشا ويرتدي جلبابا مع سترة.

توحي اللوحة للمتلقي من الوهلة الأولى برؤية خيالية مركبة لملصق سياسي تعكس أحوال مصر الاجتماعية والاقتصادية ورؤية الغرب لناصر ودوره, إلا أن اللوحة - كما الاسكتش الملوّن أيضا - استخدمت فيها أبسط الوسائل وأرقها بلا تكلف, خطوط حرة مختزلة ومجردة يحملها قيمة تعبيرية جميلة, وقد اختار الفنان الأقلام الخشبية الملوّنة - التي استخدمها من قبله الفنان تولوز لوتريك (1864-1901) في رسمه للمشاهد الليلية للحانات ودور اللهو مادة بسيطة ووسيلة سلسة ساعدته على ترجمة أحاسيسه وسرعة تسجيل ما يراه. ويدهشنا أسلوبه العفوي الأقرب لخصائص رسوم الأطفال واتجاهاتهم في التعبير, وهو ما يتجلى في غالبية أعماله في تلك المرحلة. كما نشاهدها لدى الفنان المصري القديم والهندي وكذلك بعض الفنانين المحدثين من صفات الحذف والإضافة والمبالغة والتسطيع وأحيانا اللجوء إلى عبارات مكتوبة في اللوحة, فنرى هوكني يبالغ في تكبير بورتريه عبدالناصر دون الإخلال بالتوازن في اللوحة, ويلجأ إلى تسجيل أسماء وجمل باللغة العربية بشكل أكثر في بعض لوحاته الأخرى لهذه المرحلة كعلامات تصويرية تشكيلية, لما كان للغة العربية وقعها وسحرها الخاص عليه.وقد ولد ديفيد هوكني في برادفورد في يوركشاير بإنجلترا عام 1937, ومن عام (1953-1957) درس بمدرسة برادفورد للفنون ثم التحق بالكلية الملكية للفنون بلندن عام (1959-1962) ولفت انتباه الرأي العام في لندن عندما عرض مع المعاصرين الشباب, وأقام معرضه الشخصي الأول عام 1963 بجاليري الياسمين.

وانتبه إلى التصوّر الفوتوغرافي وتقنياته واستخدمها عام 1964 لعمل دراسات للوحاته عن (حمام السباحة) واستخدم في تنفيذها خاصة الأكريلك لأول مرة, وإن كان قد عاد مرة أخرى للموضوع نفسه عام 1978 وأنتج سلسلة من اللوحات عرفت بالأحواض الورقية استخدم فيها كرات الورق المعجر باللون. وفي العام ذاته قام بزيارته الثانية لمصر بغرض إعداد تصاميم مناظر أوبرا الناي السحري ليرسم أشكال الأهرام والنخيل والصحراء ورءوس التماثيل الفرعونية الضخمة, وقد عرف عنه اشتغاله المثير بتصميم مناظر الأوبرات الشهيرة وبملابس الممثلين التي بدأها مبكرا - عام 1966 - عندما قام بتصميم مناظر مسرحية الفرد جاري (الملك يوبي), ثم تلاها بسلسلة من الأعمال الأوبرالية لموزار ولترافينسكي وبوتشيني وفاجنر وشتراوس, كما عرف عنه كثرة الترحال والتنقل التي بدأها من بداية الستينيات بزيارة نيويورك ولوس أنجلوس وباريس ولندن وهاواي وألمانيا واليابان. وهوكني الذي عرف بغزارة إنتاجه وبراعته وذوقه الفني الرفيع يعتبر أحد أشهر الفنانين البريطانيين المعاصرين, وأحد أعظم رسّامي العالم الأحياء في عصرنا الحديث, له آراء وكتابات في الفن أيضا, وأصدر كتابا ذاتيا عام 1976, وكتابا آخر بعنوان (هذه نظرتي) عام 1993 وكتابا ثالثا حمل عنوان (المعرفة السرية: إعادة اكتشاف تقنيات ضائعة للأساطين القدماء) نشره عام 2001

 

يحيى سويلم







ديفيد هوكني بريشته





كراج شل - الاقصر 1963 قياس 13.8 x 50.3سم - اقلام خشبية ملونة على ورق