المتحف الوطـني للآثار شاهـد عـلى حضارات لـبنان

المتحف الوطـني للآثار شاهـد عـلى حضارات لـبنان

غنى لبنان بالآثار والفنون دفع باتجاه تنامي عمليات التنقيب عن الآثار في أرضه من قبل المتخصصين وهواة جمع الآثار وتجارها في القرن التاسع عشر.

بعد أن تعددت عمليات المسح الأثري في القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر, شهد لبنان منافسة حادّة على التنقيب عن آثاره, وتصويرها وفك رموزها ونقلها سرياً إلى أوربا لتملأ متاحفها. كانت هذه المنافسة بمنزلة الوجه الآخر للمنافسة الأوربية على بسط النفوذ الاستعماري عليه. وقد شهد لبنان عمليات تنقيب وسرقة لآثاره القيّمة والنادرة بصورة فردية, أو منظمة لها علاقات بقناصل الدول الأجنبية وسفرائها, أحياناً في وضح النهار بالتواطؤ مع سلطات الباب العالي العثماني, وأحياناً تحت جنح الظلام. وأهم هذه السرقات: سرقة (نواويس) وجدت في بيروت عام 1839 وتم شحنها آنذاك إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد شرائها على متن باخرة القائد (جس إليوت) وضباطه وسرقة النواويس من مغارة (عبلون) و(القياعة) في صيدا وحملها إلى فرنسا لتستقر في اللوفر إضافة إلى لقى أثرية ونقوش وكتابات فينيقية وجدها أرنست رينان ومعاونوه حتى عام 1887, حين وضعت السلطة العثمانية بإدارة حمدي بك (أمين متحف السلطنة) يدها على المقبرة الملكية ونواويس نادرة من صيدا لتستقر في متحف اسطنبول.

غير أن تجذّر وعمق الحضور الفرنسي اللغوي والثقافي في لبنان, الذي تنامت وتيرته بهدوء وعمق حتى عام 1860 (وقت الفتنة الطائفية الكبرى) ضمن استراتيجية الإرساليات والأديرة والرهبان والقناصل والتجار, اتخذ طابع الهيمنة والاستثمار بعد دخول الجيش الفرنسي لتهدئة الفتنة. وقد رافقت الجيش الفرنسي عام 1860 بعثة فرنسية رسمية بإشراف أرنست رينان للتنقيب عن الآثار في لبنان بناء على قرار من الإمبراطور نابليون الثالث. وبقيت هذه البعثة في لبنان سنوات عدة رغم عودة رينان إلى فرنسا بعد سنة واكتشافه لمفاتيح الحضارة واللغة والفينيقية والرومانية في لبنان. هذه البعثة فتحت صفحة جديدة لعلاقة فرنسا بالحضارات اللبنانية, شبيهة من حيث الغاية بالبعثة الأثرية التي رافقت حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام عام 1798.

متاحف محلية

وحيث كان الشرق الإسلامي آنذاك خاصة مصر ولبنان والجزائر وتونس والمغرب, أرضا مستباحة تستخرج منها الآثار وتنقل دون مبالاة السكان المحليين والسلطات إلى متاحف فرنسا. ومع تنامي الوعي الوطني والقومي في هذه البلدان وتنامي بعض أصوات المثقفين الفرنسيين احتجاجاً على نهب الآثار القومية للشعوب باعتبار أن المعلم الأثري والفني لا يجوز سلخه عن محيطه وبيئته وأرضه الأم, وقد برز مثقفون وطنيون هنا وهناك يطالبون بوقف نهب الآثار وإنشاء متاحف وطنية, واضطرت السلطات الفرنسية لاحقاً في عهد الانتداب لإنشاء متاحف محلية في هذه الدول, فأنشأ الفرنسيون مصلحة الآثار وتبعها قرار بإنشاء متحف وطني (للآثار والفنون الجميلة) في لبنان في عام 1927.

وقد تهافت علماء الآثار الفرنسيون للتنقيب عن الآثار في لبنان في عهد الانتداب, كما أن هواية جمع الآثار كانت منتشرة في صفوف قادة الجيش الفرنسي في لبنان, وأبرزهم الضابط ريمون ويل قائد احدى الوحدات الفرنسية المقيمة في لبنان, الذي جمع آثاراً مهمة في عام 1919, ثم حفظها وعرضها لاحقاً في قاعة تعود لمبنى الراهبات الألمانيات في شارع جورج بيكو, في بيروت وأصبحت فيما بعد, نواة لمجموعة المتحف الوطني. وقد أنشأت سلطة الانتداب مصلحة الآثار (التي أصبحت فيما بعد مديرية للآثار) وعين شارل فيرولو مديراً للآثار آنذاك, فحوّل قاعة العرض المذكورة إلى متحف لاستقبال كل الآثار من الأراضي اللبنانية. وفي عام 1928 أسندت هذه المهمة إلى الأمير موريس شهاب الذي ترأسها مع المتحف الوطني لغاية الثمانينيات.

خلال شهر يوليو 1927 كانت الجمهورية اللبنانية قد قررت إنشاء متحف وطني في بيروت. فتشكلت لجنة برئاسة شارل دباس الصديق الكبير لفرنسا وعضوية نخبة من رجال السياسة والفكر منهم جاك ثابت وهنري فرعون وغيرهم.

وأعلن عن مسابقة مفتوحة أمام المهندسين لتقديم مشروع مخطط لمبنى المتحف بجائزة مالية وقدرها عشرة آلاف فرنك للفائز بالمشروع. وقد فاز مشروع البناء الذي قدمه المهندس أنطوان سليم نحاس والمهندس لوبرانس - رنغي عام 1928.

قدمت بلدية بيروت الأرض بمساحة 4366مترا مربعا كهبة, على تقاطع طريق الشام مع كورنيش المزرعة أي في المدخل الجنوبي الشرقي لمدينة بيروت.

بدأ التنفيذ بالبناء عام 1930 وتم إنجازه عام 1937, في ذلك الوقت كانت هناك خمسة متاحف تحت ظل الانتداب الفرنسي, هي متاحف بيروت ودمشق وحلب وإنطاكية والسويداء.

افتتح المتحف رسميا في 27 مايو1942 تحت رعاية رئيس الجمهورية اللبنانية ألفرد نقاش. وقد استمر متحفاً للآثار حيث أزيلت عبارة (الفنون الجميلة) من الاستعمال على أمل إنشاء متحف للفنون الجميلة لاحقاً. لكن لبنان مازال إلى اليوم دون متحف رسمي وطني للفنون الجميلة رغم صلابة عود الحركة التشكيلية اللبنانية, وغنى أجيالها وتياراتها على مدار قرن ونيف من تاريخ ظهورها.

طراز حديث

إن فكرة إنشاء مبنى للمتحف الوطني في بيروت, فرضت على المهندسين المتقدمين للجائزة أو المناقصة, مسألة الطابع المحلي الأثري والمعماري للمبنى مع الحفاظ على وظيفته الحديثة بحفظ الآثار والأعمال الفنية القديمة وعرض ثروات البلاد وإبراز معالمها الحضارية, وقد لعب الدور المهم في تحديد طراز المبنى أمران:

الأمر الأول: إن فكرة المتحف (ميزيوم) نشأت في بلاد اليونان وارتبطت بأرباب الحكمة في أكاديمية أفلاطون وأرسطو, كما ارتبطت بالطراز المعماري الكلاسيكي اليوناني القديم. لذلك نرى أن معظم متاحف أوربا التي أنشئت في القرن الثامن عشر (قرن المتاحف) كانت تبنى على الطراز الكلاسيكي باعتبار أن الحضارة المعمارية اليونانية رمز الثقافة الأوربية, ولكن من شروط المسابقة التركيز على النكهة المحلية لطراز المتحف المعماري وهو حرص ثقافي فرنسي على احترام ثقافات الشعوب المحلية والسعي لبلورتها وتعزيزها.

الأمر الثاني: إن أرض لبنان الكبير تحتوي على مواقع وكنوز أثرية تعود لحضارات الشرق القديم حضارة الآشوريين وبلاد فارس, الحضارية الفرعونية والكنعانية, حضارات العالم اليوناني والروماني, فالحضارة المسيحية والإسلامية. إذن, هناك مزيج من الحضارات مجتمع في أرض لبنان, وليس هو لبناني الطراز البحت. فسمي (المتحف الوطني للآثار) وليس (متحف الآثار الوطنية), ما جعل معضلة اختيار طراز المبنى من قبل المهندسين, مسألة تستحق البحث. فلابد من إيجاد طراز شرقي محلي يضم آثار كل هذه الحضارات بتناغم معماري وأثري. فالمتحف سكن الماضي, عليه أن يكون متكيفاً بصرياً وجمالياً ووظيفياً مع محتوياته من جهة ومع محيطه من جهة أخرى.

فالمقتنيات مختلفة الأحجام (النواويس الفخمة والتماثيل الكبيرة مع الحلي والمجوهرات والخزفيات والأواني البرونزية), ومن المتوجب جمع كل الأقسام الضرورية في حياة المتحف (أجنحة وصالات العرض, ورش الصيانة والترميم, المكتبة أو قسم الموسوعات الأثرية الشرقية, مكاتب أمانة المتحف, والحراسة, مخازن الحفظ, إيجاد صالات عرض مؤقتة, المراحيض وقسم المبيعات والتذاكر وغيرها), ولابد من طراز معماري يجانس بين الآثار المتنوعة.

ابتكر المهندسان نحاس ولوبرانس - رنغي طرازاً ومخططاً ملائماً لكل هذه الشروط ومتوافقا مع شكل قطعة الأرض الممنوحة والمنحرفة قليلا فجاء الطراز على شكل مربع وله جناحان بخط متواز على أطراف المربع, وصممت الواجهة على شكل واجهة هيكل ذات أعمدة أربعة تنتهي بتاج عمود على شكل زهرة اللوتس وهو طراز فرعوني للأعمدة.

ويتم الدخول إلى المتحف عبر باحة خارجية وبواسطة درج منحوت, عرضه 70مترا, يتصل بمصطبة الأعمدة, وهو تقليد مأخوذ من معابد الكرنك ووادي النيل. يتم الولوج إلى داخل المتحف عبر عدة أبواب متصلة ببعضها. بني المتحف من الحجر الطبيعي الرملي اللون (بدلاً من الأسمنت والدهان الذي كان مبرمجاً).

يتألف المبنى من الداخل من ثلاثة طوابق.

الطابق السفلي, الطابق الأرضي والطابق الأول (وقد بني هذا الطابق بتراجع جزئي يسمح للزائر, بأن يرى الطابق الأرضي ومقتنياته من داخله).

احتضن المتحف الوطني مجموعة كبيرة ومتنوعة من الآثار والأعمال الفنية النادرة, أكسبته غنى وتنوعاً حضارياً بين متاحف المنطقة العربية.

تم نقل الآثار إليه من شارع جورج بيكو - عام 1938, ثم أضيفت إليها آثار تم العثور عليها في صيدا, وقام بها الدكتور جورج كونتينو إضافة إلى هبات تقدمت بها البعثة الأمريكية في سوريا وهي عبارة عن خمس وعشرين ناووساً على هيئة إنسانية من مجموعة فورد, أضيف إليها لاحقاً مجموعة مسكوكات هنري سيريغ الذي شغل منصب مدير الآثار آنذاك.

ضمت قاعات العرض بعيد افتتاح المتحف آثاراً وفق تسلسلها الحضاراتي:

الطابق السفلي وشمل معالم دفن الأموات من العصور الهلنستية والرومانية ذات الأشكال الإنسانية من مجموعة (فورد الشهيرة) ومجموعة فريسك, ونواويس من المرحلة اليونانية والرومانية والبيزنطية.

الطابق الأرضي وهو عبارة عن بهو واسع لا فواصل فيه, عرضت فيه تماثيل ومنحوتات كلاسيكية (رومانية - يونانية) أضيف إليها ناووس أحيرام الشهير وتيجان - أعمدة من العصر الفارسي مكتشفه في صيدا, ونقوش وكتابات فينيقية تعود للقرن الثاني عشر, وكذلك نقوش هيروغليفية من عهد رمسيس الثاني, إضافة إلى فسيفساء الحكماء السبعة.

الطابق الأول أو العلوي: عرضت فيه قطع أثرية ومجموعات تعود إلى عصر ما قبل التاريخ (ناتجة عن أبحاث قام بها الآباء اليسوعيون في لبنان ومنهم: ديسكريب, وبوفييه لابيار, باسمار وبالاري).

شملت المعروضات العصر الكلكوتي الممثل بخزفيات من جبيل والعصرين البرونزي الأول والثاني تتمثل بلقى وجدت في جبيل ومدافن لبعة شرقي صيدا, إضافة إلى لقى من معبد أشمون في صيدا التي تعود إلى العصر الفارسي, وكذلك مجموعة نادرة من الكتابات والنقوش التي تدل على تطور الكتابة الأبجدية في جبيل.

وعمدت الدولة اللبنانية لاحقاً إلى تطوير مقتنيات المتحف عبر سياسة تقوم على شراء الآثار التي عثر عليها عرضاً من قبل الأفراد, وكذلك تبادل بعض القطع الأثرية المزدوجة مع متاحف عربية أو عالمية, وتوسيع رقعة الحفريات الرسمية التي غذت مقتنيات المتحف على مدار القرن العشرين حتى نشوب الحرب الأهلية وأهم هذه الحفريات في صيدا وصور, والصرفند, وكامد اللوز والخرايب, وغيرها من المناطق اللبنانية. أقفل المتحف الوطني للآثار أبوابه في بيروت طيلة حوالي عقدين من الزمن. واحتجبت مقتنياته في حوالي 20 مكعبة اسمنتية حتى عام 1995 موعد ابتداء أعمال إزالة هذه المكعبات التي حفظت الآثار الوطنية طيلة الحرب, وبالرغم مما تعرضت إليه من رطوبة وسقوط بقع أسمنتية على بعض المقتنيات عند عملية صب الاسمنت حولها.كما أن بعضها لحقه اسوداد بفعل النيران, فإنها استعادت هذه المقتنيات حيويتها لدى إعادة افتتاح المتحف الوطني بعد ترميمه وتنظيف وتوثيق اللقى الأثرية. إن أهم ما يواجهه المتحف الوطني اليوم إعادة الكشف عن الأرشيف والمكتبة التي من الواجب أن تكون في متناول الباحثين والدارسين والمهتمين بعلم الآثار.

ناهيك عن صغر حجم المتحف الوطني قياساً على الغنى الأثري للبنان. فلبنان قادر على استيعاب شبكة من المتاحف الوطنية تغطي معظم محافظاته, وتدر على الدولة اللبنانية عائدات هائلة نظراً لحجم إيرادات المتاحف الوطنية في الدخل القومي.

فمازال واقع تطور علم الآثار اللبناني ومديرية الآثار وإصداراتها المتخصصة وكذلك حجم عمليات التنقيب عن الآثار في المواقع الأثرية اللبنانية وترميم ما يجب ترميمه وصيانته, مقصوراً على خطط السياسة الثقافية لما قبل الحرب. أي لم يلحظ نهضة على مستوى طموحات القرن الواحد والعشرين. ومازالت الأطر العريضة لسياسة الانتداب الفرنسي الثقافية تشكل معالم تطور هذا الحقل المعرفي الواجب استثماره معرفياً ومادياً في نهضة لبنان الاقتصادية والسياسية. ومازلنا نفتقر إلى دراسات وأبحاث أثرية - علمية, تعيد قراءة تاريخ الفنون في لبنان من وجهة نظر محلية وطنية متجانسة منهجياً, ومتطورة تقنياً. لكل الحضارات التي تعاقبت على أرضه, كما شكل تاريخه مسرحاً لكل الصراعات الأوليمبية في المنطقة, فكلما قلبنا حجراً وجدنا أثراً, وكلما ازددنا تعمقاً في تاريخ لبنان, زدنا قلقاً على واقعه ومستقبله. لعلها لعنة التاريخ والجغرافيا معا انصبت على تكوينه لتشكل جاذبيته

مرجعية رئيسية

إن ما قدمه الباحثون الفـرنسيون أمثال: أ. رينـــان, هـ. لافوا, موريــس ديناند, موتــــرد, ج. مـــندل, كوليـــنيه, ب. مونتيه, روفييه, ر. ديسو, جوبلان وجان لوقرريه من دراسات تأسيسية في علم الآثار اللبناني مازال يشكل المرجعية الرئيسية في معرفة حضارات لبنان وتاريخ فنونه.

كما أن بعضهم أمثال موريس ديناند وجان لوفريه ارتبطت الحفريات الأثرية في جبيل وبيروت بجهودهم التي دامت حوالي الأربعين عاماً. وقد عادت حملات التنقيب عن الآثار لترتبط في التسعــيــنــيـــــات (أي بعد الحرب) بالـ (IFAPO) وعلماء الآثار الفرنسيين في كل من بيروت وتل عرقه وكامد اللوز وصور وصيدا وغيرها, لقد اشتبك علم الآثار في لبنان بعلم الآثار الفرنسي اشتباكا عضوياً وهو ثمرة طبيعية لجهود فرنسا منذ الحروب الصليبية بربط لبنان بدائرة نفوذها الحضاري.

 

زينات بيطار







البهو الرئيسي ــ الطابق الأرضي ـ المدخل





تمثال من الحقبة الرومانية





 





ناووس من الحقبة الرومانية القرن الثاني / الثالث الميلادي يصور مشاهد منحوتة من أسطورة أخيل ــ من حفريات مدينة صورفي جبيل , العصر البرونزي





مسلة تزينها نقوش هيروغليفية باسم آبي شامو أمير جبيل. وجدت في معبد المسلات في جبيل , العصر البرونزي





القرن الخامس أو الرابع ق.م من لقى آبادنا, صيدا, لبنان