الصقور والحبارىعلاقة تتجه إلى خط الـنهايـة

الصقور والحبارىعلاقة تتجه إلى خط الـنهايـة

لم يترك العرب الأقدمون أثرا وراءهم كالنقوش أو الرسوم أو الكتاب يؤكد أنهم كانوا البادئين برياضة الصيد بالصقور, على الرغم من ولعهم المتوارث بها من جهة, وملاءمة البيئة الجغرافية لشبه الجزيرة العربية للصقور وفرائسها من طيور البر وخاصة الحبارى من جهة أخرى.وهذه الحقيقة التاريخية لا تقتصر على رياضة الصيد بالصقور فقط, بل قد تشمل أشياء كثيرة, بسبب أن العرب كانوا يحملون ذاكرتهم معهم أينما ذهبوا من جيل إلى جيل عبر الرواية الشفوية لاورق .. لابردى .. لاألواح.

تقول الروايات أن أول من صاد بالصقر من العرب ودربـــه, هـــو الحارث بــن معاوية بن ثور بن كندة. حيث وقف ذات يوم عند صياد ينصب شبكة للعصافير, فانقض صقر على عصفور علق في الشبكة وأخذ يأكله وما لبث أن علق جناحاه بها..., والحارث ينظر إليه ويعجب من فعله, فأمر به, فحمل إليه ووضع في بيت وأوكل به من يطعمه ويعلمه الصيد, فصار يحمله على يده, وذات يوم وهو سائر رأى الصقر حمامة فطار عن يده إليها وانقض عليها وهم بأكلها فأمر الحارث عند ذلك بتدريبه وتهذيبه والصيد به.

وبينما هو يسير يوما لاح له أرنب فطار الصقر إليه وأخذه. فلما رآه الحارث يصيد الأرنب والطير ازداد إعجاباً به ومن يومها عرف العرب الصيد بالصقور. وعرف الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك منذ كان أميراً بحبه الشديد لرحلات القنص واقتناء الصقور, ودلل على ذلك الأمر حينما تولى خلافة المسلمين, فقد عيّن الغطريف بن قدامة الغساني في منصب سمي بصاحب صيد هشام بن عبدالملك, سواء بسواء مع صاحب الشرطة والولاة والصعاليك.

وضمن هذا السياق التاريخي حول نشأة رياضة الصيد بالصقور, يعتبر الكتاب الياباني (خلاصة مما كتب عن رياضة الصيد بالصقور - قديما وحديثا), من أقدم المراجع في العالم التي تحدثت عن نشأة رياضة الصيد بالصقور, وفيه تسجيل لرحلة قنص علية الشأن شارك فيها الملك الصيني (تسو ون وانج) الذي حكم تلك البلاد من عام (689) إلى عام (675) قبل الميلاد.

علاقة غير متوازنة

من بين الكثير من العادات والأساليب المعيشية القديمة لدى عرب الجزيرة العربية التي اندثرت, بفضل تحسن العوامل الاقتصادية والاجتماعية, بقيت رياضة الصيد بالصقور صامدة حتى الوقت الحاضر, بزخم ربما فاق اهتمام الأولين بها خاصة بعد أن طغى جانب الترفيه والتسلية فيها على حاجة الصقار الماسة إلى الغذاء له ولعائلته.

ورغم جمالية الاحتفاظ ببعض الموروثات القديمة وإحيائها بين الحين والآخر أو كلما حان وقتها, كما يحصل مع كل شعوب الحضارات الأخرى, فإن موازين تلك الرياضة لم تعد كما كانت في السابق, حيث مالت كفة الصقور على كفة طائر الحبارى الذي أصبح اليوم مهدداً بالانقراض. وساهمت عدة عوامل مهمة في اختلال العلاقة بين الصقور والحبارى, على رأسها تحسن الأوضاع الاقتصادية للصقار العربي في منطقةالخليج والتي نتج عنها إمكانية احتفاظه بطيره طوال العام, وليس فقط خلال موسم الصيد, وأيضاً إمكان امتلاكه لأكثر من صقر واحد, وقدرة الصقار الخليجي على السفر لدول أخرى تكثر فيها طيور الحبارى, وبخاصة مواطنها الأصلية وأخيراً تحسن طرق العناية بالصقور ومعالجتها من الأمراض المختلفة.

كل ذلك لم يقابله على الطرف الآخر تطور مماثل في حياة طائر الحبارى الذي ظل كما هو منذ الأزل عنيدا متخفيا لا يقبل بالتكاثر إلا في مكانه الأصلي, مما صعب من مهمة إكثار ذلك النوع في الأسر وحفظ أنواعها كباقي الطيور والحيوانات الأخرى المهددة بالانقراض.

مجلة (العربي) ارتأت تلمّس هذه العلاقة المختلة بين الصقور والحبارى, بين الصياد وطريدته المفضلة, عن قرب وبحثت عما يجمع الاثنين في أرض واحدة فلم تجد أفضل من مدينة أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة, التي أولت فيها هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها كلا الطائرين عناية خاصة, وأنشأت لكل منهما مراكز متخصصة تسعى إلى إعادة التوازن في العلاقة المختلة بين الصقور والحبارى ومحاولة إنقاذ الأخيرة من الانقراض.

مستشفى للصقور

يومنا الأول في أبوظبي كان تنسيقياً بالدرجة الأولى, حيث قمت وزميلي المصور بزيارة (إيرودا) وهو الاسم المختصر لهيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها, لإجراء الترتيبات اللازمة لزيارة كل من مستشفى الصقور والمركز الوطني لبحوث الطيور, خاصة أن المسافة من أبوظبي مقر سكننا إلى كل من المكانين المذكورين تستغرق ذهاباً وإياباً ساعات طويلة, وهو أمر يتطلب منا الاستيقاظ المبكر صباحاً. والذهاب مع سائق يعرف الطريق جيداً في كبد الصحراء حيث يقع كل من مستشفى الصقور ومركز الطيور, وقد تم تسهيل مهمتنا الصحفية بإرسال كل جهة لسائقها الخاص مما جعل رحلتنا بين الرمال الصفراء نزهة برية.

من العلامات البارزة دوليا وإقليميا في مجال العناية الصحية المتخصصة بالصقور - رغم حداثة إنشائه - يظهر أمامنا مستشفى أبوظبي للصقور التابع للمركز الوطني لبحوث الطيور.

الذي يقوم منذ افتتاحه في 2/10/1999 بتقديم العناية الصحية الحديثة للطيور بشكل عام وطيور الحبارى والصقور التي تستخدم في رياضة الصيد بشكل خاص. ويقدم المستشفى خدماته للصقارين بدولة الامارات ودول مجلس التعاون الخليجي من خلال تقديم العلاج للصقور وتقديم المعلومات اللازمة للصقارين للعناية الصحية بالطيور والمحافظة عليها. ومنذ أن وصلنا إلى مستشفى أبوظبي, وأعداد من الصقارين تتدفق إلى قاعة الاستقبال, وكل يحمل طيره على يده اليسرى منهم صقارون من دولة قطر الشقيقة أكدوا لـ (العربي) أنهم اعتادوا زيارة المستشفى في الشهر مرة واحدة على الأقل لإجراء بعض الفحوصات الروتينية لطيورهم للتأكد من سلامتها وخاصة قبل بداية موسم الصيد.

يتكون مستشفى الصقور, من مبنى حديث متكامل يضم (40) جناحاً لعلاج الطيور و(20) جناحاً للعزل, وقاعة فسيحة للكشف على الطيور وتخديرها وإجراء بعض العمليات البسيطة, أما العمليات الجراحية فتوجد لها غرفة مجهزة بكامل المعدات الطبية. ويضم المستشفى مختبرات خاصة بالطفيليات وفحوص الدم وعلم الأحياء المجهري والمناعة, ومشرحة لدراسة الأمراض المسببة لحدوث حالات الوفاة في الصقور.

ويؤكد طبيب المستشفى الرئيسي الدكتور لاكو مولنال - ويحمل الجنسية الهنغارية - أن مرض (السامور) من أكثر الأمراض انتشاراً بين الصقور, ويسبب هذا المرض وهنا شديدا في القدم أو كلتا القدمين وفي الحالات المتأخرة فإن أوتار وعظام قدم الصقر تتأثر بشكل كبير بحيث يصاب الطائر بالعرج وهو ما يجعله غير قادر على الصيد مرة أخرى. وينتشر مرض السامور بشكل خاص في أشهر الصيف وفي فترة استبدال الريش وكذلك عندما يقل نشاط الصقر وخاصة عندما لا يتوافر له الغذاء الملائم والماء الكافي.

رقاقة إلكترونية

الطبيب لاكو كان يتحدث معنا وهو يتحرك هنا وهناك في مختلف أرجاء قاعة الكشف. ونحن ملتصقون به وعدسة الكاميرا تلاحقه خطوة بخطوة, فمثلاً هو يذهب إلى أحد أعضاء فريقه في إحدى زوايا القاعة ليخدر أحد الصقور, وفي الطريق يجيب بسرعة عن أسئلة صقار شاب , ثم يتوقف لافتاً نظرنا (العربي) إلى مدى صغر حجم الرقاقة الإلكترونية التي سوف يدخلها تحت جلد أحد الصقور.

يقول الطبيب لاكو عن ذلك: (وفرت هيئة أبحاث البيئة حلقات مرقمة لكل طيور الإمارات تثبت في ساق كل صقر لتسهيل إمكان التعرف عليها في حال أسرها مجدداً أو وجودها ميتة, وأيضاً إلى جانب الحلقة أو (الحجل) باللهجة المحلية, هناك شريحة صغيرة تعرف باسم (جهاز الإرسال الحثي السالب (PIT)) تزن حوالي عشر (0.1) جرام تحت جلد كل صقر, تحمل كل بيانات الصقر وصاحبه). وبينما هو يتحدث إلينا توجه لاكو إلى أحد المغاسل وسكب على يديه سائلا مطهرا, ثم تناول قفازاته الجلدية وقال: (سنجري الآن عملية جراحية سريعة لصقر أصيب بمرض السامور), عندما أمسك الطبيب بقدمي الصقر الغارق في سبات عميق لم تبد على وجهه الكثير من علامات السعادة لأنه وجد حالة إحدى قدمي ذلك الطائر متأخرة كثيراً, أما الثانية ففيها الكثير من الأمل بشفائها. لقد توقعنا أن هذه الأورام الواقعة تحت قدمي الصقر عبارة عن انتفاخ مليء بالسوائل ولكن ما إن (شق) لاكو ذلك الورم حتى خرجت منه حبيبات جافة فاتحة اللون كأنها التراب لا أكثر قام بإخراجها رويداً رويداً. ثم التفت إلينا مشيراً بإصبعه إلى باطن القدم (إن البشرة الميتة من السهل اختراقها من قبل البكتيريا).

بعد أن انتهى الطبيب لاكو من عملية التنظيف. رش على الجرح المفتوح مضادات حيوية تضمن حمايته من الالتهابات. بعدها قام بخياطة الجرح ثم لفه بأكثر من لفافة كان آخرها اللفافة الزرقاء. والعملية نفسها تكررت مع القدم الأخرى, ومع كل عملية كان يتحلق حول الطبيب مساعدوه حتى يزدادوا منه خبرة ودراية.

هذه الخبرة اتضحت حينما تحولت زيارة أحد الصقارين من زيارة فحص روتيني لطيره إلى عملية جراحية, فبينما كان ذلك الصقر بالخارج انكسرت أحد أظفاره المتصلة بعرق نزف كثيراً من جراء ذلك الكسر المؤلم.

لاكو تحول بسرعة من عملية إزالة السامور إلى عملية ترميم الظفر المكسور, وعلق (لا بد أن تقلم جميع أظافر الصقر بين الحين والآخر, حتى لا تطول وتصل إلى مرحلة الانكسار أو جرح باطن القدم).

الغريب في هذا الأمر أن الصقر الأول الذي أجريت له عملية السامور, انتعش ووقف شامخاً بعد نزع كمامة التخدير من على رأسه بوقت قصير وقام بطريقته بتفحص الأوضاع الجديدة التي طرأت على قدميه وكأنه يقول (لقد تخلصت من هم ثقيل). إن هذه الطيور تنام بسرعة وتصحو أسرع.

في خضم هذا الجو من العمليات الجراحية المتلاحقة سألنا لاكو.عن الفترات التي يشتد الإقبال فيها على مستشفى الصقور? رد علينا: (نحن نعتبر الفترة الممتدة من سبتمبر حتى فبراير مرحلة عمل بالنسبة لنا, وربما نقوم في اليوم الواحد خلال تلك الفترة بعشرين عملية جراحية, أما في فترات توقف موسم القنص, فعملنا يقتصر على الفحوص الدورية للصقور وإجراء بعض العمليات الجراحية).

أضاف : (من أهم الأمراض الرئيسية التي تصيب الصقور في دولة الإمارات ويتم علاجها بالمستشفى الأمراض التي تسببها الطفيليات والبكتيريا والفيروسات بالإضافة إلى الإصابات الفطرية للجهاز التنفسي, ويقوم مستشفى الصقور بالسيطرة على انتشار الأمراض المعدية بين الصقور وذلك بعزل الطيور المتوقع إصابتها بمرض معد وحفظها في غرف خاصة تعرف بأجنحة الحجر الصحي وذلك لحماية الصقور الأخرى من العدوى بالأمراض التي تصيبها وأهمها بالإضافة إلى السامور مرض (الرداد) وهو مرض فطري يصيب الجهاز التنفسي للطيور, وتعد هذه الأمراض أحد أهم أسباب نفوق هذه الطيور).

الحجر الصحي

أمضينا الآن ما يقارب الساعات الثلاث مع لاكو وفريقه الطبي وحان الوقت للقيام بزيارة سريعة لأجنحة الحجر الصحي وغرفة العمليات الجراحية وبعض المختبرات. أما الأخيرة فقد قمنا باستكشافها أكثر من مرة بسبب مرافقتنا المستمرة لأعضاء الفريق الطبي الذين كانوا يشرحون لنا ما يقومون به. أما غرفة العمليات الجراحية فموعدنا معها في النهاية لأن لاكو أخبرنا بأنه سيجري عملية سونار لأحد الصقور, وأما أجنحة الحجر الصحي فكان لنا هذه الجولة السريعة داخلها.

ذهبنا-أنا وزميلي المصور والطبيب لاكو- إلى أجنحة الحجر الصحي, في الحقيقة لم يكن داخل هذه الأجنحة سوى صقور معزولة وهادئة جدا بعضها نشيط نسبة إلى تحسن حالته وبقيتها هادئة جدا من شدة المرض. ممر طويل قطعناه بين غرف ذات اليمين وذات اليسار, وفجأة فتح لاكو باب إحدى تلك الغرف فأصابنا الفزع من أن يقوم الصقر الموجود خلف الباب باقتلاع إحدى عيوننا لأننا قطعنا عليه خلوته الطويلة, ولكن الصقر وجــــميع الصــــقور الأخـــرى مــربوطة في أوكارها... ولله الحمد. ويشرح لنا لاكو طبيعة المحجر الصحي قائلا: (كل غرفة من هذه الغرف لها نظام تهوية مختلف حسب حالة كل طير يمكث فيها, وهذه الصقور لا تحجز داخل غرفها طوال الوقت, حيث توجد بالقرب من نهاية الممر غرفة واسعة يتم إطلاق بعض الصقور فيها لمساعدتها على الشفاء السريع). مضيفا: ( المشكلة الرئيسية التي نعاني منها مع هذه الصقور, أنها بعد بعض الوقت تعتاد علينا, وتنسى أصحابها القدامى, فإذا ما تعافت حالتها وجاءوا لأخذها, انقلبت عليهم ساخطة وغير متقبلة لفكرة ذهابها مع الغرباء).

في طريق العودة من مبنى المحجر الصحي, توقف لاكو وأشار بيده إلى أحد المباني وقال: (هنا يقع نادي الصقارين, وهذا النادي يهدف إلى نشر الوعي والارتقاء بمستوى رياضة الصقور في دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة الخليج العربي بهدف المحافظة عليها كتراث مهم في المنطقة, بالإضافة إلى نشر أخلاقيات رياضة الصيد بالصقور والتعريف بصفات الصقور وعاداتها وأطوار حياتها وأنواعها ومواطنها الأصلية, وهجراتها ونقل إرث الأجداد في هذا الصدد إلى الأجيال القادمة تحقيقا لاستمرارية هذه الرياضة على نحو سليم يحول دون تعرض الصقور والحبارى إلى الانقراض).

في غرفة العمليات كانت هناك عملية سونار تنتظرنا, كان هناك من جهزها بالكامل حتى وصول الطبيب للبدء فوراً بالعملية, عندما دخلنا الغرفة وجدنا صقراً مخدرآً مستلقياً على ظهره, الدكتور لاكو لم يلبس هذه المرة قفازيه الجلديين لا نعرف لماذا? قام بمساعدة زميله بالتأكد من سلامة الكاميرا المثبتة على رأس السلك الذي سيقوم بإدخاله داخل أحشاء الطير النائم, وبجانب رأسه شاشة تلفزيونية تعرض ما تلتقطه عدسة الكاميرا حتى يجد الطبيب ضالته من البحث. قام لاكو برش سائل على مكان الفتحة التي سينفذ منها إلى داخل الصقر, وبدأت العملية, وطوال الوقت كانت عيون لاكو ومساعده لا تفارق شاشة التلفزيون التي بدأت تكشف مجهول الداخل حتى تم الوصول إلى مكان الخلل المتوقع, وكان عبارة عن مرض أصاب الجهاز التنفسي للطائر.

انتهت العملية وانتهت معها زيارتنا ولكن الطبيب لاكو وفريقه الطبي واصلا عملهما الذي لا يتوقف سوى القليل من الساعات.

مركز لبحوث الطيور

بعد أن انتهينا من رحلة مستشفى الصقور, كان موعدنا في اليوم التالي في توقيت أبكر مع المركز الوطني لبحوث الطيور المتخصص حالياً في سبل حماية الحبارى من الانقراض, وبينما كنت أتناول طعام الإفطار على عجل مع زميلي المصور, هو يتفقد عدساته وعلب الأفلام وأنا أتأكد من آلة التسجيل وأشرطة الكاسيت والأوراق البيضاء, اقتربت منا امرأة سمراء ترتدي ملابس أشبه بالتي أراها في بعض برامج قناة (ديسكفري) التلفزيونية ومن لكنتها الإنجليزية المتكسرة عرفنا على الفور أنها هندية, واستعجلنا الانتهاء من إفطارنا ويبدو انها تعرفت علينا بسهولة ربما من (العدة) الصحافية التي نحملها, وفي السيارة الجيب التي أقلتنا عرفنا أنها دكتورة أحياء.

وما إن وصلنا إلى مكاننا المطلوب داخل المركز حتى تفرق الجمع وذهب كل منا الى حاله.

استقبلنا منسق الشئون الإدارية الشاب الإماراتي محمد صالح البيضاني الذي اصطحبنا إلى قاعة الاستقبال الرئيسية والعرض التلفزيوني, وقبل أن نبدأ الحديث عن أي شيء أخذنا البيضاني إلى ساحة ترابية مربعة بعد أن أزاح الستارة عن النافذة الزجاجية التي تشرف على تلك الساحة المحاصرة من الجهات الأربع بمباني المركز. وقال: شاهدوا ذكر الحبارى هنا إنه الآن يمر بمرحلة التزاوج, نحن نراه وهو لا يرانا, سألناه وكيف سيتم ذلك قال: انتظروا قليلا!!

وفجأة دخلت فتاة تعمل في المركز تلبس لباساً أزرق اللون, تحمل دمية حبارى, قال لنا البيضاني إنها دمية أنثى, الذكر لم يهرب من الفتاة التي اعتاد على مشاهدتها يوميا وباللباس نفسه, جلست على الأرض, الذكر اقترب شيئا فشيئا من الدمية, ثم حط فوقها واستقر قليلاً, الفتاة أخرجت علبة بلاستيكية دائرية الشكل ووضعتها بين الذكر والدمية الأنثى, وفي لحظة معينة سحبت الفتاة الدمية وعادت من حيث جاءت وأخذت معها العلبة التي أقفلتها بإحكام, وذهب الذكر إلى تأدية طقوس فترة التزاوج. يقول البيضاني لقد حصلنا للتو على سائل منوي لذكر الحبارى سيتم تجميده واستخدامه لاحقاً لتلقيح الإناث به.

بعد هذا العرض غير المتوقع جلسنا والسيد البيضاني للتعرف على المهام التي يضطلع بها المركز الوطني لبحوث الطيور التابع لهيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها في دولة الإمارات العربية المتحدة والذي يعد أحد المراكز المهمة في المنطقة نظرا للدور المتميز الذي يلعبه في مجال حماية الطيور وتكاثرها وبالأخص في مجال حماية الحبارى والصقور. في عام 1998 تمكن المركز من إكثار طيور الحبارى في الأسر حيث تم التحكم بدرجات الحرارة والإضاءة, وتم تجهيز المركز بسويحان ليكون المركز الرئيسي لحضانة ورعاية فراخ الحبارى على أن تكون حديقة الحيوان بالعين الموقع الذي يتم فيه الاحتفاظ بالأنواع الأخرى من الطيور حيث تعيش في مساحات كبيرة وظروف شبه طبيعية.

تحت الخوف

ويمثل عامل الخوف العائق الرئيسي في عملية تكاثر الحبارى, إذ يمنع إفراز بعض الهرمونات التي تساعد على تكوين الحيوانات المنوية في ذكر الحبارى.

ويقول محمد صالح البيضاني: (حتى نضمن تآلف الذكر مع البيئة الجديدة التي وجد فيها يجب إحضار ذكر الحبارى إما فرخاً أو بيضة وإطعامه بواسطة أشخاص محددين يرتدون ملابس لا تتغير, إلى أن يصل الذكر إلى مرحلة التزاوج دون الاكتراث بمن حوله).

وفي العام 1999 استطاع المركز تطوير تقنية تجميد السائل المنوي لطائر الحبارى في سائل النيتروجين إلى درجة 70 درجة تحت الصفر خلال ثوان قليلة وبذلك يمكن الاحتفاظ به لفترات طويلة, وعند الحاجة إليه تتم إعادته إلى الحرارة الطبيعية لتخصيب أنثى الحبارى. ويعتبر عام 2000 من أفضل الأعوام لبرنامج الإكثار في الأسر حيث شهد هذا العام نجاحاً في تربية الحبارى بالإضافة إلى الحبارى الآسيوية والحبارى ذات العرف والحبارى (أبيض البطن) مما جعل المركز من أنجح المراكز العالمية في تربية الحبارى في الأسر.

ويحذر البيضاني من الأخطار التي تهدد طير الحبارى من عدة نواح والتي قد تنتهي باندثار رياضة الصيد بالصقور (القنص) لأن الحبارى كما هو معروف الفريسة التقليدية للصقر, ومع تطور إمكانات الاحتفاظ بالصقور طوال العام ودخول السيارات والأجهزة الحديثة في رياضة الصيد بالصقور وانتشار الصقور المهجنة التي تباع بأسعار زهيدة مقارنة بأسعارها في الماضي زاد عدد الصقارين وعشاق هذه الرياضة, كل ذلك على حساب طير الحبارى الذي لم تتحسن أوضاعه مثلما حصل مع الصقور.

ويضيف البيضاني: (تعتبر جمهورية كازاخستان من أهم مناطق تكاثر طير الحبارى في العالم, وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي وظهور جمهوريات وسط آسيا ومنها كازاخستان, أدى ذلك الأمر إلى انفتاح الساحة أمام عدد كبير من الصقارين من منطقة الخليج للذهاب إلى مناطق تكاثر الحبارى هناك للصيد بها, وكازاخستان التي خسرت الكثير من العملات الصعبة بسبب ذهاب أولئك الصقارين إلى مناطق هجرة الحبارى القريبة منها مثل باكستان وإيران تساهلت إلى حد كبير في هذه المسألة على أمل جذب أولئك الصقارين إليها. كما أن دولة مثل الصين تتكاثر فيها الحبارى بصورة جيدة ولو طلب منها إنشاء محميات طبيعية لها يردون علينا: نحن نحافظ عليها ثم تهاجر إلى باكستان لتجني الأخيرة أموالاً طائلة من الصقارين العرب, وفي ظل هذه الأوضاع سيتم في المستقبل القضاء على الحبارى من مواطنها).

إعادة تأهيل

ويرتبط المركز الوطني لبحوث الطيور باتفاقيات تعاون مع عدد من المؤسسات والمجموعات البحثية حيث يرتبط باتفاقية تعاون مع أكاديمية العلوم بجمهورية كازاخستان, مجموعة العمل بروسيا, حماية البيئة بمنغوليا, ومؤسسة الصقور العالمية بباكستان بهدف التعاون في مجال إجراءات مسوحات للصقر الحر كما عقد اتفاقية مع معهد البحوث الزراعية بسيبيريا في مجال أبحاث صقر الشاهين. كما يقوم المركز أيضا بتنفذ برنامج طويل المدى لدراسة أعداد الحبارى وتوزيعاتها في أواسط آسيا لتقييم الحال الصحية لمجموعات الحبارى الآسيوية. ويتم ذلك من خلال شبكة تضم (11) محطة تمتد من بحر قزوين إلى شرق بحيرة بلكاش في كازاخستان.

وتحدث البيضاني عن الصعوبات التي تواجه الخطط والبرامج الموضوعة لحماية طير الحبارى قائلاً: (المشكلة الرئيسية التي نواجهها هي عدم وجود قوانين محلية رادعة لعمليات صيد الحبارى أو الاتجار بها حيّة. خاصة في البلدان التي تتكاثر بها, فمثلا لا تحرم الكثير من الدول الأوربية عمليات صيد الطيور, ولكنها تحرص على السماح باصطياد الفائض منها حتى لا يقضي نوع على نوع, مما يستوجب على الدول الحريصة على الطيور النادرة تحديد مواسم للصيد وليس منعها نهائيا, وللعلم, فإن أسر الحبارى من أجل تدريب الصقور والاتجار بها أخطر بمرات كثيرة من عمليات القنص نفسها, لأن الصقر ممكن تدريبه على الصيد بواسطة أنواع أخرى من الحيوانات غير المهددة بالانقراض).

ويحدد البيضاني ثلاث طرق رئيسية تساعد على وضع النسب المئوية التي توضح زيادة أو نقصان أعداد طيور الحبارى وهي: رصد تحركات الحبارى على مدار العام خاصة في فصلي الشتاء والربيع, نجاح نسبة التعشيش في الطبيعة, عودة الحبارى التي ركبت على ظهورها أجهزة الرصد المرتبطة بالأقمار الصناعية, مضيفاً: (منذ عام 1988 ونحن على علم بجميع أعداد الحبارى في كازاخستان من شرقها إلى غربها وشمالها إلى جنوبها).

ويمثل عام 1998 بداية التعاون بين المركز الوطني لبحوث الطيور مع الجمعية البحثية الكازاخية (معهد مكافحة الطاعون سابقاً) لرصد مسار تعداد الحبارى الآسيوية المهاجرة في كازاخستان حيث قام فريق العمل بمسح مسافة تقدر بـ(000ر20) كيلومتر في كل من فصلي الخريف والربيع في المناطق الملائمة لوجودها.

انقراض على الأبواب

ومن خلال جمع بيانات معدل الوفيات في طيور الحبارى ومعدلات ما ينتج سنويا من الأفراخ في البرية وتحليل هذه البيانات باستخدام الحاسب الآلي, تم التوصل إلى أن هناك خللاً في التوازن البيئي وأنه لا يوجد توازن بين ما يتم صيده, وما ينتج سنوياً في البرية من فراخ, الأمر الذي ينبئ بوصول نسبة الفقد في أعداد الحبارى, كما يؤكد محمد صالح البيضاني, إلى 94% وذلك خلال السنوات الخمسين القادمة.

ويمكن للصقّارين العرب المساهمة في تقليل الضغوط التي تعاني منها طيور الحبارى البرية وذلك بواسطة استخدام الأنواع الأخرى التي يمكن إكثارها في الأسر لتدريب صقورهم. إذ إن أعدادا كبيرة من طيور الحبارى البرية التي يتم جلبها بواسطة المصايد غير الشرعية (تحديداً في كل من باكستان وإيران), تباع بعد ذلك بطرق غير شرعية في الجزيرة العربية لأغراض تدريب الصقور على الصيد. ونتيجة لهذا يتم سنوياجلب ما يزيد على 6000-7000 طير حبارى إلى دولة الإمارات فقط لأغراض التدريب.

وهذه الطيور تعتبر خسارة كبيرة في الأعداد البرية وتصبح بالتالي غير متاحة للصقارين. لذلك , فإن المركز الوطني لبحوث الطيور يولي برامج الإكثار في الأسر اهتماماً بالغا ً من أجل الحصول على أنواع أخرى من الحبارى ليتم استخدامها كبدائل لتدريب الصقور. بعد هذا العرض الذي قدمه لنا البيضاني, انضم إلينا مدير المركز الوطني لبحوث الطيور أوليفر كمبرو وهو يحمل الجنسية الفرنسية, كي يقوم معنا بجولة سريعة على الأقفاص التي تحتجز فيها الحبارى لمشاهدتها عن بعد وعن بعد جدا لأسباب عدة من أهمها أن الحبارى التي ذهبنا إليها من الإناث وهي إلى حد كبير تفضل التخفي. وتطلع الغرباء إليها خلال هذه الفترة (فترة التزاوج) خاصة فلاشات المصور يصيبها بالذعر الشديد, مما سيؤثر سلباً على برنامج الاكثار الذي يقوم به المركز حالياً.

اعتاد الصقار العربي منذ القدم بعد انتهاء موسم الصيد إعادة إطلاق صقره إلى البرية التي جاء منها وذلك لتحقيق هدفين رئيسيين هما التخلص من وزر رعاية ما لا طاقة له به, والسماح للصقور بالتكاثر بصورة طبيعية, لكن مع تحسن الأوضاع المادية للصقارين هذه الأيام أصبح بالإمكان الاحتفاظ بأكثر من صقر واحد وتجهيز بيوت خاصة لكل واحد منها والمحافظة عليها طوال فصل الصيف, وهذا الوضع أدى بالضرورة إلى قلة الالتزام بالعادة العربية القديمة وهي إعادة إطلاق الصقور سنوياً إلى البرية بعد انتهاء موسم الصيد.

ويعد برنامج الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة لإطلاق الصقور التي تنظمه سنويا هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها منذ عام 1995 بالتعاون مع مستشفى الصقور والصندوق العالمي لحماية الطبيعة والمؤسسة الدولية للصقور في باكستان, من المساهمات البارزة في المحافظة على الحياة الفطرية وحمايتها.

وتمثل منطقة شيترال - التي تم اطلاق الصقور فيها أخيرا - الواقعة بشمال باكستان قرب الحدود الباكستانية - الأفغانية على سلسلة جبال هندوكوش أحد مسارات هجرة الصقور المتجهة نحو الشمال خلال فصل الربيع إلى مناطق تزاوجها في وسط آسيا, فضلاً عن توافر الفرائس التي تقتات عليها حيث توجد هناك أعداد كبيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة شمالاً, وهي بمنزلة الفريسة النموذجية لصقور الشاهين. كما تتميز هذه المنطقة بوفرة المياه ودرجة الحرارة المناسبة للصقور في هذا الوقت من السنة.

وتخضع جميع الصقور المختارة للإطلاق إلى إجراءات بيطرية صارمة حسب الإجراءات المتبعة دولياً في برامج إطلاق الطيور. حيث تم وضعهما في العزل تحت المراقبة الدقيقة لمدة شهر واحد في مستشفى الصقور بالخزنة ومستشفى أبوظبي للصقور التابع للهيئة بغرض فحصها للتأكد من خلوها من أي التهابات جرثومية أو طفيلية, ويتم اختيار الصقور التي ثبت خلوّها تماماً من الالتهابات والفيروسات للمرحلة النهائية من برنامج الإطلاق, وبعد اكتمال الاستعدادات نقلت الصقور بطائرة نقل تابعة لسلاح الجو الإماراتي إلى منطقة شيترال في باكستان.

ولرفع لياقتها خضعت الصقور المعدة للإطلاق لتمارين يومية استمرت أسابيع عدة تم خلالها أيضاً تزويد الصقور بغذاء متكامل لزيادة وزنها, الأمر الذي قد يزيد من فرص بقائها حية خلال الفترة الحرجة التي تقوم فيها الصقور بإعادة تكييف نفسها مع الطبيعة والتي تمتد لمدة أسبوعين بعد الإطلاق.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها تقوم بإجراء دراسات عن الصقور تشمل صقور الشاهين بالتعاون مع المؤسسات البحثية المهتمة بالحياة الفطرية والمحافظة عليها في كل من روسيا, الصين, منغوليا, وكازاخستان, وتهدف هذه الدراسات إلى جمع معلومات أساسية عن الصقور وتحديد مواطنها وتوزيعها الجغرافي وبيولوجيتها بالإضافة إلى تحديد أماكن تكاثرها ودراسة المخاطر التي تهدد وجودها. ويتم مقارنة نتائج هذه الدراسات مع المعلومات التي يتم جمعها عن طريق تتبع ورصد تحركات الصقور التي تطلقها الهيئة سنوياً, الأمر الذي يساعد على تحديد مسارات هجرة الصقور والمناطق الأكثر أهمية لهذا البرنامج. كما تقوم الهيئة الآن بتطوير برامج تعاون مع السلطات المختصة بالحياة البرية في الأقطار المعنية للقيام بعمل مشترك لتفعيل استراتيجية حماية هذه الطيور المهاجرة التي وضعتها الهيئة.

يذكر أن أول إطلاق لصقور صاحب السمو الشيخ زايد كان في أبريل 1995 حيث تم إطلاق (107) صقور من منطقة خاران الواقعة في محافظة بلوشتان غرب باكستان, وفي العام 1996 تم إطلاق (65) صقراً في منتصف أبريل من منطقة جيلجيت. وتم الإطلاق الثالث عام 1997 في بحيرة أيسيكول في جمهورية قرغيزستان, وشهدت المنطقة نفسها الإطلاق الرابع حـيـث تـم إطــلاق ما مجموعه (147) صقراً خلال هـذيـن العـامـين. وتــم الإطــلاق الـخـامـس فـي الـعــام 1999, حـيث تم إطلاق (79) صقراً في منطقة جيلجيت في شمال باكستان. وفي العام 2000 تم إطلاق (111) صقراً بالقرب من الحدود الصينية - الباكستانية بالإضافة إلى (75) صقراً أطلقت في منطقة شيترال في العام الماضي 2001 ليصل بذلك مجموع ما تم إطلاقه من الصقور خلال السنوات الماضية إلى (686) صقراً

 

إبراهيم المليفي