الحروب الصليبية هل هي حصان من ورق?

الحروب الصليبية هل هي حصان من ورق?

نشرت (العربي) في العدد (552) مايو 2002 مقالا للدكتور قاسم عبده قاسم عن الحروب الصليبية. وهنا مداخلة حول هذا الموضوع.

الصراع اليوم كأنه في حلبة سباق الخيل, الجمهور يتفرج والمتسابق واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية ولا أحد ينافسه أو يجري معه أو خلفه... إنه فارس يشق الغبار وحده وسوف يصل إلى النهاية بعد أن تنهك قوى الفرس ويسقط وحده, دون البهجة في الانتصار ودون تتويج للمراكز الأولى والثانية.. وانتبهت الولايات المتحدة لهذا السباق, فلم ترض أن تكون حصان (طروادة) خشبيا وحيدا, بل أغرت بعض الدول لوضعها تحت جناحيها وفي بعض الأحيان في بطنها كما فعل الإغريق بحصانهم الشهير ليدخلوا طروادة بالخديعة بعد أن فشلوا في دخولها بالحرب الشريفة. والتاريخ يعيد نفسه, فقد لجأت الولايات المتحدة للشر في خوض المعركة مع المسلمين لدخول جيشهم إلى البلاد العربية بعد أن حاولت تكسير الأطراف وشلل الأوصال ووضع المخرز في العيون, وكأنهم أخذوا بنصيحة الغزالي في كتابه (التبر المسبوك) ص 65 فعملوا على تكسير الأطراف لقوله (يظهر عز الملك بحفظ الأطراف مع دفع العدو عن الحوزة وإكرام العلماء, وحب أهل الفضل واستقرار الأمن وهيبة السلطان) فلم يعد للعلماء كرامة وأهين أهل الفضل وعمت الفوضى, ولم يعد للسلطان من هيبة فقد أسقطت الجميع?

والذي ساعد الولايات المتحدة على هذا التمادي في غطرستها وجدت أن البلاد العربية والإسلامية أشبه ما تكون برقعة الشطرنج فيه رقع كثيرة وهي متفاوتة الحجم متصارعة دائما. ولقد سهّل هذا التمزق مهمة اللاعب الأول والأخير. ويبدو أن لعبة اللاعب الوحيد استهوت الرئيس الأمريكي لأنها فريدة ومميزة, ولكنها فقدت طعم وحلاوة التنافس. ففي الحرب الصليبية القديمة ساعد عامل التمزق السياسي والعسكري في مهمة نجاح الفرنجة وإخضاع بعض البلدان لحوزتها وخاصة في الشام والجزيرة السورية, رغم هذا الواقع المخزي لحال البلاد العربية والإسلامية, فقد ظهر العملاق الإسلامي في عنق الزجاجة وتم تحويل الرقع الشطرنجية إلى بوتقة واحدة عربية وإسلامية, وحدث انقلاب هائل لأن الضربة التي تلقوها أفاقتهم من غفلتهم وأثابت العاملين منهم إلى رشدهم. وزالت القيادات القديمة لتحل محلها قيادات جديدة. وخلق إنسان مسلم جديد مع روح جديدة ظهرت زمن (نور الدين محمود زنكي) الشهير حيث عاش الناس مع الجهاد ونبذوا الفرقة وجاهدوا من أجل الوحدة, ولقد اتحدت الشام مع العراق أولاً, ثم مع مصر ثانياً, وتم إخراج الصليبيين من أراضي الشام ثم قامت للتصدي للخطر المغولي بمساعدة مصر وهزمته في عين جالوت.

واليوم نحن نعيش الواقع التاريخي والجغرافي نفسه مع تشرذم أكثر وتضارب في الآراء والرؤى أعمق وانحلال أخلاقي سيئ ودراسات فكرية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية وفتاوى دينية متدهورة, وأبواق تزعق لمصالحة السلطان, وصفير يصم الآذان للتهليل بالسلطان وبنت السلطان!!

والسؤال: كيف نستطيع أن نخرج من هذه الأزمة المعاصرة التي لم تكن في رأي بعض المفكرين والمؤرخين بأسوأ من الحقب التاريخية الماضية. مهما يكن الأمر فإنه ينبغي التنبه إلى وجود الفوارق بين العصور, وإلى أن وجود فترات ماضية أشد قسوة لا يجوز أن تكون إلا دافعاً لعدم اليأس. ثم معلما وحافزاً نحو حذو خطى الأوائل من المسلمين وتبني حلولهم في التوحد والإخلاص, وخلق الإنسان المسلم المجاهد الجديد. وبما أن أبطال الحروب الصليبية كانوا من المسلمين غير العرب الذين حاربوا باسم الإسلام, فلابد أن نفكر اليوم بالحل الإسلامي لتوحيد الطاقة الإسلامية وبدء معركة الإسلام مع الصليبيين الجدد. ولنجرب ما فعله الأوائل من أجدادنا عندما فشلوا في مهمة التصدي للمواجهة الصليبية بأن سلموا أمر قيادتهم لأبناء دينهم, وتم النصر للدين وباسم الدين, واستفاد العرب المسلمون من السلاجقة والغزو التركي لصد الهجوم, وتم القضاء على الحملة الصليبية الأولى المسمّاة الحملة الشعبية الغوغائية. لماذا لا نتحد مع إخواننا المسلمين الأتراك - مثلاً - اتحادا حقيقيا دون مواربة أو مصالح شخصية ونقطع الطريق على إسرائيل بالتوحد والاتحاد معها. ألا ترون معي أن الصهاينة قرأوا التاريخ قراءة محترف وعرفوا أين يكمن الداء فينا, وفكروا أن الوحدة الإسلامية هي الوحيدة الكفيلة بالقضاء عليهم, فقطعوا أوصال الوحدة الإسلامية وضموا تركيا المسلمة إلى حوزتهم. لماذا لا نتحد مع إخواننا المسلمين في إيران لتكون العمق الاستراتيجي للحرب الصليبية القادمة?

قد لا يعجب العرب والذين ينادون بالقومية العربية فقط هذا الكلام لأنهم يريدون لأفكارهم القومية أن تنتصر, وجربنا ولم ننتصر, تعالوا اليوم لنجرب التجربة الإسلامية هذه المرة, ولابد أن ننتصر لأن صلاح الدين انتصر بالدين ولم ينتصر بالقومية الكردية, والسلاجقة انتصروا بالدين على الصليبيين ولم ينتصروا للعرق التركي, وانتصر السلطان عبدالحميد الثاني بالإسلام عندما رفض تسليم وبيع الأرض للصهاينة, ولم ينتصر ولم يدع الانتصار للعثمانية? نحن اليوم أمام خيار واحد من أجل القضية الفلسطينية ثم العربية, فالتهديد يتطاول من أفغانستان والهند إلى إيران والعراق وسوريا ولبنان كمرحلة أولى للحملة الصليبية الجديدة.

وخيارنا اليوم الأول والوحيد هو الحل الإسلامي والطريقة الإسلامية والأسلوب الإسلامي, وعلينا ألا نقع مرة أخرى في المنافسة الشديدة فيما بيننا من أجل تحقيق مصالح ومنافع شخصية كما فعل العرب أثناء وقبل الاحتلال الصليبي واستنجد العرب بأعدائهم من أجل مصالحهم. مما أدى إلى مد عمر الاحـتـلال الصـلـيبي, ونـقـول لإخواننا المسلمين من الجيران تعالوا إلى كلمة سواء بيننا, ونقف صفاً واحداً في خندق الإسلام. لقد كان بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في خندق واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهنا لابد من ذكر ما قرأته لعبدالله بن مسعود يقول (كأن بالترك قد أتتكم على براذين مخزمة الآذان حتى يربطوها بشط الفرات). وقول معاوية بن أبي سفيان (اتركوا الرايضة ما تركوكم فإنهم سيخرجون حتى ينتهوا إلى الفرات فيشرب منه أولهم, ويجيء آخرهم فيقولون قد كان هاهنا ماء...) كتاب الملاحم والفتن لـنعيم بن حماد - مخطوطة لندن. وأيضاًً هناك قول للمؤرخ الراوندي في كتابه (راحة الصدور) صفحة 56 يقول:

(تعلق الإمام الأعظم أبوحنيفة بحلقات الكعبة ودعا الله قائلاً: إذا كان اجتهادي صحيحاً ومذهبي حقاً فانصره, فلقد وضّحت مسائل الشريعة من أجل وجهك. فصاح هاتف من الكعبة قائلاً: حقا قلت مازال مذهبك مادام السيف في يد الأتراك فقد قوي ظهر الإسلام به).

لا تستغرب - أخي القارئ - فإن الترك قد ساهموا في إقامة الحضارة الإسلامية وتطويرها ونشر الإسلام والحفاظ عليه, وكما أن للعرب فضل إقامة الخلافة, فإن للترك فضلا في حماية الدين أوقات المحن ثم التمكين من إحياء السنة وتثبيت صفة الدين الإسلامي الحالية يعود كله للترك. وليس ببعيد على أي عربي ومسلم أن الذي أنهى الإمبراطورية البيزنطية إنما هو محمد الفاتح العثماني (صلاح الدين الأتراك) وجعل البلدان التي تليها البلقان والبوسنة والهرسك مسلمين إلى اليوم. إنما يرجع الفضل إلى الأتراك, وتمكن الأتراك من احتلال الأناضول وجعلها مسلمة مما أخفق فيه الفرس والعرب من قبل. وفي كتاب (صورة الأرض) لابن حوقل ص 387 وكتاب الممالك للاصطخري ص163 وكتاب D,M,Dunlop The History of the jewishkhozons. New York.. يقول (... ولم يكن للإسلام دار حرب أشد شوكة من الأتراك)... وأهل الشام يقولون (الروس إذا غبّر والترك إذا كبّر)...

ومعروف أن الخلافة العباسية جندت الأتراك في جيوشها وظهر منهم عدد من الحكام والقادة, ونجح بعضهم في إقامة دول مثل آل طولون, والغزنويين في أفغانستان اليوم. ولما دخل التركمان الإسلام نسوا تاريخهم وسلموا أنفسهم للإسلام وتنازلوا عن ماضيهم وتبنوا الإسلام ووجدوا أنفسهم منخرطين بالجهاد في سبيل الله حتى أنهم قاتلوا أبناء جلدتهم الذين بقوا على الكفر. وهكذا أغرق التركمان والترك أنفسهم بالإسلام ولم يعد لهم ذكريات جاهلية كما كانت للعرب والفرس. ولم يغرقوا في مفاخر الجاهلية من قيسية ويمانية أو مفاخر المجد التليد للفرس.

وإنه لمن الواجب قوله أنه لم يوجد بين الأمم التي اعتنقت الإسلام من عدل التركمان في إيمانهم المخلص الذي لا ريب فيه. لذلك لم يكن من العجب أن استطاع التركمان الإسراع في إحياء قوة الإسلام وإقامة سيطرته, ونجحوا في الوقت الذي هدد الإسلام فيه بالزوال كلياً من الشام والجزيرة. وتصدوا للتهديد الداخلي من نشاط بعض الفرق, والخارجي الذي نجم عن مجيء الصليبيين الذين قدموا من أوربا الغربية, وعلينا ألا ننسى أن القائد المسلم (آلب أرسلان) وهو تركي تصدى لأكبر هجوم صليبي عرفته الدولة الإسلامية عبر تاريخها, حيث انتصر في معركة (ملاذكرد) - أو (مناذكرد) - التي أخّرت الصليبيين عن احتلال بلاد الشام سنوات طويلة.

أرجو أن يتحول حصان طروادة الخشبي إلى حصان من ورق أمام نيران الإسلام أم أن (لهيب الصراحة يحرق المغالطات?) كما عبر عنها الكاتب السعودي محمد أحمد باشميل في كتاب يحمل العنوان نفسه, وبالإذن منه?

 

زياد دياب