قراءة نقدية في كتاب "منازل الخطوة الأولى" صلاح فضل

مقاطع نقدية عن سيرة شاعر

يقدم سيف الرحبي في " منازل الخطوة الأولى: مقاطع من سيرة طفل عماني " تجربة فريدة للون من الكتابة " عبر النوعية "- كما يتجلى ذلك في العنوان- تمثل قطيعة واضحة مع السير الذاتية النثرية من جانب، ونمط تاريخ التجربة الشعرية المألوف من جانب آخر.

تجربة الشاعر " سيف الرحبي " لا تنتظم في إطار نموذج مسبق، بل تشق طريقها الخاص في أدغال البكر، لتسبح فوق فضاءات من الوجود الذي لم يكتب بعد، فإنها تقلق المتلقي وتستفزه وتدعوه للتساؤل. وربما كانت تسخر من النقد النمطي بما تؤسسه من جماليات جديدة، غير أنه لا يتخلى عن لذة مساءلتها وقياس خطواتها النزقة الرشيقة. بما توفر له من أنظمة منهجية يعسر عليه تركها لمتابعة حرية الإبداع.

وقد أسفرت تقنيات السرد المحدثة عن عدد من الإنجازات الفنية التي طبعت حساسية القارئ بمزاج خاص، فأصبحت تمثل أفق انتظاره المبهم حينا والجلي حينا آخر. ولعل من أبرزها ما يتصل بمنظور الراوي وطريقة رؤيته للأحداث. إذ كانت الصيغة المسيطرة على القص في الماضي هي تلك التي يقدمها الراوي المحيط بكل شيء علما، الراوي المتأله الذي يدرك الظاهر والباطن والماضي والمستقبل. غير أن حركة تطور السرديات تثبت تقلص هذا النوع من الرواة ليفسح المجال لرواة آخرين يرمز إليهم أحيانا "بالرؤية مع"، أي الرؤية المصاحبة للشخصية والملتزمة بمنظورها المحدد. أو "الرؤية من الخارج " وهي أدق من المصاحبة، لأنها مثل "عين الكاميرا" تمنع الخطاب السردي من تفسير الحركات أو كشف النوابغ الباطنية، وتكتفي بمراقبتها من السطح وبناء متخيلها نتيجة لذلك.

منظور الرؤية

فإذا ما تعلق الأمر بسيرة ذاتية كانت هناك أكثر من ضرورة جمالية ومنطقية لتحري الدقة في التزام منظور الرؤية المصاحبة وعدم العودة للراوي المتأله. فطبيعة التمثل التخييلي تقتضي استحضار الشخصية الهاربة في الذكرى بجهد مركز، يعتمد على ما كان يسمى في البلاغة القديمة بالتجريد، أي أن يجرد المتحدث من نفسه شخصا آخر ويروي عنه، مما يجعله ينتقل إلى ضمير الغائب ولا يلجأ إلى المتكلم، مع أن من المفروض أنها ذكرياته هو، وذلك لانفصال اللحظتين، لحظة التذكر وهي تتطلب مؤلفا ضمنيا واعيا ومجربا وخلاقا، واللحظة التي يحاول اقتناصها من غيبوبة طفولته، وهي ترتبط غالبا بصبي واعد ساذج تنداح المشاهد أمام مخيلته دون أن يدري ما الذي ينتظره ببطن الغيب، مما يقتضي الفصل بين الكينونتين حرصا على تخليق الثانية، والمحافظة على المسافة الجمالية القائمة بينهما، مهما انهمرت خلال ذلك مشاعرهما في لون من التعاطف الودود الذي قد يصل إلى درجة التماهي. ويصبح من غير المتوقع حينئذ أن يمتد بصر الصبي ليدرك خفايا موقفه، أو يلتوي منظوره ليرى ما لا يدخل في نطاق وعيه، فالراوي يسلم له الكلمة، ويلتزم بمتابعته حتى يستطيع تكوينه بنجاح.

السيرة الذاتية واحتدام النص

لكل هذا، فإن المقدمة الشعرية التي يفرشها سيف الرحبي لسيرته الذاتية تكاد تلتئم برفق في هذا السياق، حتى إذا ما مضى لدفع الصبي للظهور ومنحه اسما جديدا كان عليه أن يحافظ تقنيا على منظوره، لكنه يفاجئنا بقوله: " لا أتذكر إن كان الوقت صباحا أم مساء، ولا أعتقد أن ذلك مهما (!) لكني أتذكر أننا كنا قبالة الشاطيء أكثر وحدة وضجرا مما مضى، محدقين في السرطانات والأسماك الميتة التي يسعلها البحر. وفي المدى والسفن التي سيبتلعها المحيط بعد قليل، حين رمى " سعد " صنارته بعبث صبياني ليصطاد الأسماك الصورة القريبة، بينما أضواء باخرة في القريب البعيد كانت تحمل بضائع وعمالا آسيويين يكشون الذباب بمراوح صنعت في تايلند ". ومن المدهش أن تتلاقى هذه الافتتاحية مع مطلع أيام طه حسين المؤسس لأدب السيرة الذاتية في اللغة العربية، فهو مثله " لا يتذكر " خلال تذكره، ولا يستوضح الوقت إن كان صباحا أو مساء، غير أنه لا يعبر عن عدم اكتراثه بذلك كما يفعل سيف الرحبي.

والعالى الذي كان يقف قبالته في قريته الصعيدية النائية كان يختلف عن عالم الطفل العماني الضجر الذي لا يلبث أن يرمي مع صنارته باسمه الجديد " سعد " حيث شهدت هذه الصفحة ميلاده كما يقول بعد قليل. ولم يكن يملك لغة استعارية شائقة يتصور فيها السرطانات والأسماك الميتة من سعال البحر، ولعله لم يكن يتمثل البحر أساسا. لكن مشكلة " سعد " و " سيف " معا تتجلى مع بروز أضواء الباخرة التي كانت تحمل بضائع وعمالا آسيويين يكشون الذباب بمراوح صنعت في تايلند. هذا المقطع الأخير ينبو بوضوح عن منظور الصبي الذي يجتهد الراوي في استحضاره وبث الحياة فيه، فهو قد يتصور باخرة وعمالا مع صعوبة إدراك موطنهم. أما أن يتتبع كشهم للذباب بمراوح صنعت في تايلند فإن هذا يقتضي أن يمتلك خيالا مثل الصواريخ التي تتلوى وراء فريستها حتى تنفجر فيها. مما يؤدي إلى التأجيل الدائم لتكوين الشخصية الوليدة وإرهاقها أبدا بحضور الشاعر الكبير الذي لا يريد أن يتخلى عن لذة الحديث. هذا الشاعر لا يحب أن يتوارى ويترك القلم في يد الصبي الصغير نسبيا. إنه مصر على أن يدس أنفه ويعوق نمو صاحبه. وهنا نرى أول مظاهر احتدام النص وتوتره في صراع الشاعر والسارد عبر صفحاته كلها، إذ تتجلى عندئذ مفارقة واضحة، هي حداثة النص الشعري- عبر النوعي- من جانب، وتقليدية النص السردي المعتمد على رؤية متجاوزة للراوي المتأله من جانب آخر.

ويمضي الراوي ليصف " فحل " السيل الذي اجتاح القرية في هذا المشهد، فيترك الولد يسأل أمه ببراءة حلوة:

- إلى أين تذهب الجائحة؟ (من أين للطفل هذه التسمية البليغة؟) فتجيبه الأم: - إلى البحر. كل الأودية تذهب إلى البحر، وهناك تلتقي في مرجل البحر الكبير.

ولا أحسب أن الأم- مهما كانت أم الشاعر المبدع- تستخدم بدورها كلمة " المرجل " في وصف البحر، وهنا نجد أن منظور السرد لا يلتوي فحسب، بل يزدوج بعنف تبعا لازدواج اللغة. فالشاعر يطغى على الطفل والأم معا وينطقهما بكلماته، مما يسلبهما حق الوجود الصوتي والعيني الحميم. ولا يصبح هذا الوع من شعرية اللغة ميزة أسلوبية، بل على العكس من ذلك يمثل عبئا ثقيلا على السرد وتكويناته الفنية.

بلاغة الخطاب الاستعاري

ويعلق الراوي على حادثة السيل بمقطعين يجسدان هذا الموقف المتوتر، فأحدهما يصور وعي الشاعر، والآخر يحاول الاقتراب من عالم الطفولة فيقول: " ورغم بعض الأحاديث التي تشخص الأضرار التي أصابتهم، لم يثنهم ذلك عن الاحتفاء بهذا العيد المائي. بهذه المآثر الربانية. عنفوان المقدرة والرحمة. حتى أن النساء حين انصرفن جماعات بعد مشاهدة الوادي في صباح صخبه الجديد بدأن في لبس الجديد من الأثواب والحلي والزينة تحسبا لليل الخصب القادم ببروق أنينه المكتومة تحت غيوم الخجل، مدفوعات بفطرة الخصوبة الشاملة. بينما الأطفال ظلوا رقعة ذلك اليوم على حافة الوادي يحرسون المشهد وجلين من اختفائه على حين فجأة. غاطسين أرجلهم في فيض المياه متشابكي الأيدي والصراخ. وبالشيطنة نفسها يأخذ الواحد الآخر ويرميه إلى أبعد، أو يركضون وراء الديكة ويحاصرونها من جوانب اليابسة حتي يغطيها الماء ويسقطون من فرط النشوة ".

ومن اللافت أن المادة التي تستخدم في تكوين اللقطة الأولى الممثلة لوعي الشاعر الكبير تستمد عناصرها من بلاغة الخطاب الاستعاري المباشر، بينا تعتمد مادة الصور الطفولية على مشاهد الحركة وصور السرد الحقيقية للذكريات الفعلية النابضة بحرارة الحياة. أي أن ازدواج المنظور يتجلى أيضا عبر ازدواج طبيعة الصور ومزاحمة الصوت الشعري الغنائي لأصوات الصبية اللاهية في مياه السيل، وهي وإن تكن أقل جلالا وفلسفة إلا أنها أكثر عذوبة وتلقائية.

أنواع الحضور

للسرد نظامه الخاص في تحضير الشخصيات وصرفها. ومهما كان يتعلق بوقائع حية وأحداث خارجية في السيرة الذاتية إلا أن عملية اختيار ذكر العنصر ودعوته للتآلف مع غيره هي التي تحكم إنتاج الدلالة الأدبية. فهناك قوانين اقتصادية تضبط وجود الشخصيات السردية وتقود حركتها. لا شيء يذكر لأنه حدث هكذا في الخارج. لابد أن يعاد إحداثه وتبريره وتحميله لمعناه في الداخل. وهناك مشاهد عميقة الدلالة في " منازل الخطوة الأولى "، لكن ارتباك حركتها وتعثر اقتصادياتها يضعف من أثرها الجمالي. من ذلك مثلا مشهد النداء الذي يشمل القرية عند سفر الصبي إليها لمشاهدة مواطن جدوده، وما انتشر فيها من قلق لغيبة ابن عمه عبدالله إثر خروجه للصيد، ثم العثور عليه قابعا في جرف بالجبل مع وعله الذبيح حتى يأكله، وعودته معهم سالما. يقول الراوي: " شاهد سعد الذي بدأ يغطس في يم هواجسه التي لا يتبين لها مكانا في بهيم ذلك الليل الساجي. شاهد اللقاء الحميم بين والده وابن عمه عبدالله الذي كان يحترم رزانته وجلده لا معالجة الأمور.. شاهد سعد هذا اللقاء الأخير بين والده وعبد الله حيث مات هذا الأخير بعد أشهر من ذلك. شاهده وعاش ليل كثافته الحميمية المؤلمة التي لم يرها بعد ذلك ".

حديث الشيخ " مراش "

وإذا كان الأسلوبيون يرون في انتشار أسماء الوصل والإشارة في النصوص هكذا علامة على ارتباك لغة السرد فإن الاضطراب هنا يشمل حركة الشخصيات أيضا، فموت عبدالله ابن عم الصبي هنا ذو طابع مجاني يضفي على الرواية ظلا عبثيا لا يقصده الراوي في هذا السياق، مما يجعله يشتت انتباه المتلقي في متابعة نمو وعي الصبي ويصرفه إلى التركيز على التكرار الغنائي لكلمة " شاهد ". وإذا كان السرد عملية بناء للمشاهد كي تنتج معنى من تجاورها أو تعاقبها فإن هذا الموت المتعجل يأتي مبتسرا شعريا ليس له تمهيد سببي ولا امتداد منطقي. وهذا نفس ما يتكرر بعد ذلك عند استحضاره لصورة " الزط " أي الغجر، بخيامهم وحميرهم وكلابهم، وحديث شيخهم "مراش " أمام خيمته وفي فمه " المدوخ " الذي لا يوضحه الكاتب. وكلامه المثير عن أوضاع النكاح وجوانبه المختلفة، مما يسيل لعاب الشبق على أشداق مستمعيه، ويدعو " سعد " إلى مراوغة والده إلى حيث يذهب لسماع نكات الزط وبذاءاتهم الطريفة. كل هذا شيق وجميل، لكن ما علاقته بالفقرة التالية له توا. " وفي تلك السنة مات الشايب " صبيح " بعد مرض عضال ". إنه لا يؤرخ للقرية بنظام الأعوام مثل الموسوعات القديمة، بل يعرض لصور من طفولته، ولم يسبق له أن "ذكر الشايب صبيح من قبل، ولن يأتي إلى ذكره فيما بعد، مما يجعل حضوره القصصي غير مبرر. غير أن هناك نوعا آخر من الحضور الغريب يتسرب عبر هذه المقاطع في فلذات لامعة، تشي بالخلفية الميثولوجية للحياة العمانية، فلأمر ما اشتهر أهل هذا الصقع الخليجي النائي بالسحر وعرفوا بممارستهم الموصولة له. فنرى في طفولة الصبي وقراءاته الأولى أن القصة الأثيرة لدى أبيه من هذا القبيل. إذ كان " حين يأتي المساء، وليس ثمة ضيوف في البيت، غالبا ما يأمر سعد بقراءة قصيدة الفتاة المسحورة، أو "فتاة نزوى " تلك التي وقعت أحداثها إبان حكم الإمام سيف بن سلطان قيد الأرض. وتسرد عبر الوزن والقافية قصة فتاة أكلها السحرة، وغابت عن الوجود باعتبارها ميتة، لكنها تعود إلى الحياة في جو مشبع ببخور الخرافة وكآبتها الشفيفة ". وكما نرى في لغة الحكي فإن الشاعر الناضج لا يترك للصبي الصغير فرصة إعادة بناء الوقائع كما كانت تتمثلها نحيلته الطرية، بل يقحم دائما لغته التي تحاكي في مزجها الشعر بالسحر والسرد لغة الأساطير القديمة، فيبطل منها سحر الطفولة لتحل محله كآبة النوستالجيا الناضجة.

وإذا كان هذا هو مناخ الأب المفضل الذي ترعرع فيه الصبي فإن الأم بدورها أكثر استحضارا للسحر وعوالمه الغرائبية، فلصق بيتهم الطيني كانت هناك "خرائب بيت قديم، هياكل صبخة بزنابير عطبها، والرفيف الرخو لأرواح سكانها السالفين وهو البيت الذي قطعت فيه سرة سعد حسب قول الأم التي دأبت في المناسبات والأعياد أن تأخذ جزءا من الأكل، لحما أو عرسية أو ما تيسر وتنثره في زواياه قربانا لساكنيه المجهولين من الجن وأهلنا الصالحين ".

فعلى سطح الأرض، وفي غمار الحياة اليومية يتم التعامل مع الميثولوجي باعتباره طبقة شديدة الحضور في نسيج الحياة المنظورة وموجهة لحركتها. ولكن النموذج الأقوى لهذا السحر اليومي يتجسد في تلك الليلة التي كانت تغرق- كما يقول الراوي- في سابع أحلامها، حيث نزت صرخات أجبرت الحارة على الاستيقاظ المذعور. وتقدم الجميع باحثين عن مصدرها حتى "دخلوا البيت وشاهدوا الأولاد يمسكون برقبة أبيهم، مهددين بذبحه ورميه للكلاب إن لم يرجع لهم أخاهم في تلك الليلة نفسها التي انفجر فيها الصراخ. كان الجو هستيريا تخرج فيه العفاريت من الرأس وتملأ فضاء المكان كي تنتزع اعتراف الأب الذي عمل سحرا أخفى به ابنه البكر من الوجود .. لم نكن نعرف أن الأب الساحر يمكن أن يسحر ابنه، كانت هذه النقطة غائمة في أذهاننا حتى جلت هذا اللبس إحدى العجائز في القرية حين قالت:

- يمكن للأب عمل ذلك، وبالتحديد ابنه البكر، كي يبادله بآخر من قبيلة أخرى.

- وفيما بعد، أين يذهب المسحورون؟ سألنا العمة التي أجابت:

- يؤخذون إلى مكان في ساحل الباطنة، وهناك تقف سفينة تحملهم إلى سوق في بغداد، يباعون ويختفي لهم كل أثر. افترقنا ونحن ما زلنا في مقام الحيرة. نتساءل عن إمكانية بيع البشر وهم موتى". وأحسب أن السؤال الذي يلح على القارئ بشكل أشد لا يدور حول بيع الموتى في هذه الممارسات الشيطانية، وإنما يدور حول الطريقة العفوية التي يقدم بها الراوي تلك الأحداث وكأنها جزء من طعامه اليومي دون أن يرى دهشة الخوارق فيها ومخالفتها لسنن الطبيعة وقوانين الوجود، إذ كيف يختفي الابن المسحور، وفيم يتمثل السحر لو كان مجرد قتل؟ ولماذا يمارس الأب طقوسه على ابنه البكر بالذات، وما معنى مبادلته بآخر من قبيلة أخرى؟ أما الدلالات الاجتماعية والميثولوجية لكل ذلك فهذا لا يثير اهتمام الراوي الذي تعود على حضور السحر كما تعود على صوغ الشعر.

من الطبيعي أن نتصور أن يكون إيقاع السرد مختلفا عن إيقاع الشعر، لا من حيث البنية الموسيقية فهذا بديهي، وإنما من حيث بنية الكتابة والعناصر المكونة لها وتناوب ظهورها ودرجة كثافتها. فالشعر مثلا يسمح بمساحات من الفضاء الوصفي الضروري قبل أن ينقض على صورة مركزة أو مجموعة من الصور، ثم يعود لاسترداد هذه المناطق الهادئة مع المحافظة على المسافات الحيوية بينها. أما السرد فيحتاج تنظيما مختلفا لفضاءاته بشكل لا يتوقف عند الوصف ولا الطبيعة الجامدة ولا يسرف في استشفاف ما وراء المنظور لأن عناصره الفاعلة تتميز بالحركة في الزمان والمكان وتوازنه يعتمد على التناوب المتلاحق بينها، ودور الكلمة في السرد يختلف عنه في الشعر من حيث الكثافة والتركيز. وما يقع فيه سيف الرحبي في هذه السيرة- نتيجة لاختياره النوعي- هو إخضاع بنية الإيقاع السردي لمنطق الشر، إذ يستهلك مقاطع عديدة في تهويمات وصفية تحدد الظلال وتفرش المناخ وتحاول القبض على روح الأشياء، ثم يقوم بدمج عدد كبير من الأحداث في سطور قليلة كان نظام السرد يقتضي إفساح مجال أكبر لامتدادها. مما يجعل نصه يتراوح بين الاكتناز والترهل في إيقاع أقرب إلى الشعر منه إلى السرد. فهو مثلا يورد قصة اغتصاب رجل أخرس لفتاة في عدة سطور تريد أن توحي لنا بأن الفتاة هي التي أغرته باغتصابها ضمانا لعدم قدرته على كشف مناورتها.

مشروعية السرد ومصداقية الوقائع

وهو كذلك يفسح حيزا معقولا لقص تجربة الصبي في ممارسة العنف مع رفاقه، حتى ليشج رأس أحدهم ويدخل سجن القلعة محتجزا حتى يجتاز المجني عليه فترة الخطر، ولكنه يستطرد خلال ذلك ملمحا إلى قصة مدرس أبناء الوالي الذي حاول أيضا اغتصاب المرأة الوحيدة في سجن النساء ففضحته، يوجز ذلك في ثلاثة سطور، وكأن متوقع الحدث في ذاكرة الراوي كاف لإضفاء صبغة المشروعية السردية عليه، مع أن مصداقية الوقائع في السرد تتخلق في سياق الكتابة وبفعلها الاحتمالي جماليا.

ولكن عبارة ترد على لسان الوالي عندما استدعى الصبي لإطلاق سراحه تفعل في نفسه فعلها العميق، إذ قال له "أنت ذئب، ليعود بعد فترة مسكونا بهذه العبارة البطولية، ويرتكب شجارا آخر يؤدي به إلى أربعة أيام أخرى في السجن ". وهنا تلمع تلك الصورة/ التشبيه، لتمثل في وجدان الصبي اليافع مفتاحا لا يكشف عن سلوكه المستقبلي فحسب، بل يكشف أيضا عن طريقة وعيه بالحياة وأسلوب تمثيله اللغوي لها. فالمنظور الذي تنطلق منه هذه الكتابة يرتكز على عنصر التماثل في نسيج التراكيب ويعتمد على التشبيه في تكوينه، ومن ثم فإنه ذو بنية شعرية تقوم في الجملة المستقطبة لطاقة المبدع والمتلقي معا، بحيث لا يصبح الكلام مجالا لأسلبة الشخوص وتحديد فوارقهم الفردية والاجتماعية كما هو الشأن في السرد عادة، بل يمثل تعويضا بفعل اللغة عن فعل الحياة. من هنا فإن الراوي كما أسلفنا لا يلتزم بمنظور الفتى، ولا ينتظم في استخدام ضمير الغائب في الحكاية عنه، بل يطل من حين لآخر بضمير المتكلم الذاتي المباشر، لأن اللغة التي يستخدمها تنتمي بثقلها البلاغي الرصين للشاعر. وهنا أيضا نجد أن هذا اللون من الكتابة التي تسمى " عبر نوعية " لمزجها بين تقنيات الشعر والسرد خاصة، والتي استشرت بين شباب المبدعين، بقدر ما تثري تجربة الشعر الغنائي بإدخال بعض العناصر الدرامية فيه فإنها تسهم في تغييب الوعي بضرورة تجذير فنون السرد بجمالياتها الخاصة وعناصر شعريتها المختلفة في التكوين والإيقاع والبعيدة عن بساطة الغناء وحلاوة التشبيه.

ولنتأمل هذه الفقرة الدالة في وصف هواجس المراهقة الأولى في نفس الصبي وكيفية تفتحه لعالم الجنس وصبواته إذ يقول: " في الظهيرة، الظهيرة الغارقة في حيض الصيف، تزفر الجهات كأنما توشك على الولادة عبر هول الأحصنة الجبلية المنحوتة في الصخر البازلتي، ويكون الفضاء مرآة تلمع في خضم المدى المترامي، يرتطم به طرف العين فيرتد حسيرا منكسرا، فيبرق في رأسك صوت غياب أنثوي، لتمضي في دروب القرية بحثا عن ذلك الصوت المتلاشي خلف الغبار والنجوم المتساقطة .. جريحا بالانبلاجات الأولى للأشواق" هذه هي الطريقة الغنائية في الإمساك بقبضة الحياة وهي تتكون في النفس، حيث تنتقل البطولة من الصبي إلى الكلمة الشعرية بإيحاءاتها المجازية ابتداء من حيض الصيف إلى زفرات الولادة ومزج معطيات الحس في بريق غياب الصوت، هكذا يرى الشعراء العالم عبر حدقة اللغة المجازية. أما فن السرد فهو يمر عبر قنوات أخرى من الحركة الدالة المحتدمة، والإشارة السريعة لانتفاضات الجسد وذبذبات الروح وهي تتشقق في يقظة الشهوة من خلال أحداث وصور حسية بسيطة. بهذا فإن التخلي عن جماليات السرد استمرارا في كتابة "المقاطع" لا يدعو لفخر المبدع الحديث مهما تفنن في أساليب الصياغة الفاتنة، إذ يظل أسيرا لمنظوره الغنائي في تصوير طريقة انصهار وعيه بالحياة، بعيدا عن تجريب مساري جديدة للشعرية عبر تقنيات تشكيلية تحتاج لإغواء مبدعين ببكارتها وكنوزها الموعودة. على أن هذه الطريقة الغنائية تنجح في شيء آخر، لعله أهم ما نستطيع أن نشير إليه من إنجازاتها الحقيقية في هذا النموذج، وهو التوصيف المرهف لبلوغ الطاقة الشعرية وانبلاجها في كينونته، وذلك حين أخذ " يرى الموتى يخاطبونه كأنه واحد منهم .. أو يحدق في بعض النخيل فيرى هيأتها تشبه وجوها بشرية لبعض أهالي القرية الأحياء.. أو حينما رأى القرية بكاملها وفي عمق شآبيب المساء تشبه دمعة في الأفق مغمورة بقوس قزح .. فيطلق أحيانا عبارات تطفح فجأة، ولم يكن يعرف معناها، مثل: الشمس كلبة تعوي، الشمس كربة تعوم في الماء، ويالعاب السماء الأخضر! ".

تشكيل الكون في كلمات

إننا هنا حيال تلك اللحظة الفائقة التي يمسك فيها الفنان بجذر تكوينه التخييلي، ويصف برهافة بالغة طريقة توالد قدراته في رؤية الحياة شعريا، والتعبير عنها بصيغ تتخلق تلقائيا لتقبض على الكون وقد أعيد تشكيله في كلمات. بيد أن الفعالية التي يتميز بها هذا المشهد لا تعود على وجه التحديد إلى طبيعة العناصر الشعرية التي يحتويها وإنما على اندراجها في السياق السردي الشامل، إلى تمثيلها لمنطقة تقاطع الشخصية مع الموقف، فنحن بصدد سيرة ذاتية لشاعر، وليس هناك أشد حميمية وصدقا في توصيف عالمه من متابعة نمو وعيه الشعري وكيفية انبثاق الجملة على شفتيه. إننا نتأمل تلك البؤرة التي تتجمع فيها حرارة اللغة مع وهج اللحظة في جسد الشاعر الفتيّ وتلتقي عندها شعرية الكلمة بشعرية الموقف.