المسلمون والتنمية عقيدة عالية وواقع هابط سليمان إبراهيم العسكري

المسلمون والتنمية عقيدة عالية وواقع هابط

في هذا الشهر الكريم يتواصل 1.3 مليار مسلم, يشكلون أكثر من خُمس البشرية, يلتقون على فريضة الصوم التي ترقق الجسد, وتشحذ الروح للسمو, وتترك للعقل متسعا للتأمل. ولعل المفارقة ما بين عقيدة الإسلام العالية, وواقع المسلمين الهابط - مع استثناءات نادرة - هي مما يُدهِش المتأمل, ويثير العديد من الأسئلة التي تطوف بالمشهد العام, وتدعو إلى المراجعة النظرية قبل أي تفقد للواقع.

  • الإسلام واحد لكن تأويلات المسلمين شتّى ورؤاهم متعددة وإخفاق التنمية في العالم الإسلامي مسئولية المسلمين وليس الإسلام.
  • في (سورة يوسف) درس للتنمية بمنظور مستقبلي وصياغة مبكرة لمفهوم المدخرات العينية ونموذج لإدارة الأزمات واستباقها بالتدبير

إنه أمر يدعو للعجب حقًا, ذلك الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي, ويصرخ بالتفاوت بين ضخامة القدرات وهول إهدارها. فالمسلمون الذين يشكلون 1.3 مليار من سكان الأرض (البالغين ستة مليارات نسمة), يستحوذون على 40% من الصادرات العالمية, وينتشرون في كل أرجاء الدنيا, ومع ذلك لا يشغلون إلا أدنى المراتب على سلم التطور العالمي, حتى الذين في البلدان المتقدمة التي يكونون فيها أقلية, تراهم في النصف الأدنى على مقياس الثروة والنفوذ والتقدم العلمي - مقارنة بأقليات أخرى لا تدانيهم عددًا وعدّة!

هذا التعجب صار يطرح العديد من الاستفسارات لدى المختصين في أدبيات التنمية, ويبلور أسئلة تدور حول العلاقة بين التنمية والإسلام, ويحصد إجابات ومقولات صارت تشكّل اتجاهات ثلاثة - كما رصدتها د.ماجدة صالح محررة كتاب (الإسلام والتنمية في آسيا) - وهذه الاتجاهات تتفاوت بشدة بين الافتئات المتعسف, والافتتان المغالى فيه, والوسط بين النقيضين.

اتجاه التعسف يمثله (فيبر) و(ماكلان), ويزعم أن الإسلام لم يقدم إطارًا اجتماعيًا يمكِّن الدول الإسلامية من أن تقدم نماذج يُحتذى بها في مجال التنمية, الأمر الذي يجعل الإسلام (في زعمهم) عقبة أمام التنمية. وهو زعم يبلوره (ماكس فيبر) عندما يجترئ بالقول (إن المسلمين لا يمتلكون القيم البروتستانتية التي مكّنت الدول الغربية من السير قدما في طريق الحضارة). وهذا قول متهافت يكفي للرد عليه أن نورد قائمة الدول الأكثر تقدمًا في العالم, والأبرز في مجال التنمية, فنجد في طليعتها دولاً ليست بروتستانتية على الإطلاق, حتى في الغرب الذي ينظر ماكس فيبر من زاوية تمدينه وتقدمه الصناعي, ناهيك بدول بوذية وكونفشيوسية, بل حتى هندوسية - كالهند التي تعد بين الدول العشر الأكثر تقدمًا علميًا في العالم.

أما الاتجاه الثاني, وهو مناقض تمامًا للاتجاه الأول, فيذهب أصحابه - دون تردد - إلى المزج المطلق بين الإسلام والمسلمين, ويؤكد أن (الإسلام قدم نظرية شاملة للتنمية, ووضع القيم الضابطة لمسيرة الحياة من كل جوانبها), وهي مقولة حق, لكنها لا تستخدم من أجل الحق, فكأن قائليها يؤكدون أن حال المسلمين هي أفضل ما يكون, وبذلك يظلمون الإسلام من واقع ما هي عليه حال المسلمين. بينما العقيدة العالية أبعد ما تكون عمّا وصل إليه معظم المسلمين من تدهور تنموي.

وما بين الاتجاه الأول المتعسف في ادّعائه, والاتجاه الثاني المتشنج في دفاعه, هناك اتجاه وسط يمثله أحد مفكري التنمية وهو (بسكاتوري) الذي يقول إنه (ليس من الضروري أن يتناقض الإسلام مع التنمية, خاصة وقد قدم عدد من الدول الإسلامية في آسيا نماذج ناجحة في التنمية مثل إندونيسيا وماليزيا). وميزة هذا الاتجاه أنه يسوق برهانًا واضحًا على ما يذهب إليه, ولأنه كذلك, فهو لا يقطع الطريق على الباحث عن الحقيقة, بل يفتح دروبًا فسيحة لاختبار تلك النماذج, والكشف عن الجذور التي تنتمي إليها, والإسلام هو أوضحها, ومن ثم يكون البحث في جدلية الإسلام والتنمية بحثًا حقيقيًا ملموسًا لا صوريًا مجرَّدًا.

يقول د.حسن حنفي (الإسلام والتنمية: الحوار النظري): (إن ربط الإسلام بالتنمية هو محاولة - كما هي العادة في الفكر العربي المعاصر - لربط القديم بالجديد, وإيجاد وحدة عضوية بين الموروث والوافد), ويستدعي هذا القول بعضًا من الأسئلة تستفسر: ما الصلة بين هذين المصدرين للمعرفة? هل يقدمان معرفتين مستقلتين, مختلفتين متباعدتين, أو متناقضتين? أم أنهما يقدمان معرفتين متداخلتين متشابهتين متقاربتين وربما متماثلتين?

وفي استطراد يلوح بإجابة, يقول: (قد يلعب الموروث لاشعوريا دور الأصل, والوافد دور الفرع, بحثًا عن الأصالة إذا كان الباحث إسلامي الاتجاه, لذلك لم يبق إلا قراءة التنمية من منظور الإسلام, وهو الأقرب نظرًا لأن لثقافة الأنا الأولوية على ثقافة الآخر. وحتى إذا كان الباحث عالمًا موضوعيًا أقرب إلى البحث عن الأشياء ذاتها, بصرف النظر عن مصادرها المعرفية, فإنه ينقب الموروث لبحث مقومات التنمية أكثر مما يتجه نحو الوافد لنقله ونقده من أجل تجاوزه. وهذا أقرب إلى الواقع البحثي المتاح, فالذهن لا يعمل إلا من خلال تصوّرات ورؤى يختلط فيها القديم بالجديد لفهم العصر).

إذن نكاد نقترب من مفهوم الأخذ من مستجدات العصر بما يلائم الموروث والمتجذّر في الذات. وهنا يكمن الاختلاف: عن أي ذات مسلمة تنظر إلى موضوع التنمية? هل هي الذات المنفتحة والمتجددة والممسكة بجوهر العقيدة التي تنشد خير الإنسان وتيسير معاشه في حاضر جديد? أم الذات المغلقة على الفهم الجامد الذي لا يرى ثمة خيرًا إلا فيما مضى?

هذا الانقسام قائم بين الباحثين المسلمين في مجال التنمية, ثم إن هناك انقسامات أخرى عند محاولة تحديد أي مدرسة من مدارس التنمية نروم اتباعها? وأي نوع من التنمية نتطلع إليه? ففي المدارس هناك: التطورية التي تقوم عليها التنمية الماوية في الصين مثلاً, والارتقائية التي تقوم عليها التنمية الروحية, والتقدم الذي تقوم عليه التنمية البشرية. وهناك أنواع عدة للتنمية, اقتصادية, واجتماعية, وثقافية, وذهنية, بين قطبين رئيسيين: التنمية الطبيعية والتنمية البشرية, تنمية الموارد وتنمية القدرات, وهناك تنمية وقتية قصيرة الأجل, وتنمية مستدامة طويلة الأجل, وهناك تنمية تعتمد على القوى أو الخبرات الخارجية, وتنمية تعتمد على الذات.

باختصار, هناك متاهة من التشعبات النظرية, لن يحسمها إلاّ الحسّ العملي والصفاء الروحي معًا, والصدق في التوجه نحو التيسير بالحق على المسلمين ليعيشوا واقعًا أفضل. وثمة مَن يلاحظ أن لفظ التنمية لم يرد حرفيًا في القرآن الكريم, وإنما جاء في السنّة على صيغة اسمية هي (نماء) بمعنى التطور والخير والأمل, وذلك في (حُسن الخُلق نماء وسوء الخُلق شؤم), و(العمل بما فيه نماؤه ومصلحته وكراب أرضه). (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي).

ثمة من سيتجمد عند رفض مفهوم التنمية - أي تنمية - بناء على ذلك, وثمة مَن سيتجاوز الحرفية والظاهر إلى المعنى والجوهر, فيرى أن مفهوم التنمية ورد بأجلى وأوضح معانيه ومراميه عندما تحدّث القرآن الكريم عن الأرض وتعميرها, والبحار وخيراتها, والتجارة وتناوب الأخذ والعطاء فيها, والثروات الكامنة في باطن الأرض من معادن وغير ذلك, أما دور الإنسان في التنمية, فيكاد ينطق بالتكليف عبر حديث القرآن الكريم والسنة الشريفة عن مهمة الإنسان في إعمار الأرض, والكدح والسعي فيها, ووجوب إتقان العمل. ولعل إحدى الإشارات الواضحة هي ما ورد في القرآن الكريم في سورة (يوسف), ويعد درسًا في التنمية بمنظور مستقبلي, إذ رأى فرعون في منامه {.. سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف, وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات}, مما أوّله يوسف - عليه السلام - بضرورة الاستعداد في أعوام الرخاء لأعوام القحط بتخزين الحبوب ووضع مفهوم المدخرات العينية.

لاشك في أن مجمل المقاصد لدين عظيم كالإسلام الحنيف, باعتبار الإنسان خليفة في الأرض لإعمارها, وباعتبار خيرات الدنيا أمانة, وهو مؤتمن عليها, كل هذا بداهة يقود إلى سلوك درب للتنمية إنساني, وغيري (يشعر بالغير ولا ينغلق على أنانية الذات), وروحي - يوفي حق العباد وحق المعبود فيما هو مؤتمن عليه. وبمعني آخر: يمكن إدراك وجوب أداء أمانة التنمية في الحاضر والمستقبل استنباطًا من الفلسفة العامة للدين الإسلامي الحنيف, ومرة أخرى نعود إلى د. حسن حنفي وهو يستنتج: (التنمية في النهاية إدارة, والإدارة ترشيد وتنظيم. وفي إدارة الله للكون نموذج ومثال. ولما كان العالم الإسلامي يعيش وسط عوالم أخرى في الشرق والغرب, في أمريكا وأوربا وآسيا, فإنه قادر على أن يصنع للمسلمين دورًا في المستقبل).

وحتى لا نعتمد على البداهة في استنتاج قبول ووجوب التنمية في عالم المسلمين, فإننا نورد مقاربات مفكرين مسلمين في مسألة التنمية جمعها د. سيف الدين عبدالفتاح, ونوجزها في:

1 - مقاربة (الماوردي) في كتابه (أدب الدنيا والدين), وهي ترتكز على حس عمراني (من الإعمار) لمفهوم الإنماء الشامل, يستند إلى إطار ديني يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته, مستعينا بقدرات السلطة الملتزمة وهيبتها, في حضور العدل كحالة شاملة للكيان الفرد وللجماعة, مع توافر عنصر الأمن ونبذ الفوضى والتهارج. كل هذا بفهم أن صلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وإعماره.

2 - مقاربة (ابن خلدون) في كتابه (المقدمة): وهي مقاربة تعتبر بالتاريخ في عمقه, وتوصل بين العمران البشري والمقدمات المتصلة به كالجغرافيا, وتحذر من الترف أو الانغماس في التمدن (ولعله يقصد البذخ) كسببين من أسباب انهيار الحضارة.

3 - مقاربة الإمام (الشاطبي) في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة): التنمية بمفهوم الحفظ, أي إعمار الواقع وإنماؤه, بدفع المضار وجلب المنافع.

4 - مقاربة (محمد بن خليل الأسدي) في كتابه (التيسير والاعتبار) مركزا على نبذ الفساد النقدي (سوق المال) كمؤشر للفساد العمراني (التنموي) وأبنيته وهياكله.

5 - مقاربة المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) الذي يتتبع العملية التنموية والعمرانية ضمن عناصر متسلسلة تبدأ بعوالم الوجود البشري وما يحيط به من أفكار وأشياء وأشخاص تنتظم في شبكة علاقات اجتماعية. ويتوقف بن نبي أمام فكرة الظاهرة والقابلية لحدوثها ويطبقها على الاستعمار الذي ما كان له أن يحقق أهدافه لولا عناصر القابلية له داخل المجتمعات. وبقول آخر: ما كان للإعمار (أو التنمية) أن تخفق لولا وجود قابلية للإخفاق في المجتمع.

هذا, وثمة مقاربات أحدث من مفكرين مسلمين شغلتهم قضية التنمية مثل أحمد صدقي الدجاني الذي استخدم مفهوم العمران أيضا بمعنى الإنماء والتنمية, وصاغه في عنوان شامل هو (عمران لا طغيان) وكأنه بذلك يرشد إلى طريق التنمية السوية وتنافرها مع فكرة الطغيان وفسادها بهذا الطغيان.

وهناك مقاربة (العودة إلى الذات) للمفكر الإيراني (علي شريعتي) التي يحذر فيها من استهلاك الحضارة بدلاً من إنتاجها, وينبه إلى الحفاظ على الشخصية ضمن إطار عقيدي.

إذن, هناك اجتهادات فكرية للمسلمين على مدار زمن ممتد في موضوع التنمية, وهي اجتهادات تستطيع أن تنفي تربصات فكرية من خارج المجتمعات الإسلامية مثل نظرية كارل ماركس عن (الاستبداد الشرقي) التي لم تكن وليدة دراسة معمقة ومحايدة بل نظرة متعجرفة ملفقة من زاوية غربية محدودة, ومثله ماكس فيبر الذي كان الوجه الآخر للعملة الغربية ذاتها في الحكم على الشرق عمومًا والمسلمين خصوصًا بافتقاد أسس التنمية بسبب المرجعيات العقيدية, وكانت التنمية التي يعنيها تحديدًا هي الرأسمالية الغربية.

ولعل المسائل النظرية تكون عسيرة الفهم لدى غير المتخصصين, خاصة في وجود تضارب مفاهيمي وإقرار بأن (التنمية) ليست صيغة واحدة ولا نموذجًا منفردا قدمه ويقدمه هذا المجتمع أو ذاك, كما أن الرؤية الإسلامية (ولا نقول الإسلام نفسه), ليست نمطاً واحدًا, فهي متعددة بتعدد مجتمعات وأزمنة وبيئات وثقافات المسلمين هنا وهناك. وليس أدل على ذلك من تفاوت حظوظ المجتمعات الإسلامية في التنمية, بين الإخفاق, والنجاح, والإخفاق بدرجات والنجاح بدرجات أيضا. ولعل الإمساك بنماذج مختلفة من التجارب التنموية في العالم الإسلامي يكون أوضح كشفًا عما يختفي داخلها من مفاهيم أعاقت أو حفزت التنمية.

وفي هذه الحال سنجد أنفسنا ميممين شطر القارة الآسيوية, فهي القارة التي يمكن أن نقول فيها إن هناك تجارب تنموية - بغض النظر عن نتائجها - تنتمي إلى العالم الإسلامي, وهي كما يقول د.سيف الدين عبدالفتاح: (تطبيقات في شكل نماذج آسيوية متنوعة, ومتمايزة في آن واحد, توضح جوهر العلاقة بين الإسلام والتنمية). بل الأصح أن نقول إنها تكشف عن رؤية المسلمين في هذا البلد أو ذاك, ليس فقط للتنمية, بل للتنمية من خلال التأويلات الدينية السائدة في فترة معينة وسط مجتمع معين من المسلمين. ولننظر إلى ذلك في ضوء ما حدث أو يحدث في بعض بلاد المسلمين.

في أفغانستان على زمن حكومة (المجاهدين) ومن بعدهم (طالبان), أي بعيدا عن أوضاع الغزو الخارجي والاحتلال, تراجعت التنمية إلى ما دون الصفر وقاربت الحياة الكفاف لدى قطاعات كبيرة من الأفغان برغم أن النظام على زمن المجاهدين ثم زمن طالبان كان يدّعي الشرعية الدينية والمرجعية الإسلامية, فهل الإسلام مسئول عن إخفاق التنمية في هذا البلد الإسلامي البائس? بالقطع لا, فالإسلام لم يقل بهذا الانغلاق المزايد على كل المسلمين حسني الإسلام, ناهيك بمجتهديه, إنما هي الرؤية المنغلقة التي صنعت في أفغانستان نموذجًا تناحريًا واقتتاليًا - على حد تعبير د.علاء طاهر في (أفغانستان خارطة التصدع) - ولم يؤد هذا النموذج إلا إلى الحركة في اتجاه إعطاء انطباع سلبي عن العلاقة بين الإسلام والتنمية, وهي ليست كذلك, بل هي علاقة سلبية بين الرؤية المنغلقة لدى فئة من المسلمين مارست أقصى أنواع تداول السلطة, بأشكال دموية وتدميرية, لم توفر أدنى عناصر البيئة المستقرة الآمنة الجامعة لكيان الأمة, وهي - البيئة الآمنة المستقرة الجامعة - أساس بديهي لأي تنمية.

في تركيا الدولة ذات القلب الإسلامي والإطار العلماني والإمكانات البشرية والطبيعية المواتية, لم يقفز مؤشر التنمية إلى الدرجة التي تستحقها دولة لا يكاد ينقصها شيء من عناصر مشروع تنموي كبير, ويعزو الباحثون هذه المراوحة التركية في المكان إلى وجود عناصر (تنافسية) تؤثر في وحدة الكيان, إضافة إلى أن نموذج التنمية وُضعت معاييره على مقياس مغاير للخصوصية الروحية والتاريخية لدولة كبيرة مثل تركيا, وهنا أيضا لا نرى الإسلام مسئولا بل المسلمون.

أما في باكستان فهي حالة من التردد بين المظهر الإسلامي للإطار, والجوهر العلماني للنخبة في الحكم, وهذا التردد يتحرك على خلفية من الذاكرة التاريخية لدولة نشأت بدوافع دينية إسلامية, في حدود المعلن والمعروف. هذا التناقض انعكس بدوره على التنمية, وزاد من تناقضه حالة التوجس العسكري تجاه الهند, والتوتر الذي لم يهدأ في أفغانستان, ومن ثم ظهر نموذج للتنمية يقفز عاليا في مجال الصناعات العسكرية كالصواريخ والسلاح النووي, ويهبط كثيرًا في الاحتياجات المطلوب إنجازها على المستوى المدني للمجموع العام من السكان لا للنخبة في الحكم أو خارج الحكم. والمسألة هنا أيضا ليست الإسلام كدين, بل حركة المسلمين في الدنيا الباكستانية.

إذن, يمكننا القطع بأن إخفاق التنمية فيما مررنا عليه من تجارب أو نماذج مختلفة بالعالم الإسلامي ليس مرجعه الإسلام أبدا, بل المسلمون أنفسهم, وتحديدًا سلوكهم السياسي والاجتماعي والتأويلات التي تعود دوافعها لأهداف سياسية أو اجتماعية, وليس لرغبة حقيقية في استكشاف صحيح الدين, فصحيح الدين بأطره الروحية والأخلاقية والسلوكية, مجتمعيًا, وسياسيًا, واقتصادياً, يدفع إلى موقف إيجابي للمسلمين في الدنيا, وهذا الموقف الإيجابي يحتم واجب الإعمار على المسلم, والتكافل بين المسلمين في هذا الإعمار, ليس فقط من أجل تيسير المعاش على المسلمين, بل وفاء بواجب حمل الأمانة في الدنيا, استباقًا للحساب عن ذلك في الآخرة.

لقد أشرت إلى نماذج للتنمية في العالم الإسلامي تتراوح بين الإخفاق والمراوحة في المكان, لكن هناك نماذج أخرى أكثر جدية في قضية التنمية في شرق آسيا وبينها نموذج جلي النجاح, ليس فقط في العالم الإسلامي, بل في عالم الناجحين في الدنيا الواسعة وفي هذه العقود اللاهثة من زماننا. إنها ماليزيا, وهي نموذج ناصع لا يقف عند حدود الدفاع الناصع عن الماليزيين وحدهم, ولا عن اجتهاداتهم الإسلامية الصافية, بل هي دفاع عن جوهر الإسلام نفسه, ضد خصومه والمتربصين به, وحتى ضد أبنائه الذين يسيئون إليه بتحجرهم أو سوء صنيعهم, وفي مجال يستصرخه واقع المسلمين, هو مجال التنمية, وهذا أمر يتطلب وقفة خاصة, وحديثًا قادمًا, وكل رمضان وكل المسلمين بخير وتقدم.

 

سليمان إبراهيم العسكري