العراق... هل يمكن إعمار الثقافة? هادي نعمان الهيتي

العراق... هل يمكن إعمار الثقافة?

بفعل سلطة تجاهلت تجارب العالم وعزلت نفسها عن نظريات العلم الإنساني, واشتقت ثقافة رسمية متصلبة أرادت فرضها بالقوة على المجتمع, وانتهجت سياسة تقوم على النظرة الأحادية الضيقة طال التخريب كل مفاصل الحياة المعنوية والمادية في العراق.

منذ أن سقط التمثال بدأ الحديث عن إعمار العراق, إلا أن أحدًا لم يتطرق إلى موضوعة أساسية تستند إليها كل الأبنية الاقتصادية, وهي إعمار الثقافة, ذلك أن النجاح الاقتصادي لأي مجتمع يرتهن بنجاح الثقافة, حتى ذهبت فلسفة الارتقاء الحاضرة إلى التأكيد على الدور الأساسي للثقافة في تقدم المجتمعات, واشتقت العلوم الإنسانية نظريات ذهبت إلى القول: (إن العامل الثقافي يتصدر العوامل كلها من حيث تأثيره في حياة المجتمع الحاضرة والمقبلة), وأن مؤرخي العصر الحديث - عند استعراضهم تطور المجتمعات - لم ينصفوا, بعد, العامل الثقافي, لهذا ظهرت تيارات فكرية خلال العقود الأخيرة تحاول سد هذه الثلمة في سلم الارتقاء الحديث. وتهدف هذه التيارات إلى أن يعرف الإنسان, بموضوعية, طريقة الارتقاء بدل أن يظل يركن إلى المحاولة والخطأ, ويستعين بالأوهام, فيبدو كمن يقدم التضحية تلو الأخرى.

ومن هنا أمكن القول إن تقدم المجتمعات الحديث لن يتقرر عن طريق التشريعات, أو الروح العسكرية, أو العمل السياسي, أو الأيديولوجيا, أو الحماس اللفظي, بل عن طريق الفكر العلمي, هذا الفكر الذي لا يمكن أن تقف في طريقه أو أن تدفع به إلى الأمام إلا الثقافة, لأنها يمكن أن تسد المنافذ أمام الفكر العلمي, كما يمكن لها أن توفر له ظروف التطبيق. وبذا مثلما يمكن للثقافة أن تكون مفتاحا للارتقاء فإن من الممكن أن تكون قفلا دون مفاتيح.

ولما كانت مقولات الفكر العلمي, بما فيها نظريات العلم, وقواعده, وقوانينه, متاحة لكل مجتمعات العالم, فإن الثقافات المختلفة لها طرائقها المتباينة في التعامل مع تلك الأبنية, حيث تحدد الثقافة تلك الطرائق, لذا فإن الشعب الخلاق هو الذي اكتسب ثقافة مرنة, وواقعية, بحيث أمكن له أن يستعين بمنهج في التعامل مع الأفراد والجماعات والأفكار والقيم. أما الشعب العاجز فإن عجزه وليد ثقافة متخلفة وعنيدة, لذا فهو ينكفئ على الذات فتتركه قوافل الارتقاء, على قارعة الطريق, غارقا في خضم مشكلاته وهو يجتر أوهامه دون أن يستطيع وضع الحلول لما هو فيه من مآزق.

نزع روح الثقافة

كانت قد تبلورت في العراق, منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ثقافة جديدة في قيمها, وفي أفكارها, وفي تعبيرها عن ذاتها عبر الفنون والآداب, حتى أواخر الستينيات حيث تم التضييق عليها وإقحام عناصر دخيلة بحيث انتزع عنها جوهرها وروحها المتجددة, وأخرجت عن منهجها, الأمر الذي آل بمكوناتها إلى الإنحراف عن التوافق وبقيمها المؤتلفة إلى التصارع, وبأنماطها السلوكية إلى التنازع.

وفي أعقاب ذلك وعلى مدى بضعة عقود ظلت الثقافة في العراق تدير ظهرها لعناصر الفكر الجديد, إذ أريد أن تنزع عناصر الجدة والمرونة والانفتاح وأن تقحم في ثناياها عناصر تقليدية ومتعصبة ومنغلقة تحت واجهات وتبريرات شتى في محاولة للخروج بثقافة أخرى بديلة.

وقد تجاهل البديل أن جسد الثقافة لا يتشكل لبنة في معزل عن لبنة إذ هو وليد تفاعل بين كل متغيرات الثقافة بما في ذلك المجتمع كله, لأنه من غير الممكن أن تجد ثقافة إلا عبر سلوك المجتمع.

وتجاهل البديل, أيضا, أن الثقافة لا تستوعب عناصرها بالقوة, إذ هي شديدة الحساسية إزاء الغريب من العناصر, وهي لا تقبله بين جنباتها إلا بعد أن تقلبه على الوجه والقفا, بل, بعد إن تسبغ عليه من ظلها وتخرجه في شاكلة أخرى, وهي إن ارتضت, مكرهة, أن يقحم في أحشائها دخيل, فإنها قد تختزنه لحين, لكنها تظل تتحين الفرص كي تلقي به جانبا.

وإعمار الثقافة يعني بناء مكونات فكرية وعملية ينتظم من خلالها سلوك المجتمع. وتبدو في جوهر ذلك السلوك الرفعة على صعيد الأدب والفن ومجمل الفعاليات, بما فيها صيغ التعبير, ذلك أن الثقافة هي الرفيع من أساليب التصرف والتفكير والتذوق.

وعليه فإن إعمار الثقافة يستلزم استلهام مقومات الحياة الجديدة على الصعيد الاجتماعي بما يحقق الانتظام والديناميكية والتجدد والتفاعل في حياة المجتمع بحيث تلتزم هذه كلها بقيم الثقافة, أي بكل ما يرى المجتمع أن له قيمة أو جدوى اجتماعية, دون إخلال بحريات الناس.

وإذا كانت الثقافة تستعين بمجمل الفنون والآداب من أجل أن يعايشها المجتمع, فإن ذلك يفصح بأن بناء الثقافة يمر عبر قنوات تستهدي بعمليات عقلية وعاطفية مبدعة ورفيعة المستوى, ومن هنا كانت الأعمال الثقافية هي من الإنتاجات الكبيرة في العطاء الإنساني.

وإعمار الثقافة في العراق يتطلب عمليات ثقافية ومنهجًا مادام الإعمار يعني إحداث تغييرات مقصودة على مستوى الأفكار والقيم والسلوك, مع إضفاء الفاعلية من خلال إسباغ الروح على الثقافة عبر تنشيط القيم والأساليب في إحداثها التأثير والفاعلية الثقافية.

والعمليات الثقافية لا تتحقق من خلال ضخ المعلومات عن طريق وسائل الاتصال بقدر ما تتحقق عبر تناول ذكي يربط بين علاقات كل مكون ثقافي وتوفير الفرص للمجتمع لأداء الفعل الاجتماعي, إلى جانب إسهام الإعلام في الميدان بحيث يحس المجتمع بأن له دورًا في جوانب الأداء الثقافي.

ومن هنا, فإن نشر اتجاهات الثقافة لا يقتصر على إصدار النشرات والكتب والجرائد والمجلات وإنتاج الأفلام السينمائية وتنظيم الفعاليات المسرحية, وتقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية وتوفير المواقع الإلكترونية على الحاسوب, بل يتعدى الأمر ذلك إلى الفعاليات التي يتحتم توفيرها للمجتمع كي تتسنى له المشاركة الثقافية على نطاق واسع.

ومن هنا فإن إعمار الثقافة يتطلب مقومات أساسية تتمثل في عمليات تقوم على منهج, وهذه العمليات هي:

1- ضبط الثقافة:

لم تسجل تجربة العمل الثقافي خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العراق إضافة فكرية أو عملية, لذا فإن إعادة إعمار الثقافة كعملية لن تكون امتدادًا لتلك الفترة.

ومن بين ما تقتضيه عملية الإعمار تحقيق الثقافة الضابطة, أي تلك الثقافة التي توفر للمجتمع العراقي أداء الفعاليات المختلفة بصورة منتظمة واتخاذه أنماطًا سلوكية مسايرة لإيقاع الحياة مستندة إلى قيم ومعايير واضحة بعد أن شهدت الساحة العراقية ارتباكات واختلالات واسعة.

2- إعادة تفسير دلالات المكونات الثقافية:

لا تقتضي إعادة إعمار الثقافة, بالضرورة, إلغاء قيم وعناصر ثقافية أخرى بقدر ما تقتضي فهما جديدًا لمجمل العناصر الثقافية, كما أن ظروف الحاضر ومتطلبات المستقبل تقتضي إعادة تفسير الدلالات, خاصة أن للعناصر الثقافية مدلولات متباينة في الأوضاع المختلفة. ومن هنا فإن تفسير دلالات تلك المكونات تتمثل في إضفاء معان جديدة على تلك الدلالات, وبذا فإن إعادة التفسير هي عملية ثقافية تنطوي على تكوين علاقات جديدة للعناصر الثقافية, الأمر الذي يؤول إلى فهم جديد متناسب مع تغيرات الحياة الحاضرة والمقبلة.

3- إعادة ترتيب القيم والعناصر الثقافية:

تعد الثقافة أكثر من كونها مجموعة من العناصر, إذ هي الطريقة التي تنتظم بها تلك العناصر في سلالم لتؤلف كلا متكاملا, وبذا فإن اكتساب الثقافة لا يقتصر على امتصاص عناصرها, بل يتعدى ذلك إلى انتظام تدرج تلك العناصر.

ولما كانت العقود الأخيرة قد أحدثت ارتباكًا في القيم وفي مجمل العناصر الثقافية, وإخلالاً بمواقفها على السلالم, لذا فإن إعادة إعمار الثقافة يتطلب انتشال تلك المكونات وهندمة دلالاتها وهندسة مواقفها, بحيث تجد عوامل الشد والرواسب الثقافية مواقع دنيا على السلالم, وتجد عوامل المرونة والانفتاح مواقع عليا.

4- توفير الحق في الاتصال الثقافي:

أحاطت بالعراقيين في الداخل ظروف حياة حرموا فيها من مجمل جوانب الحق في الاتصال, إذ حيل بينهم وبين التعرض للاتصال العربي والدولي, وأريد لهم أن يظلوا داخل أسوار الدعاية الرسمية وحدها, حيث تكرر أمامهم المسامع والمشاهد.

ومن هنا فإن إعادة إعمار الثقافة تتطلب إتاحة الاتصال للإنسان العراقي من خلال توفير فرص كاملة للتعبير والتلقي بما يزيد في المساحة النفسية والاجتماعية والثقافية للإنسان.

5- الانفتاح على ثقافات العالم:

كانت العقود الثلاثة الأخيرة قد شهدت تضييقا على الإنسان العراقي, من هنا فإن الثقافة اليوم في أشد الحاجة إلى أن تنفتح على الثقافات الأخرى, وتهيئ الإنسان للتعامل مع مجمل الأفكار الجديدة دون أحكام مسبقة أو مخاوف أو ردود أفعال معاكسة. ويعني هذا تنظيما للمقاومة الثقافية التي تعبر عن حدود مواقف المجتمع إزاء الأحكام الثقافية الواصلة تقبلا أو رفضا.

وفي هذا المجال يراد للمرونة أن تكون منهجا يسبغ ظله على روح الثقافة الجديدة, والذي يعني التخلي عن ظاهرة العناد.

6- إتاحة الإيحاء المركزي:

كان للصفوة حضورها في الحياة الثقافية في العراق غير أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت عملية مقصودة لهدم أنساق النخب في محاولة لإحلال أنساق جديدة, وعلى هذا فقدت الثقافة في العراق نخبا سياسية واجتماعية بعد أن كان هناك إيحاء مركزي يتمثل في تفاعل المجتمع مع التوجهات الثقافية الصادرة عن الصفوة حيث كانت الصفوة تلعب دورًا ثقافيًا ملموسًا.

ومن هنا يترتب في عملية إعمار الثقافة أن تتاح الظروف لنشوء النخب الثقافية وارتقائها, وأن تمارس دورها بحرية, وأن تتوافر لها أسس التعبير عن نفسها, والاتصال بالجمهور, وأن تتاح لها أجواء المنافسة الحرّة.

7- تحقيق المشاركة الثقافية:

تعني المشاركة الثقافية مجمل الفرص المتاحة للأفراد والجماعات والقوى في الإسهام الثقافي بمجمل متطلباته الفكرية وفعالياته السلوكية بما فيها الفرص المتكافئة في التعبير عن الاختيارات.

ولما كانت الثقافة خلال العقود الثلاثة الأخيرة قد تمثلت في صيغ لفظية محدودة, لذا كانت نشاطا شكليًا ومنقوصًا.

ولما كانت المشاركة تتجاوز الاشتراك الفعلي لتؤلف منظورا, لذا فهي تشكّل منهجًا أو أسلوبًا في تهيئة الأفراد للتعامل مع متطلبات الحاضر ومواجهة احتمالات المستقبل بكفاءة, وهذا المنظور هو ما يسمى منهج العملية الذي يقوم على تمكين المواطنين من فهم المشكلات وإشراكهم في التعامل بطرائق حلها.

8- تصحيح الانطباعات:

تتشكل في كل ثقافة إدراكات وتصوّرات, أي انطباعات عن الأفكار والأشخاص والجماعات, وكثيرًا ما تنجم عنها مواقف واتجاهات وقرارات.

ولما كان الكثير من الانطباعات قد نشأ في إطار ثقافة غير متوازنة, لذا فإن من تلك الانطباعات ما كان يعبر عن دلالات شوهاء, ومنها ما اتخذ تعميمات متحيزة على شكل انطباعات جامدة, ومن هنا يترتب أن تعمد عملية إعمار الثقافة إلى إتاحة الفرص لتصحيح الانطباعات عن الجماعات والطوائف والأفكار.

9- إقصاء الثقافات الفرعية المقحمة:

فرضت على الثقافة العامة في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة أن تستوعب ثقافات فرعية منها ما هي مقحمة مثل ثقافة العنف, وثقافة الإرهاب, وثقافة الطائفية, وثقافة التعصب.

ومن بين هذه الثقافات ما دخل بصورة مقصودة عن طريق التنشئة الاجتماعية الرسمية, ومنها ما كان نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي سادت البلاد.

وحيث إن لهذه الثقافات أخطارها الحاضرة والمستقبلية, لذا فإن إعمار الثقافة يستدعي تصفية هذه الثقافات, شيئا فشيئا, بحيث تؤول هذه الثقافات المقحمة إلى رواسب تستبعدها الثقافة العامة من مكوناتها.

10- التقريب بين الثقافات الفرعية:

إلى جانب الثقافات الفرعية المقحمة, هناك ثقافات فرعية هي أنساق في الثقافة العامة تتشكل عادة, بسبب توزع الأنشطة الاجتماعية على صور متعددة, إذ تعبّر كل ثقافة فرعية عن أسلوب حياة شريحة في المجتمع.وبسبب التناقضات الواسعة في المجتمع العراقي, اتسعت الفجوات بين الثقافات الفرعية, وخرج الكثير منها على روح الثقافة العامة بحيث ظهرت ملامح التناحر بين الكثير من الثقافات.

ولاتزال مظاهر ذلك التناحر والارتباك قائمة بين بعض الثقافات الفرعية, ومنها ما هي مقرونة بتبريرات لفظية, ومنها ما هو منسوب إلى عقائد أو تجارب, ومنها ما يغذيها التعصب أو التنازع على سلطات.

ومن هنا يتطلب إعمار الثقافة التقريب بين هذه الثقافات الفرعية عبر العمل على إيجاد محاور وقواسم مشتركة, بحيث يتحقق قدر من التناغم بين هذه الثقافات الفرعية.

 

هادي نعمان الهيتي