العرب وجامعاتهم... رؤية مستقبلية حامد عمار

العرب وجامعاتهم... رؤية مستقبلية

عالمنا العربي منشغل راهنًا بتطوير نظمه التعليمية, وتحتل الجامعة موقعًا رئيسيًا في هذه الجهود المبذولة من أجل إرساء مقومات تعليم المستقبل, فكيف يمكن أن يتحقق ذلك?

يمر عالمنا بحقبة تاريخية تموج بزخم من متغيرات الثورة المعرفية بتياراتها العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية والاتصالية, وهي فترة تقتضي منا التفكير المحيط والعميق بما تستدعيه من مطالب لأداء رسالة الجامعة, تعليمًا وتعلّمًا لإعداد الثروة البشرية المقتدرة على التعامل مع معطيات هذا السياق واحتمالاته ومفاجآته. هذا فضلاً عن دورها في البحث العلمي وإنتاج المعرفة, وفي امتدادها لتنمية مجتمعها وتقديم معارفها وخبراتها لخدمة أنشطته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل هذا السياق بتحدياته يمثل فرصة واعدة تتحدانا فنستجيب لها بوعي وحكمة لإعادة تشكيل جامعاتنا.

ولسنا في حاجة إلى جدال طويل لنقر بأن مؤسسات التعليم العالي بما فيها الجامعة تعاني كثيرًا أمراض القصور والتيبّس وتقوقع الاعتياد في مختلف جوانب أداءاتها العلمية وعلاقتها بمجتمعها, وكثيرًا ما وجهت النقود وأثيرت الشكوك حول عدم الوفاء بمسئولياتها في التعليم والبحوث وبتدني مستوى خريجيها, وتقاعس أساتذتها, واضطراب التيارات الفكرية في حرمها, يضاف إلى ذلك مايقال عن عجزها في التشابك مع مجتمعها في خارج أسوارها بتناول همومه وآماله, وإشاعة المعرفة والاستنارة والعقلانية في ثقافته وقيمه.

ولعله من المفيد هنا أن نذكر بإيجاز أهم ما تتعرض له المنظومة الجامعية من خلل وقيود وضغوط وكساد.

ونشير بداية إلى أن طغيان الجو البيروقراطي الإداري بقوانينه ونظمه ولوائحه ومجالسه وتحكّمها في أداء الجامعة لرسالتها, يمثل واحدة من بين تلك العوامل المقيدة لفاعلية الأداء الجامعي. وفي كثير من جلسات المجالس الجامعية ما يشي باختزال جدول أعمالها في تلك القضايا الإدارية. ويظل على سبيل المثال معيار الأقدمية والفترات الزمنية, وليس الكفاءة والتميّز, حاكمًا لاختيار القيادات ومدة الدراسة وترقية أعضاء هيئة التدريس.

أضف إلى ذلك التآكل في مبدأ استقلالية الجامعة, حيث غلب على توجهاتها ما توحي به الأوامر والنواهي الفوقية, وبخاصة فيما يتصل بشئون الضبط والربط لحريتها الأكاديمية في التفكير والتعبير لدى أساتذتها وطلابها, وفي هذا الصدد نتذكر مقولة المفكر البرازيلي (باولو فريري) فيلسوف التربية للعالم الثالث مشخّصة أحوال الجامعات في أمريكا اللاتينية بأنه (علينا أن نحكم أن ثمة خللاً في حياة الجامعة, حين يكون كل شيء فيها على ما يرام, فليس لدى الطلاب ما يشكون منه, وليس لدى الأساتذة ما يشغل بالهم, وأن القافلة تسير منضبطة, ساكنة كانضباط الفصل الذي يفرضه مدرس صارم في المدرسة الابتدائية), وأحسب أنه لا مشاحة في انطباق هذه المقولة على أجواء جامعاتنا.

ومن الممارسات والآليات التي تخنق الروح الجامعية المنشودة في فضاء المعرفة الجديدة والمتجددة, ما يعرف بالكتاب الجامعي المقرر كمصدر أساسي للمعرفة, مع تقادم مضامينه في كثير من الحالات, واعتباره الأداة الرئيسية للتدريس والتلقين, مع أن بعض سلفنا من العلماء قد أدان (تشييخ الصحيفة) ثم إن ثورة التقنيات الرقمية قد أتاحت وسائط جديدة لنقل المعرفة واستيعابها, وتحويل نمط التعليم والتدريس إلى نمط التعلم واهتمامات المتعلم, ونقل مركز الثقل من التلقين والحفظ إلى الحوار والتفكير وتنمية الوعي الناقد والخيال المبدع.

ومع الجهد المبذول في إدخال الحاسوب إلى قاعات الدرس ووسيلة للتعلم, إلا أن توظيفه سيظل قليل الجدوى إذا لم يقترن بتنمية طرائق التفكير والبحث العلمي, وبالتمكين من اكتساب القدرة الفارزة لما تطرحه الشبكات الإلكترونية من فيض المعلومات, ومن المعروف أن بها حشودًا هائلة من تلال المعلومات تتطلب الحكم على صدقيتها, وفزز ما بها من اتساق وتناقض, وصحيح وزائف, وما هو علمي وتجاري, وما هو أخلاقي وغير أخلاقي.

وضرورة الفهم الناقد تفرضه كذلك ما تبثه الفضائيات الأجنبية والهائمة من أخبار ومعلومات ومضامين ثقافية وسياسية, ومن ثم ضرورة أن يتحصن الطالب ضد كل ما يوهن قدراته الناقدة من أساليبها التقنية والإخراجية الباهرة.

بيد أن كل هذه القضايا الفكرية والتنظيمية في رسالة جامعة القرن الحادي والعشرين لا تحتل ما هو جدير بها من أولوية واهتمام في تكوين عقلية الطالب وقدراته, ومرة أخرى على حد تعبير (باولو فريري) إننا (نتعلم قراءة الكلمة لكي نتمكن من تعلم قراءة العالم).

وإذا انتقلنا من صعيد التعليم والتعلم إلى ساحة البحوث التي تنتجها جامعاتنا, فلن نجد صورة أو مستوى أفضل في تعرضها للنقد والشكوى من قطاعات التنمية واحتياجات مواقع الإنتاج والخدمات. ومن المعروف أن إنتاج المعرفة الجديدة والمتجددة من خلال البحوث, يعد عاملاً محرّكًا رئيسيًا لنجاعة مشروعات التنمية. وهي في جميع الأحوال مدفوعة باقتصاديات المعرفة والتنافس في قوى السوق الداخلية والعالمية, وما تفرضه من مستويات معرفية ومهارات بحثية فائقة وبخاصة في المجالات العلمية والتكنولوجية. ومهما قيل عن أهمية دور الطلب على البحوث باعتباره الحافز الأولي على إنتاج العرض, فإن ذلك لا يحول دون إيلاء هذه المهمة من رسالة الجامعة في التحفيز والترويج للطلب الاهتمام المستحق حين يكون إنتاج العرض ذا قيمة حقيقية للمستهلك في سوق العمل.

وفي مجمل الأحوال فإن حصاد جامعاتنا كمراكز للبحوث في مجالات العلوم وتكنولوجيات المعرفة والاتصال وغيرها من التخصصات الحديثة, محدود للغاية, وهو معني بالكمّ دون النوعية والتأثير والتوظيف في حياة المجتمع.

ويعزى الفقر في أداء مهمات البحث الجامعي, لا إلى ضعف الموارد المتاحة فحسب, بل إن بعض هذه الموارد يمثل أحيانًا فائضًا غير مستخدم, وإنما إلى ما يكمن في موطن الضعف الأشد المتمثل في تأهيل الباحثين, والتساهل والمجاملات في منح درجات الماجستير والدكتوراه وفي تقييمها الذي يحكم على رسائلها في معظم الحالات بالامتياز ودرجة الشرف الأولى أو الثانية, إرضاء للطلاب والأساتذة المشرفين على تلك الرسائل. كما يعزى ذلك أيضًا إلى استرخاء كثير من أعضاء هيئة التدريس عن ممارسة البحث الجاد بعد تربعهم على كرسي الأستاذية, ومما يستحق الإشارة إليه هنا أن من معايير تقييم الأستاذ في الجامعات الأمريكية, على سبيل المثال, مدى المتابعة والاستمرار في نشاطه البحثي طيلة عمله, حتى بعد حصوله على درجة الأستاذية على أساس مبدأ قاطع في التقييم مفاده (انشر أو اختف Puflish or Perish, جدّد أو تبخّر Innovate or Evaponate).

يضاف إلى ذلك أن بحوث الفريق نادرة في الإنتاج الجامعي العربي مع أن مواطن المعرفة الجديدة والاكتشاف المحتمل يقع قدر كبير منها في نقاط التماس أو التشابك بين مختلف التخصصات أو مختلف النظريات, مما يتطلب العمل الجمعي الفريقي, وفي هذا الصدد تكاد تعدم قنوات التواصل والمشاركة بين الجامعات العربية في مجال البحوث, وبينها وبين الجامعات الأجنبية, مما ينشط إنتاج معارف جديدة تغذي حركة التنمية في أقطارنا العربية.

الشباب والجامعة

وتمثل المسألة الديمجرافية وتزايد حجمها العددي أحد التحديات في مستقبل التعليم الجامعي, إذ يصل مجموع سكان العالم العربي حاليًا إلى حوالي 390 مليونًا, وهو أكبر من عدد سكان الولايات المتحدة, ويتوقع أن يصل عام 2025 إلى حوالي 450 مليونًا, ويتميز ببنية شبابية كبيرة الحجم في الفئة المناظرة للتعليم الجامعي التي تقدر بحوالي (20%) من مجمل السكان, ومع ذلك نجد أن معدلات القيد في التعليم الجامعي العربي متدنية حتى في أعلاها (30%) مقارنة بكوريا الجنوبية (70%) وإسرائيل (51%) وكندا (80%) والولايات المتحدة (70%). وهذه المستويات التعليمية تضيف تحديًا ضاغطًا لتكوين قوة عمل تواجه مطالب البقاء والنماء في معترك التنافس الحاد في السوق العالمية, والواقع أن نسبة الحاصلين على تعليم عال في مجمل الأقطار العربية لا يتجاوز 9% في أحسن التقديرات. ونحن في حاجة ملحّة إلى بناء مجتمع المعرفة ورأس مال بشري, كمّا وكيفًا, مما يضع على الجامعات مسئوليات ضخمة في مواجهة الطلب على التعليم الجامعي في المستقبل, تأسيسًا لإعداد الكفاءات العالية للتنمية المستدامة.

وتأتي قوى السوق العالمية عاملا ضاغطا من أجل التحول من مفهوم الجامعة الحالي إلى جامعة المستقبل المتوقع على الأفق الزمني القريب والبعيد, وهذه القوى من أكثر العوامل في تغيير مؤسسات المجتمع الحالية بما فيها مؤسسة الجامعة.

لقد نشأت جامعاتنا في سياق ليبرالية صفوة تنشد المعرفة من أجل المعرفة والاستنارة, ممتزجة مع معارك الاستقلال والحركة الوطنية واعتبار الجامعة رمزا لتأكيد السيادة الوطنية, ثم انتقالا بتوجهها إلى مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية, لتركز حاليا على مطالب سوق العمل كما هو الشأن في جميع الأقطار النامية الأخرى. ولقد أدت الليبرالية الجديدة إلى هيمنة السوق العالمية والاقتصاد الحر, ومؤسساته الدولية, مما ترتب عليه احتدام التنافس, والتسابق الرهيب نحو الربح ومزيد من الأرباح, وإلى (تسليع) كثير من القيم ومقومات الحياة.

وتفرض قوى السوق بذلك مستوياتها ومواصفاتها العالمية في كل مجالات العمل والأداء والقدرة على الدخول والمنافسة في السوق العالمية بل وفي السوق المحلية أيضا, وهذا يعني وبكل إلحاح مستويات عالمية من المعرفة تستوعب الثورة المعرفية الجديدة والمتجددة, وتوظيف آلياتها التكنولوجية المتقدمة.

تكلفة التعليم

يلاحظ بصورة واضحة تزايد تكلفة التعليم, عاما بعد عام, وسوف تستمر في التزايد مع تنامي الطلب على مستوى التعليم الجامعي الذي يبلغ نصيبه من الإنفاق العام على التعليم في كثير من الأقطار العربية ما يعادل 30%. أضف إلى ذلك ارتفاع تكلفة التوسع في إدخال تكنولوجيا المعلومات وسيلة ومصدرا في أداء عمليات التعليم والتعلم. وتدور حاليا مناقشات وآراء متعددة حول إلغاء مجانية التعليم الجامعي الرسمي في بعض الأقطار العربية بغية التخفيف من أعباء الدولة من خلال استرداد التكلفة من المنتفعين بهذا التعليم, وضرورة المشاركة المجتمعية بغية الإسهام في الموارد الحكومية للإنفاق عليه. ولا يتسع المجال هنا لبيان المخاطر التي قد تصاحب سياسة إلغاء المجانية على نمو مجمل الكفاءة الإنتاجية لقوة العمل, وعلى مبدأ حق التعلم للجميع, وبخاصة في بعض الأقطار العربية التي لايزال متوسط دخل الفرد فيها متدنيًا. والحاصل أن ثقافة السوق العولمية قد خفتَ في تقاريرها وتوجهاتها الدولية والمحلية لحن العدالة الاجتماعية, بينما تعالت فيها أصوات التميز والجودة والقدرة على التنافس. وهي قضايا حق يراد بها إخفات الصوت الآخر للعدالة. وتبقى سياسة التوازن بين الطرفين من تحديات التطوير في جامعة المستقبل, وهذا يتوقف على نتائج ما ينتهي إليه حوار القرار الديمقراطي والوفاق الوطني في هذا الشأن.

شخصية الجامعة والمواطن

ويأتي من بين أهم العوامل الضاغطة والدافعة إلى النموذج المعرفي العربي الجديد لجامعة المستقبل دور الجامعة فيما يعرف بقضايا الصالح العام, وقيم التماسك الاجتماعي, والوحدة الوطنية, والعروة الوثقى في الانتماء القومي العربي. وقد أدى إلى تجاهل هذا الدور منذ العقدين الماضيين أو على الأقل اعتباره دورًا ثانويًا ما تمخضت عنه العولمة من تركيز على مطالب السوق والجودة والتكنولوجيا وتخفيف أعباء الدولة ومسئولياتها, وفتح باب الاستثمار للقطاع الخاص والأجنبي في التعليم العام والجامعي. وقد صاحب ذلك شيوع مقولة أن التعليم الخاص والأجنبي أفضل وأجود من التعليم الرسمي, كما شاع الحكم على كفاءة التعليم الجامعي بمعيار واحد, هو ملاءمته لاحتياجات سوق العمل, مع ما في هذا السوق من اختلالات وفساد محليًا وعالميًا.

وفي هذا السياق الزاخر ومصالحه وتناقضاته, وقر في أذهان المسئولين والرأي العام أن التعليم الجامعي مطلب فردي في المقام الأول, وأن هدفه رفع مستوى معيشة الفرد, وتحسين دخله, وترقية وضعه الاجتماعي.

وهذا حق, لكنه لا يتوقف عند هذا الحد. ويرتبط بهذا الفهم السوقي المزيف أن التعليم نشاط فني محايد, مع أنه بالضرورة نشاط سياسي, كما أن السياسة نشاط تعليمي, وأن عليه طلبًا مجتمعيًا في تواصل مسيرة المجتمع عبر أجياله.

ومع التيارات الفكرية والفردية والسوقية التي انبثقت من العولمة وليبراليتها الجديدة الداروينية في البقاء للأقوى, غدا الشغل الشاغل في أداءات العملية التعليمية هو التركيز على تكوين الفرد, فردًا قادرًا على امتلاك المعرفة والمهارات والقدرات التي يتطلبها سوق العمل في الداخل أو الخارج, وبخاصة مستويات الشغل في الشركات المتعددة الجنسية وغيرها من الشركات والمشروعات الأجنبية أو الدولية. ومن أهم تلك القدرات التعليمية تكوين مهارات اللغات الأجنبية, والإنجليزية بالذات, والتفاهم والتداخل مع الحواسيب وشبكات المعلومات, وتنمية الذهنية المرنة, والإلمام بالأساليب التفاوضية, وأنماط الإدارة الكلية, وحسابات التكلفة والعائد, وحل المشكلات, وغيرها مما تتطلبه ثقافة (البزنس). وبعبارة أخرى يصبح الهدف الرئيسي المحقق لنجاح الفرد اكتساب نمط الشخصية في إطار السوقية العالمية, وباختصار سوف تؤدي توجهات العولمة إلى استهداف تكوين الفرد الذي يمكنه أن يعمل في مواقع الشركات الأجنبية أو مشروعاتها الاستثمارية التي تتسابق دولنا إلى منحها مزيدًا من الإعفاءات والامتيازات في حركة اقتصادنا القومي.

إن نظام العولمة, وتداعياته التربوية والتعليمية التي أشرنا إلى بعض مظاهرها في انتشار موجات التعليم الخاص والأجنبي, وفي رسائل الفضائيات التلفزيونية لا تعبأ كثيرًا بقضايا الصالح العام والمصالح المرسلة, بل تسعى بطرق مباشرة وغير مباشرة إلى اقتلاع الفرد من جذوره, وإلى خلخلة التماسك الاجتماعي وثقافته المشتركة, إلى جانب إثارة النعرات الطائفية والعرقية.

وقد أدت فعلاً إلى تنامي موجات هجرة الأدمغة إلى الخارج أو على الأقل إلى أحلام الهجرة التي تراود الشباب وتشل فاعليتهم في الأوطان.

وحصيلة كل ذلك هو التناقض في أهداف التعلم الجامعي بين أولويات تكوين المواطن في مواجهة أولويات التركيز على تكوين الفرد في شخصيته العالمية تحت مظلة دعاوى التكنولوجيا ووسائطها. ولعل هذه المفارقة والتحول في منظومة الأولويات التعليمية هو ما دعا د.حسين كامل بهاء الدين إلى أن يدق جرس هذا الخطر في كتابة القيم (الوطنية في عالم بلا هوية ـ تحديات العولمة) ولعل هذا أيضًا ما يجري اليوم - كرد فعل - من التأكيد على اعتبار التعليم قضية أمن قومي, وعلى أنه أداة رئيسية في تنمية الهوية والخصائص والقومية.

والواقع أن قضية الموازنة بين تكوين الفرد العالمي وتنمية المواطنة ودعم مقومات حيوية الهوية والثقة في إمكاناتها وإبداعاتها وتعبئة طاقاتها في التنمية الذاتية, مسألة غاية في الأهمية بالنسبة للنظر في شروط قيام جامعة المستقبل. وعلينا في هذا الصدد أن نردد المقولة الصينية بعد تعريبها (وليخدم كل ما هو عالمي كل ما هو عربي).

ومن العوامل والضغوط العولمية والسوقية ما يواجهه التدريس في الجامعات باللغة العربية. واللغة كما هو معروف هي أداة الفكر التي يعبر بها الإنسان عن واقعه وعلاقاته وهمومه بل وأحلامه. وهي مكون رئيسي من مكونات المواطنة والهوية في عالمنا العربي وثقافته وتواصل أجياله. ومع هيمنة العولمة وسوقها ولغتها الإنجليزية بالذات, انحسرت الجهود المبذولة لتعريب التعليم الجامعي, وطغت اللغة الأجنبية على التدريس حتى في العلوم التي كانت تدرس بالعربية.

وتجيء مدارس اللغات والمدارس والمعاهد الأجنبية لتجعل التعليم باللغة الأجنبية من مميزات تعليم الصفوة وسيلة للدخول إلى سوق العمل والمال والتجارة والسياحة. ومع هذا السياق العولمي يرى فريق من الأساتذة أن التعريب يجعل من العسير على الطلاب الرجوع إلى مصادر المعرفة الأجنبية من كتب ومجلات وشبكات المعلومات, حيث تقع مواطن المعرفة على المستوى العالمي. لكن التعريب لا يعني عدم الاهتمام البالغ بتعليم اللغة الأجنبية والسيطرة على مهاراتها, قراءة وفهمًا وكتابة وحديثًا, فهي أداة تواصلنا مع العالم الخارجي وعالم المعرفة ومصادره.

وقد أظهرت بعض البحوث اللغوية أن تدريس اللغة الأجنبية في تزامنها مع اللغة الأم يعزز كل منهما الآخر. وفي جميع الأحوال فإن اللغة العربية هي لغة التفكير وترجمة الواقع, ومن ثم مصدر الإبداع في كل ثقافة عربية. ومن الضروري أن تبذل الجهود في التعليم الجامعي للحفاظ عليها وتطوير وإثراء مصطلحاتها ومجازاتها كأداة للتعليم في كل المجالات العلمية والاجتماعية والإنسانية. وبذلك نعيد لها موقعها الرئيسي في مجال الفكر والتعليم والتعلم والبحث, ومما يحول دون ثنائيات فكرية ومنطقية تجعل التواصل عسيرًا بين المجالات التي تدرس باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية من ناحية والمجالات التي تدرس باللغة العربية من الناحية الأخرى.

إرادة التغيير

لقد استهدفنا في اختيار تلك التحديات الداخلية والخارجية وفي إشكاليات المنظومة التعليمية أن يكون إطارًا تجميعيًا للقضايا الرئيسية, دون التفاصيل, ليصبح ويمسي مثارًا للمناقشة على أوسع نطاق, ومقدمة لازمة للتخطيط المستقبلي على مستوى الجامعات ذاتها.

والواقع أنه لن تنطلق مسيرة للتغيير, بداية واستمرارًا, إلا بالمشاركة الملتزمة من الأهل والأسرة في تلك المنظومة الجامعية: أساتذة وقيادات جامعية مؤمنة بضرورة التغيير وبدوافعه وفوائده. وهم الذين سوف يشقون طريقهم بالتقدم خطوة خطوة نحو المجهول, مدركين أن عناصر المقاومة سوف ترفع رءوسها, وما حدث تغيير إلا وناصبه معارضون. وهم كذلك متحسبون لمواجهة الصعوبات للوقوع في أخطاء مرحلية يمكن تصحيحها, لكنهم غير مترددين في اصطناع الخبرة اليدوية العملية بأن شق الطريق إنما يتحقق بالمشي فيه, وذلك من خلال مغامرة استكشافية متصلة الحلقات.

ولقد شهدت الجامعات العربية تغييرات في العقود الماضية, لكنها - في تقديري - تغييرات فوقية ومن قبيل الإضافة أو التجميل, لم يقترن فيها الانشغال بتفاصيل كيف نعلم? ومع ماذا نعلم? إلا بقدر محدود, ومن ثم لن يكون التوجه الجديد تخطيطا يتوقف على ما تتيحه المناسبات وتنتهزه الصدف والفرص بين الحين والآخر, كما أنه لن يكون تخطيطًا مدفوعا فحسب بالتخوف واتقاء مخاطر التغيير, أو بمحاولات تبرير الواقع, وترميمه ولمسه لمسا رقيقا حتى لا تختل الأمور. وكثيرًا ما تردد الحديث عن بحث طرق غير تقليدية تنتهي بنا إلى طرق تقليدية في جوهرها أو في صورة تجميلية في شكلها من قبيل صب الزيت القديم في قنان جديدة.

والتغيير المنشود ينطلق من الإيمان بضرورة التغيير وإلحاحه, وبأن جامعة المستقبل لن تقنع إلا بدور قيادي رائد في تطوير المجتمع ذاته ومن ثم تعبئة الجسم الجامعي كله لهذه الضرورات, والاتفاق على أن التغيير لا يهدد مصالح أحد, وأن طاقة الرغبة في التغيير ينبغي أن تكون ذات نفس طويل لا يهدأ ولا يمل, وأن ثمة خلخلة في الأوضاع الساكنة في حياة الجامعة على حد تعبير باولو فريري حين نحكم بأن كل شيء على ما يرام.

وفي هذه المحاولة الاستراتيجية للتغيير يبدأ السعي إلى تذرية محصول القمح للفصل بين الحب والتبن, وتبين المواقع العكرة التي ينبغي تنقيتها أو التخلص منها في ضوء الرؤية والتوجه الفكري الجديد. وأعتقد أن في جامعاتنا مواقع واضحة ينبغي أن تذروها الرياح, أسوق منها على سبيل المثال ما استقر من نظم الكتب الجامعية المقررة, ومعايير ترقية الأساتذة, واعتماد الأقدمية في اختيار القيادات, وقوانين وإجراءات الضبط والربط, وتضييق حريات التعبير والتفكير لكل من الطلبة والأساتذة, إلى غير ذلك مما يمكن الاتفاق على إزاحته من ركام التاريخ وعبء التقاليد المترسب في الثقافات العامة والفرعية والنوعية.

ومع هذه العمليات والتغييرات الاستراتيجية تظل الرؤية في جامعة المستقبل, حريصة على مقومات تنمية القيم الروحية وممارساتها الصحيحة دون تفريط أو إفراط, وبها تتعزز وشائج الوطنية والقومية السديدة. ولسوف تزداد حرصًا على أن تبقى أبوابها ومنافذها مشرعة للشباب من أبناء الميسورين والمستورين والفقراء, ومفتوحة على مصاريعها للكبار الذين انقطعوا عنها لظروف خاصة ومازالوا راغبين في معاودة الإفادة منها, وللعاملين كلما أرادوا ترقية مقدراتهم المهنية والفكرية.

وتظل الجامعة كذلك ملتقى لمختلف الأجيال من الأساتذة والطلاب من عديد الأقطار العربية والإسلامية, يلتقون فيها على عشق المعرفة والبحث والاحترام للرأي المخالف, كما يلتقي فيها الجنسان في محيط من المساواة والتقدير المتبادل شركاء علم وعمل ومصير. ولسوف تواصل مسيرتها بالإسهام في دور قيادي متقدم لإثراء مقومات التنمية بالعلم والمصنع والمزرعة والحرية والإبداع, وفي تفاعل إيجابي واثق الخطى مع المتغيرات المجتمعية والعالمية. ومع إرادة التغيير وعزائمه والتطلع إلى جامعة أكمل وحياة أفضل كما يدعونا الشاعر إسماعيل صبري:

لا تتركوا مستحيلا في استحالتهِ حتى يُميط لكم عن وجه إمكانِ


 

حامد عمار