أفروديت وموائد الحب جابر عصفور

أفروديت وموائد الحب

أفروديت هي الإلهة الوثنية للحب والجمال والخصوبة في الأساطير اليونانية. وقد ظلت نموذجًا مثاليًا للفتنة والسحر في المرأة, واتخذت اسم فينوس, في روما القديمة, وفي الأساطير اللاتينية التي كانت امتدادًا للأساطير اليونانية.

يقال إن نشأة الأسطورة الخاصة بأفروديت الجميلة ترجع إلى الشرق, حيث توجد عشتار ربة الإخصاب والنماء التي يمكن أن نعدّها الأم الكبرى التي تولّدت منها أفروديت, ويذهب بعض الباحثين في الأساطير إلى أن أسطورة أفروديت انتقلت من الشرق إلى الغرب, وأنها ارتحلت إلى اليونان من قبرص, واستقرت في اليونان, مكتسبة ملامح خاصة بها. ويرتبط بعض هذه الملامح بتبرير النشأة, فقد قيل إن أفروديت الفاتنة تكوّنت من زبد البحر الذي كانت له علاقة بالإخصاب الذي ظلت أفروديت مرتبطة به في دلالة حاسمة من دلالاتها الرمزية. وقد سجّل هزيود أن أفروديت أنبتت العشب الأخضر على أرض جزيرة قبرص حين وطأت الجزيرة بقدميها الفاتنتين للمرة الأولى, وفي ذلك دليل ينطق بقوة تأثيرها على النماء, منذ أن بزغت في الأساطير اليونانية, متكوّنة من الزبد الذي يشير إلى فوران الرغبة.

وقد أشارت إلياذة هوميروس إلى أفروديت في النشيد الرابع عشر بوصفها الإلهة التي تقهر بالشهوة جميع الرجال وجميع الآلهة على السواء. وكانت الإشارة تأكيدًا للمكانة الخاصة التي احتلّتها أفروديت التي ظلّت النموذج الكامل للجمال الذي تغنّى به شعراء اليونان القديمة. ولذلك جعل هزيود من صفاتها دلالة الرشاقة, وسحر البراءة, ومكر المرأة المجرِّبة, مقرونًا بما يشيعه حضورها من الحبور والهناءة والهدوء والحب, وجعل هوميروس سلطانها يمتد على الجميع, حيث لا قدرة لكائن على مقاومة جمالها, ووضعها الشعراء الغنائيون في اليونان القديمة في مكانة لا تعلوها مكانة, خصوصا من حيث هي النموذج الأكمل للشباب والجمال والحب والشهوة, وجعلت منها الشاعرة سافو النموذج الأعلى الذي لا تدنو من جماله وسحره ربة أخرى, فلا معنى للحياة دون أفروديت التي تبثّ في الوجود براءة الحضور وفتنة الغواية ولذة الجسد ومتعة الروح, وعبير الحب الصافي الذي لا ينفصل عن معنى التولّد والإخصاب والنماء. ولذلك قيل إن أفروديت كان لديها القدرة على أن تهب غيرها الجمال والفتنة, وأن كل فتاة أو امرأة تضع الحزام المنسوب إليها تغدو موضع الحب ومناط الرغبة.

استجلاب المحبة

واختلفت الشعائر الوثنية المرتبطة بعبادة أفروديت في المعتقدات الوثنية القديمة عبر الأقطار المختلفة, فكانت في بعض هذه الأقطار قرينة البغاء المقدس كما كانت عشتار في الأساطير البابلية القديمة. وكان بالقرب من أحد معابدها عين جارية يشرب النساء من مائها ويغتسلن به التماسا للحمل أو اليسر في الولادة, وظلت النساء في أقطار أخرى يقدّمن القرابين للربة الجميلة استجلابا للمحبة والسعادة الزوجية والإنجاب. وجعلتها أقطار أخرى ربة الزواج, ولم تفارق معنى الإخصاب في غيرها من الأقطار, خصوصا في المدى الذي لا يفصل بين الرغبة الجنسية والإنجاب, أو بين ذلك كله, والخصب والنماء بوجه عام. ولذلك ظلت العلاقة وثيقة بين أفروديت وربّات النماء في العالم القديم, من مثل إيزيس في مصر, وعشتار في العراق, وبعد ذلك فينوس في روما القديمة, وقس على هاتيك الربات غيرهن من الرموز القديمة للجمال والحب والرغبة والإخصاب والنماء. لكن المؤكد أن أفروديت تتميز عن قريناتها بسحر خاص بها, وفتنة جعلت منها التكثيف الدال لمعاني الحب والجمال والرغبة وكل ما يصل الكائنات في علاقات حفظ النوع عند الإنسان وغيره من الكائنات وظواهر الطبيعة, ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن تجعل منها الأساطير اليونانية زوجة هيفايستوس الذي أنجبت منه ابنهما إيروس الذي أصبح إلها للحب والرغبة, مواصلا الطريق الذي بدأته الأم التي لم تكن مخلصة للأب الذي خانته مع غيره من الآلهة, فقد أحبت آريس إله الحرب المرتبط بالعنف, كما أحبت ديونيزيوس إله النشوة والعربدة والإبداع العفوي, وأحبّت هيرميس الذي اكتسب صفة رسول الآلهة الذي يصل ما بين المتباعدين, وكذلك بوزايدون إله البحر الذي يفور بالزبد الذي قيل إنها تولّدت منه. وعشقت الفتى الجميل أدونيس الذي كان أثيرا لديها, وأنجبت منه ولدا وابنة. ويبدو أن كثرة عشاقها, أو كثرة من عشقتهم بلا فارق كان جانبا من رمزيتها التي ظلت مقترنة بالرغبة اقترانها بالجمال, وهما العنصران اللذان تجسّدا في ابنها إيروس الذي ينسب إلى أكثر من أب عشقتهم أفروديت أو عشقوها, فكان امتدادها الأسطوري الذي تكثّفت فيه دلالات الحب الحسّي أو الرغبة بوجه عام.

الحضور الفاتن

وما أكثر ما كتبه الشعراء والأدباء عن هذه الإلهة الوثنية التي ألهمت النحّاتين والرسّامين لوحات وتماثيل لاتزال باقية. وقد كتب الباحثون عن أفروديت في اللغات الأدبية ضمن الحديث عن الأساطير اليونانية القديمة. وقد أفدت بوجه خاص مما كتبه عنها زمرمان بالإنجليزية, وما كتبه بيير جريمال مترجما إلى الإنجليزية, وذلك بالإضافة إلى ما نقله عن المراجع الإنجليزية أستاذي عبدالحميد يونس في المعجم الموسوعي الذي أصدره عن (الفولكلور) ونشرته مكتبة لبنان سنة 1982. وأي تمعن في المكتوب عن أفروديت يقود إلى اكتشاف ثلاث مجموعات دلالية, متداخلة بالطبع, لاتزال ملازمة للحضور الفاتن لهذه الإلهة في الأساطيراليونانية. المجموعة الأولى مقترنة بمعاني الإخصاب والنماء التي تتراوح ما بين صفات الحب ومثيرات الرغبة ومناط الشهوة. ولا تنفصل المجموعة الثانية عن معاني الغواية التي تجذب بها المرأة الساحرة كل من يقع في مدى فتنتها. فتلهيه عن نفسه, فينجذب إليها كما ينجب النحل إلى الأزهار التي يقتات برحيقها, وتتجسد في المجموعة الثالثة المعاني المرتبطة بالغذاء أو الطعام, وهي المعاني التي لا تفارق دلالات الإخصاب. فالتوالد يحتاج إلى طاقة, وتحقق الشهوة لا يكتمل مشهدها إلا بصورة المأدبة الزاخرة بأفانين الطعام والشراب التي يُقبل عليها الحبيبان وليس من المصادفة - مع هذا المعنى - أن ينبت العشب - وهو نوع من الطعام - تحت قدمي أفروديت عندما وطأت أرض قبرص للمرة الأولى. وأن تقترن تجلياتها بأشكال من الطعام أو الشراب المثير للشهوة, ابتداء من التجسد الحسّي لكل ما لذّ وطاب في تحولات سيرتها, وانتهاء بعلاقتها التي وصلت ما بينها وبين ديونسيوس إله النبيذ في الأساطير اليونانية, أو باخوس في الأساطير الرومانية, وكلاهما لا يفارق دلالة النشوة الحسية التي لا ينفصل فيها الشراب عن الطعام.

وطبيعي ألا يفارق هذا المعنى حضور ابنها إيروس, إذ تحكي الأساطير عن الكيفية التي وقع بها في غرام الجميلة سيكي, وكيف أنه عصى أمه التي كانت تحقد عليها بعد أن بهره جمالها الرائع, فأغواها, ودفع بها إلى قصر بهيج, حيث وجدت نفسها وحيدة, ولا أحد حولها سوى أصوات خدم غير منظورين, قادوها إلى حيث استحمّت وتعطّرت, ومن الحمام إلى غرفة الطعام, حيث جلست إلى مائدة عليها أشهى أطباق الطعام والشراب, فأكلت وشربت بما أهاج الرغبة في داخلها. وهامت في جو ساحر أسهمت فيه الموسيقى التي ظلت تسمعها, والعطور التي ظلت تشمّها, إلى أن اقتادها الخدم إلى غرفة نوم بديعة, عطرة, واستلقت على السرير في الغرفة التي غمرها الظلام تدريجيًا, وعمّها السكون الذي لم يقطعه سوى أنفاس الجميلة سيكي التي اشتق اسمها من النفس, وظلت كذلك إلى أن جاء إليها حبيبها إيروس بأجنحته التي غمرتها كما غمرها هو بحبه, خصوصا بعد أن تهيّأت له بالشراب والطعام الذي أثار فيها الرغبة.

وحكاية الابن إيروس لا تختلف عن حكايات الأم أفروديت, والأولى أن تقول إن حكايته تردّنا إلى حكايات أمه, خصوصا من منظور الدلالات التي تقرن الحضور الأفروديتي بلوازمه من الطعام والشراب المثير للرغبة, والذي لا يفارق مناط الرغبة في علاقاته الدلالية التي لا تنفصل عن معنى النماء, فلا نماء دون غذاء, ولا تتباعد عن معنى الإخصاب فلا طعام دون خصوبة في الأرض والكائنات, ولا تكتمل إلا بمعنى الأثر الذي تحدثه عناصر الطعام أو الشراب في الأمزجة, فتبعث بها في هذا الاتجاه أو ذاك, ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن تصل اللغات الأجنبية, ومنها الإنجليزية على سبيل المثال, بين كلمة أفروديت والصفة المشتقة منها, والدالة على نوع الطعام أو الشراب المثير للشهوة أو الرغبة بلا فارق, هكذا نجد أن الاسم الدال على الربة التي تكونت من زبد الماء - في اللغة اليونانية القديمة - واشتق اسمها منه, في تجاوب دلالة فوران الرغوة أو الزبد في الماء بفوران الرغبة في الجسد, هو الأصل في الصفة أفروديزياك التي تدل على ما يثير أو يزيد الرغبة الجنسية, والكلمة نفسها تستخدم بوصفها اسما للدلالة على أي عقار أو دواء أو شراب أو ما أشبه يثير الشهوة الجنسية أو يهيّجها.

هكذا, تأصّلت الدلالة المتولدة ما بين الحضور الجمالي للإلهة الساحرة الفاتنة الغاوية المغوية أفروديت, وما يقترن باكتمال فعلها من طعام وشراب أفروديزياكي. وقد تراكمت حول هذه الدلالة المتولدة تقاليد وعادات وأعراف في الآداب والثقافات الأوربية الرسمية منها والشعبية. ونتجت حكايات لا حصر لها عن العلاقة بين أنواع الطعام وحالات الجسد وأحوال الروح أو النفس على السواء. ولم يقتصر ذلك على الثقافات الأوربية, بل جاوزها إلى غيرها من الثقافات والحضارات, التي لاتزال تنظر إلى أنواع من الطعام في علاقة دالة بآثاره الفسيولوجية والنفسية على السواء, وليست ثقافتنا العربية غريبة عن هذا المجال, فقد احتفت هي الأخرى بالطعام احتفاءها بالجنس, وظلت تلحّ على العلاقة بين الاثنين في ميراثها الشعبي والرسمي, ووضعت كتبا في هذا المجال.

رمزيات الطعام

ويبدو أن فتنة هذا المجال المعرفي هي التي دفعت الكاتبة العالمية الشهيرة إيزابيل أليندي إلى الاقتراب منه والإسهام فيه, وذلك داخل سياق التقاليد الثقافية الخاصة برمزيات الطعام وعلاماته الدالة, وإيزابيل أليندى معروفة لكثير من القرّاء العرب بعد ترجمة العديد من أعمالها الروائية. وأصلها من تشيلي, وولدت في ليما سنة 1942. ونالت بعض الشهرة قبل أن تغادر وطنها منفيّة. عقب انقلاب بينوشيه الدموي على الحكم الديمقراطي لحكومة سلفادور أليندي. وقد عاشت تجربة المنفى الموحشة بكل مصاعبها وإحباطاتها وكوابيسها ووعودها, لكنها قاومت الإحباط بالكتابة, وتحدّت المنفى بالرواية التي واصلت كتابتها, إلى أن أصبحت من أهم كاتبات أمريكا اللاتينية وأكثرهن شهرة في أوربا والولايات المتحدة, وقد أصدرت العديد من الروايات التي ترجم أغلبها إلى اللغة العربية, خصوصا بعد أن ازدادت شهرة عندما قدمت هوليوود روايتها الرائعة (منزل الأرواح) في عمل سينمائي شهد إقبالا جماهيريا كبيرا. وقرّاء العربية يعرفون هذه الرواية مترجمة, كما يعرفون روايتي (ابنة الحظ) و(صورة عشيقة) اللتين ترجمهما عن الإسبانية صالح علماني, فضلا عن غيرهما من الأعمال التي ترجمها عن الإسبانية كذلك رفعت عطفة الذي قرأت ترجمته لكتاب إيزابيل أليندي (بلدي المخترع), وهو كتاب تأملات في الجغرافيا وفي الناس, أشبه برحلة عبر الذاكرة العامة بالوطن - شيلي - الذي تحول إلى تاريخ مخترع, والذاكرة الخاصة بالأسرة في الكتاب ذاكرة لا تكفّ عن الحنين إلى الأصل أو المنبع. ويعرف قراء أليندي إلحاحها على تاريخ سلالة من النساء الباسلات اللاتي يبدأن بإلزا سوميرز في (ابنة الحظ) ولا ينتهين بكلارا وروسا في (منزل الأرواح) وينطلقن من أوروا بطلة (صورة عتيقة) إلى المدى الذي يعثر على الجذر الإنساني من خلال الذكريات الخاصة والسرديات المحلية والمزج بين الواقعي والأسطوري, السحري والحقيقي, في تركيبة فنية جعلت إيزابيل أليندي واحدة من أشهر روائيات عالمنا المعاصر.

وقد قررت الكاتبة خوض مغامرة في الكتابة حول العلاقة بين الحب والطعام, أو بين تجليات أفروديت العاطفية ولوازمها التي لا تنفصل عن علامات الشراب والطعام التي تقود إليها بتأثيرها, أو تعود إليها في الأثر الذي تتركه في الأكل أو الشراب الذي يعرف معنى علاقة المجاورة التي تتحول إلى علاقة استبدال في ثنائية الحب. ويعني ذلك البحث عن تجليات مآدب الغرام التي تستعيد على نحو أو غيره ذكريات الوعي اللاجمعي لمآدب الآلهة العامرة بخمر ديونيسيوس اليونانية أو خمر باخوس الرومانية. ويحمل كتاب إيزابيل أليندي (الذي ترجمه رفعت عطفة عن دار ورد في دمشق, سوريا سنة 2000) عنوان (أفروديت) حكايات ووصفات وأفروديتيات أخرى, وقد اشترك مع إيزابيل في تأليفه أمها بانتشيا ليونا التي كتبت الوصفات التي يحتويها الكتاب, وصديقها روبرت شكتر الذي اختار الرسوم التي يكتمل بها الكتاب.

ولم يفقد التأليف الجماعي نسبة الكتاب إلى إيزابيل أليندي التي لعبت دور المايسترو في التأليف من ناحية, وقامت بالدور الرئيسي في التركيب, أو التوليف, هادفة من ذلك إلى أن تتحدث عن الإيروسية في أكثر من مجلى من مجاليها, باحثة - في سبيل ذلك - عن زواياها المختلفة في التاريخ الذي يصل ما بين الثقافات المصرية القديمة واليونانية والرومانية, عطفا على الهندية واليابانية والثقافة العربية الإسلامية. وقد قرأت أليندي (ألف ليلة وليلة) واستخدمت بعض حكاياتها ورموزها وكتاباتها في كتابها, كما قرأت كتاب (الروض العاطر) الذي كتبه النفزاوي, ولم تدّخر وسعها في الاطّلاع على الكتابات العربية (المترجمة) الخاصة بالموضوع, الأمر الذي فعلته في ثقافات عدة, أكسبت كتابها طابعه الإنساني الذي يبرز الملامح المشتركة في المشاعر بين الشعوب والأجناس.

وكانت النتيجة كتابا موسوعيًا ممتعا, يدخل باب النقد الثقافي في رحابته, كما يدخل باب التحليل السميوطيقي لمعاني المتعة في علاقتها بمآدب الحب, وذلك على نحو لا يخلو من الصراحة والثقة بالنفس, ويجمع ما بين الفكاهة والسخرية, كما يجمع بين الفرح بالحياة وعشقها في توهجها وفورانها, منتقلا من الخاص إلى العام بما ينطق المسكوت عنه في الثقافات المحافظة أو الجامدة, ويظهر أول ذلك في الإهداء الدال في مفتتح الكتاب, وفي تتابع النصوص التي تفتتح بها أليندي الفصول من آداب العالم وأساطيره, أو تضمنّها الفصول تأكيدا وإبرازا للدلالات المقصودة. وأضيف إلى ذلك تحليلها المرهف والجريء والنزق لأطباق الطعام المشبعة بالدلالات الإيروسية.

اقتحام المناطق المراوغة

وتوضّح إيزابيل أليندي الهدف من كتابها بقولها إنها لا تستطيع أن تفصل الإيروسية عن الطعام, كما لا تجد سببا لعمل ذلك, ونحن نوافقها على ما تذهب إليه, فالتقاليد الثقافية لكثير من حضارات أقطار العالم مضت في الاتجاه نفسه, ولذلك فمن المنطقي أن تبدأ أليندي من حيث انتهى غيرها. ونجد سببا قويا لاقتحام المناطق المراوغة من الدلالات الإيروسية في الطعام, والاستمرار في التمتّع بما تسمح به قواها وحسن مزاجها. ولذلك انبثق كتابها الذي تحوّل إلى رحلة دون خارطة عبر مناطق الذاكرة الحسيّة, حيث تنداح الحدود بين الحب والشهيّة إلى الدرجة التي تدنو بالطرفين إلى حال من الاتحاد.

وتمضي أليندي قائلة إنه ليس من الضروري تدبير مجموعة إضافية من وصفات المطبخ أو التعليمات الإيروسية. ففي كل عام ينشر الآلاف منها, فالأهم من ذلك هو تأكيد متعة البحث في الأشياء الأفروديتية (الأفروديزباكية) وفي علاماتها, والإضافة إلى نتائج البحث عن عمل المخيّلة بما يصل بين العلامات في علاقات إبداعية جديدة تفتح المغلق من أبواب المتعة الجمالية, وفي سبيل تحقيق ذلك, تمتح أليندي من التراثات الشعبية, حيث وجدت على مكتبها كتابا عن السحر وشراب الحب, يقبع إلى جانب كتب أخرى كثيرة مصدرها العصور الوسيطة, وأخرى سابقة عليها. وبعض وصفات هذه الكتب لاتزال تمارس إلى اليوم في أمريكا اللاتينية, مثل غرز الإبر في ضفدع حي مسكين, ثم دفنه مع تمتمة تعاويذ ليلة الجمعة, فيوم الجمعة يفترض أنه يوم المرأة, والأيام الستة المتبقية هي أيام الرجل.

ولكن الإيروسية ليست متعلقة بأصناف الطعام والشراب والعطور التي تتحول إلى مآدب للحب, فهناك الحكايات التي تؤدي دورها بوصفها مشهيات للعاطفة ومثيرات للرغبة. وتؤكد أليندي دينها في ذلك لشهرزاد - بطلة (ألف ليلة وليلة) - راوية بلاد العرب العجيبة التي سحرت بلسانها الذهبي سلطانا جائرا على امتداد ألف ليلة وليلة. وتعيد أليندي حكي الحكاية الإطار لألف ليلة, بادئة من الملك الذي عاد من ميدان المعركة دون إعلام مسبق, وهو خطأ لا يغتفر تسبّب فيما لا يحصى من المآسي, فوجد إحدى زوجاته وأحبهن إلى نفسه تتسلّى سعيدة مع عبيدها, فأمر بقطع رأسها, وقرر بمنطق ذكوري واضح أن يأخذ عذراء كل ليلة ويعدمها عند الفجر حتى لا تملك الوقت للخيانة. وكانت شهرزاد واحدة من آخر الفتيات الجاهزات في مملكة الكوابيس هذه, لم تكن جميلة بقدر ما كانت عارفة ومالكة لموهبة الكلام السهل والخيال الخصب, وفي الليلة الأولى, وبعد اغتصاب الملك لها دون زيادة في التروّي, رتّبت أوشحتها وراحت تحكي قصة طويلة مذهلة استمرت عددا من الساعات, وقطعت الحكي مع ظهور الشمس, وظلت كذلك تراوغ الملك بالحكايات التي أنقذت عنق المرأة الذكية.

الجنس والمعرفة

وقد تحولت شهرزدا إلى رمز أفروديتي في حضورها المعنوي الذي يخلط الجنس بالمعرفة, ويرجع إلى اكتشاف المجهول من مغارات الروح وأغوار الجسد وآفاق المعرفة. واقترن هذا الرمز الأفروديتي بالحال الذي يلتقي فيه العاشقان, ويؤخران اللقاء الحميم إلى ما بعد العشاء, ويأتي العشاء اللذيذ الذي يغوى ويسرى دفء الخمر ودغدغة البهارات في العروق, ويتورّد الجلد من المداعبات, ويتهادى حكاية أو قصيدة كما في أكثر تقاليد الشرق عذوبة, فيما تقول أليندي, مؤكدة السحر الأفروديتي للحكايات, وهي تسهب في ذلك بقولها إن الحكاية قد تنعش العاطفة بعد العناق الأول, حين يستعاد النفس وشيء من الفطنة, ويرتاح الحبيبان راضيين, وقد تترك الحكاية الحبيبين في حال من الحبور الذي تعجز عن وصفه الكلمات. وقد تفتح أمامهما من المغلقات ما يفتح لهما كنوز المشاعر والأحاسيس, وأخيرًا, تتحول الحكايات - في كل الأحوال - إلى كنايات وتمثيلات, تنطق المسكوت عنه عن لغة الرغبة التي تبين عن نفسها باللمح والإشارة والرمز.

ومن الدفاع عن الإيروسية, إلى مباهج التنويع في طعوم الأكل, إلى صفات المائدة الطيبة, إلى تعاويذ العطور, إلى أنواع الأعشاب والتوابل, إلى البحريات, ومن الطيور الكبيرة إلى الطيور الصغيرة, ومن الموسيقى إلى البخور, مرورًا بأنواع الحساء, ومن الخبز إلى الأجبان, ولغة الأزهار التي لا تنفصل عن الخضراوات, يمضي كتاب إيزابيل أليندي ليقدم تجربة فريدة في الكتابة التي تمتزج بالصور, وتنتقل ما بين أشكال السرديات, وأنواع الحكايات الموروثة, والأوصاف التاريخية لأماكن المتعة المحاطة بالغموض, مضفورة باللوحات التي تضفي على المكتوب معنى إكماليا, يتجاوب مع الوصفات التي يختتم بها الكتاب, وتبدو كتابة إيزابيل في هذه التجربة الفريدة كما لو كانت ممارسة للمتعة بالمعنى الذي أشار إليه رولان بارت, عندما تحدث عن (كتابة اللذة) و(كتابة المتعة) على السواء, وقرن كتابة المتعة بدرجة النشوة الشاملة التي تغمر الكاتب أو الكاتبة أثناء فعل الكتابة وبواسطة فعل الكتابة, وذلك هو ما يحدث فعلا في كتاب أليندي حيث يتجاوب الموضوع مع فعل الكتابة, أو تتجاوب الوسيلة مع الغاية, أو تحلّ كل منهما محل غيرها, فتغدو الغاية وسيلة, والوسيلة غاية, وتتجاوب تجليات متعة الكتابة التي تفتح أبواب الذاكرة على مباهجها الخاصة, كما تفتح عناقيد الدلالات على معانيها اللانهائية التي تذيب الجمود وتضفي على الروح التي تمسك بالقلم متعة تشمل الجسد كله.

عالم الحسّ وعالم الروح

ولذلك لا تتحول الكتابة عن أصناف الطعام في كتاب أليندي إلى سرد تاريخي بارد, أو جاف, أو محايد, وإنما إلى سرد يمتزج فيه التاريخي بالشخصي, والعام بالخاص, وتتجاوب ثقافات العالم القديم والحديث تماما كما تتجاوب الروائح والأصوات في الحال التي تصنعها مآدب الآلهة الأفروديتية, فتتوهج الكتابة بمشاعر من يكتب, ويتوهج من يكتب بالمشاعر التي تتفجر في فعل الكتابة, وتتضوّع العطور كالأنغام, أو الأنغام كالعطور في نوع من التجاوبات التي تحدّث عنها الشعراء الرمزيون عندما أرادوا الدلالة على انمحاء الحدود بين عوالم الحس وعوالم الروح, وتكسّر الحواجز الفاصلة بين كل ما يمسّ القلب أو الروح أو يثير الجسد. والنتيجة أن كتاب إيزابيل أليندي لا يعد مجرد كتاب في الأنثروبولوجيا أو بحث في الأساطير. وإنما يظل عملا إبداعيا يلعب التناص فيه الدور التكويني الأول, خصوصا حين تمزج الكاتبة بين موروثها الشخصي والجمعي والموروث الإنساني, وتدمج النصوص التي تنقلها في نسيج الكتابة الذي تستمتع بغزله ونسجه, مازجة ذلك ببهارات المشاعر وتوابلها. كما لو كانت تريد من القارئ أن يشاركها متعة الكتابة التي لا تكتمل إلا بمشاركة آخر, تماما مثل الموائد الأفروديتية التي لا معنى لها إذا اقتصرت على فرد واحد دون غيره, متوحّد أو وحيد, فلابد من المشاركة في هذه الموائد التي هي أصلا مشاركة وفاعل وتجاوب وتواصل ووصال.

 

جابر عصفور