رمضان.. وهي.. والعبد لله

أعرف لماذا إذا عبق أريج شهر رمضان الكريم. تحسست صفحة خدي الأيمن, مستعيدًا ذكرى اليوم الأول من الشهر الفضيل, الذي نلت فيه صفعة شديدة الوطأة, من كف سيدي الوالد, إثر ضبطه لي في جلسة حميمة مع (حبيبتي) لا تليق بحرمة الشهر الكريم, فضلاً عن أنها لا تليق بصبي مسلم ينتمي إلى أسرة نجدية مرقابية(1) محافظة.

كان ذلك في مطلع الخمسينيات, وكنت صبيًا في مرحلة (سنة أولى مراهقة).

أما هي التي ضبطت بمعيتها آنذاك فإنها - بالفم المليان - حبيبتي الأثيرة إلى قلبي, التي ترافقني - كما ظلي - في حلي وترحالي!

والحق أن العقاب المبرّح والتقريع الشديد اللذين نلتهما من والدي لم يردعاني عن لقاء حبيبة قلبي إبان شهررمضان.

غاية ما هنالك هو تغييري لمواعيد لقائي الحميم بحبيبة القلب. فقد ارتأينا أن يكون لقاؤنا ليلاً بعيدًا عن عيون الرقباء والحساد والعواذل والذي منهم!

  • والذي حرضني على سرية اللقاء مع الحبيبة هو معرفتي من الذين يكبرونني سنًا بأن علاقتي بها (مكروهة) وغير مرغوب فيها! لكني - في قرارة نفسي - كنت أجد الحياة من دونها تبدو لي غير ممكنة.. إن لم أقل مستحيلة! حسبك أن تعلم أني أفكر فيها طوال نهار الصيام, ولولا الملامة والفضيحة وخشية العقاب المبرح لكان لقائي بها هو أول فعل أمارسه لحظة الإفطار.. ومن ثم يعقب ذلك تناول التمر وحسوة الماء!

ولست مغاليًا فيما ذهبت إليه آنفًا, فهي معي تسكنني ولا تفارقني إلا في اللحظة التي يتسلل فيها سلطان النعاس إلى عينيّ. ولعل هذا التعبير ليس دقيقًا تمامًا, لأن حضرتها تقتحم علي منامي وأحلامي طوال فترة رقادي!

ولا تهدأ وتسكن وتريم إلا حين أفزّ من نومتي في أنصاف الليالي ملهوفًا للّقاء بها!

وهكذا تجدني أفيق استجابة لندائها الشبقي الملح, فأمكث بمعيتها ربع ساعة لتسمح لي بعدها بالعودة ثانية إلى رقادي!

إن علاقتي بالحبيبة في فترة الصبا كانت مشوبة بالعقبات والمشاكل والعقاب المبرح, لاعتقاد والديّ بأنها علاقة غير سوية, ضارة بي كصبي مراهق يدرج في ميعة الصبا, ويفتقر إلى المعارف والخبرات اللتين تمكنانه من الاختيار الصحي الصحيح. ومن هنا, كنت أصوم رمضان - آنذاك - وأنا مصفد بأغلال الشهوة! والعياذ بالله!!

ينسحب عليّ قول الشاعر (أبو الفتح البستي):

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسران?!
أَقْبلْ على الروح واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان!


صحيح أني لا أقترب من حبيبتي إلا بعد الإفطار, لكن قلبي مشبوب بها طيلة نهار الصيام! أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يغفر لي جهالتي إبان صباي.

والبلية أن هذه الحبيبة المستحوذة عليّ في صباي, كما أشرت بالتفاصيل المملة, استمرت كذلك وتواصلت معي في شبابي وكهولتي وشيخوختي ولله الحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه.

وأحسب أنه من فضول القول, الإشارة إلى أن الصائمين الأحرار من أسر شهواتهم, يشعرون بنشوة وجدانية روحية لا يتذوقها أمثال وأشباه العبد لله والعياذ بالله!

  • ومنعًا لتكرار مفردة (حبيبتي) وتواترها كثيرًا بين السطور, بصيغة قد تكون مملة وممجوجة, سأنعتها في السطور التالية باسم (سيسي), وهو اسم منحوت من اسمها الحقيقي الموثق بشهادة الميلاد, لكني اخترت أن يكون مموسقًا معجونًا بنبرة غنج ودلال لكونها تستأهل ذلك بامتياز.

لقد ذكرت في الخواطر السالفة, بداية نشوء علاقتي بـ (سيسي) إبان شهر رمضان في فترة الصبا. وآنذاك, كنت أظن - آثما إن شئت الحق - أن علاقتي بها مكروهة وغيرمرغوبة بسبب صغر سني فقط لا غير! لاسيما أني كنت أشاهد الكبار على علاقة حميمة بها دون أن يوجه إليهم أحد أي تأنيب وتقريع وما إلى ذلك!

والأنكى من ذلك كله, الاعتقاد الشائع بين الشباب, بأن حضورها في حياتهم اليومية يعد من مظاهر الرجولة, كما تروج لها لغة الإعلانات التسويقية في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية على حد سواء!

من هنا ما إن تزوجت على سنة الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أشهرت علاقتي بها جهارًا نهارًا.

وصرت أظهر معها على رؤوس الأشهاد.

فأنا الآن بعل (من دون نقطة على حرف العين), وزوج محترم, وموظف معتبر مربوط على الدرجة الرابعة, وفي سبيله إلى أن يكون أبًا يشار إليه بالبنان (ولا تسألني عن البنان هذه لأني لا أحب الموز!).

  • لكن علاقة العبدالله العلنية بـ (سيسي) كانت بمنأى عن عيون الوالدين وكبار أفراد الأسرة, امتثالا للعادات والتقاليد والتربية التي كانت تفرض مثل هذا السلوك!

ويجد ربنا الإشارة هنا إلى أن الوالدين ومن لف لفهما من الأقارب, يعرفون بعلاقتي بها, لكنهم يتعامون عنها, ويتجاهلونها, مادامت تتم بعيدًا عن مرآهم! ورب سائل: كيف يعرفون بالعلاقة مادامت سرية? الإجابة بسيطة وتكمن في شمهم لعطر الحبيبة الذي يتضوع من جسمي وملابسي! وهذا (العطر) تسبب في حدوث فتنة بيني وبين بعلتي المصون.

ذلك أن زوجي تكره (ضرتها) بشدة وتمقتها بلا حدود. وقد سعت بكل ما تملك من كيد النساء وحيلهن إلى تحريضي على طلاق (سيسي) طلاقا بائنًا لا رجعة فيه, لكن كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع. غاية ماحصلت عليه أم البنين هو اتفاق (جنتلمان) يقضي بأن (أقابل) الحبيبة في مكان بعيد عنها, ولا بأس عليها لو شمت رائحة ضرتها تفوح من ملابسي ومني.

ورب سائل, لم هذا الغموض والسرية بشأن الحبيبة, وعدم كشف هويتها لأخينا القارئ?!

فأقول إن الكاتب هنا (يتأسى) بالقاصة الروائية البريطانية (أجاثا كريستي) التي اعتادت أن تحتفظ بهوية المجرم في رواياتها البوليسية إلى السطر الأخير! ولأن (سيسي) إياها مجرمة في حق العبد لله, فقد اخترت لها هذا المنحى البوليسي علّنا ننافس (سيناريوهات) الأفلام الهندية المترعة بالصدف (الميلودرامية) والمفاجآت (التراجيكوميدية) وغيرها من التوابل والبهارات والمؤثرات المرغوبة!

والحق أن العبد لله - رغم ما ذكرته آنفا - يدرك أن جل القراء يعرفون هوية الحبيبة المعنية منذ بداية هذه الخواطر, ومع ذلك لا بأس علي من التأسي بالخوجاية (أجاثا كريستي) مادام يغازل شعار (الجمهور عايز كده) الطيب الذكر والذائع الصيت!

  • ووفق مقولة العالم الروسي (بافلوف) بشأن (معامل الارتباط الشرطي) الذي استنبطه إبان تجاربه المعملية على فئران التجارب, كان حريًا بالعبد لله إثر الكف المبرح الذي ناله في رمضان, أن يحرضه على الكف عن علاقته بـ (سيسي), لكن يبدو أن فأر (بافلوف) أشد نباهة وفطنة وعقلا من صاحبنا العبد لله!!

وأحسب الآن أنه آن الأوان للإفصاح عن اسم الحبيبة التي ابتليت بحبها سنين عددًا. والإفصاح عن اسمها بات ضروريًا حتى لا يروح القارئ بعيدًا ويشطح في الخيال الملتبس المعجون بالشك والريبة وغيرهما. لذا أقول بأنها (السيجارة) ما غيرها!

وأحسب أني لست مغاليًا حين وسمتها بالحبيبة... لأنها كذلك (ونص) بالإذن من (نانسي عجرم)! حسبك تدليلاً وبرهانًا على ما زعمته آنفًا: ملاحظة العلاقة الغرامية المشبوبة بين معشر المدخنين وحضرة السيجارة, وكأنها زواج كاثوليكي لا فكاك منه ولا طلاق فيه البتّة!

ولأني لا أحب التعميم في هذا السياق (ولا غيره) فسوف أقصر حديثي على تجربتي فحسب. ذلك أن إدمان السيجارة: تحكمه الفروق الفردية بين عباد الله المدمنين. ومادام الأمر كذلك, خذ عندك:

كل ليلة أفزُّ من سريري (لأغرّد) بموال كحة و(موشح) سعال و(نوبة) عطاس شديدة الوطأة, فأهرع إلى الحنفية (حاشاكم). ولن يذكر الكاتب ما يحدث آنذاك, لأنه مؤدب ومحافظ على الذوق العام, ويحترم رهافة حسّ القارئ ومشاعره! حسبي الإشارة إلى أن أنفي - ومناخيري بالتحديد - تصبح مضاهية لـ (الإكزوز) الذي يخرج عادم وقود السيارة - والعياذ بالله!

ولأني ديمقراطي عريق: صرت أدخّن وسط العيال وأمّهم, وكأن لسان حالي يقول: هل يُعقل بكم ترك الوالد يصاب بالسرطان (وغيره) لوحده دون شراكة وتناوب ووراثة?!

وهذه (الديمقراطية) مردها الجهل المكعب بمضار وخطورة ما يسمى بـ (التدخين السلبي) فكنت أظن (آثما مرة ثانية) أن مضار التدخين ومغبّاته محصورة في المدخّن نفسه فقط لاغير. وبات جلّ الناس في هذه الأيام: يعرفون أن جليس المدخن, ومجاوره, ورفيقه في أي مكان بالمنزل والمكتب والنادي والديوانية ودار السينما والطيارة وغيرها, يعد من عشيرة (بني نيكوتين), وتنسحب عليه كل مضار وتبعات التدخين المرضية! ومن هنا: تجد أن كل الدول في العالم الأول تمنع التدخين في كل الأماكن العامة, وبات المدخن - كما المنبوذ - عليه أن يختار مكانًا قصيًا يمارس فيه فعلته بعيدًا عن الأمكنة التي يوجد فيها عامة الناس!

والإجراء عينه قامت به بعض الدول العربية والإسلامية جرّاء تنامي الوعي ببليّة تدخين السجاير ومضاره المميتة.

  • وعلى الرغم من حملات التوعية المكرّسة لإبراز مضار تدخين السجاير الخطيرة, فإن المدخنين مستمرون في مجّ السيجارة - ليل نهار - غير عابئين بكل النصائح والمواعظ والتحذيرات المتمحورة حول الآثار المرضية للتدخين!

وثمة نغمة شائعة يعزفها ويجترّها جلّ المدخنين, والتي تتجلى بقولهم بأنهم غير قادرين على الفكاك من أسر السيجارة, وأنهم يفتقرون إلى الإرادة المحرضة على الكف عن تدخينها.

والحق أن العبدلله يجد العجب العجاب في هذا الموقف الضعيف, ذلك أنه - ولله الحمد - يتمتع بإرادة قوية حديدية, إلى درجة أنه يطلق التدخين في السنة ثلاث مرات!!

بمعنى أن إرادتي الحديدية تواترت واستمرت أزيَد من ثلاثين عامًا! وهذا الفعل المتكرر يؤكد إمكان الانقطاع عن التدخين, وفي الوقت ذاته, يدلل على شدة حضور السيجارة في حياة الإنسان رغم أنف إرادته المذكورة آنفًا, الأمر الذي يفضي بنا إلى القول: بأن تدخين السيجارة ينطوي على فعل إدمان يصفد الفاعل بأغلال الرغبة والشهوة والتعوّد. من هنا: صار هذا الإدمان محل رعاية وعناية وعلاج, للراغبين في التخلص من أسره, بواسطة مساعدة المختصين في عيادات علاج المدمنين.

والبليّة أن المدخن المدمن لا يعزم على طلاق السيجارة طلاقًا بائنًا (بالثلاثة) إلا حين (تقع الفاس في الراس) كما يقول المثل الشعبي, أي حين يدحرج الطبيب على مسامعه الإنذار الأخير الخطير القاضي بضرورة قطع التدخين والامتناع عنه في التو والحين إلى الأبد, لأن قطع غيار الجسم أنهى (النيكوتين والقطران) وغيرهما عمرها الافتراضي, فضلاً عن أن صحته العامة باتت معرّضة للخطر. وعلى الرغم من (ثقل دم) هذه الموعظة الطبيّة, فإن صاحبنا يذعن لها على مضض من باب (مكره أخاك لا بطل) والبعض لا يذعن مطلقًا مختارًا الموت بالسرعة الإملائية, أو العاجلة, حسب حظه وأجله.

ولم نذهب بعيدًا ونتحدث في العموميات...فالعبدلله - نفسه - كفّ عن التدخين نهائيًا إثر إصابته بداء السكري.

وكان قبل ذلك (مدخنة) يمجّ السيجارة تلو الأخرى, بحيث إنه يشعل السيجارة الأولى, والتي تعقبها يشعلها من التي تسبقها, وهكذا دواليك (وهواليك) حتى موعد النوم!!

وأحسب - بل أجزم - أن كل المدخنين لا يشعرون بمتعة رمضان الروحية أبدًا. وحده الصائم الحر, غير المكبّل بأي عبودية مزاجية, هو الذي يعيش رمضان المبهج, الذي يخبره ذلك النفر الذي يكابد مجابهة النفس, وما تنطوي عليها من غرائز وشهوات, (بالصبر واليقين) على حدّ تعبير الدكتور يوسف القرضاوي في مؤلفه (شهر رمضان... وفقه الصيام والقيام) بالصفحة التاسعة.

ولعل أبناء جيلي المخضرم: يتذكرون كيف كان آباؤهم وأجدادهم يستقبلون شهر رمضان وغرّته بدموع الفرح, ومشاعر الغبطة, وألسنتهم وجوارحهم, تغرّد بالأدعية والأذكار, منكبّين على القرآن الكريم: يتلونه ويتدبّرونه ساعة الفجر والعصر..., وإذا قارب الشهر على الرحيل والانتهاء ودعوة ثانية بالدموع الناضحة بالشجن والأسى.

وبصراحة تامة, لم أشعر ببهجة رمضان الروحية إلا حين تخلّصت من عبودية التدخين والقهوة والشاي! فضلاً عن عبودية البطنة وافتراس كل ما على المائدة من اللذائذ والطيّبات في وجبة واحدة, الأمر الذي يحيل الإنسان إلى واحد مُخدّر يتثاءب أثناء صلاتيّ العشاء والتراويح..هذا إن لم يسيطر عليه سلطان النوم فيرقد في مكانه لا يريم, كما المغمى عليه!

ومن تجربتي في الفكاك من أسر التدخين: أحسب أن شهر رمضان هو أفضل الأوقات للقيام بمهمة الطلاق البائن من التدخين. وقد كان العرب يقولون بأن (النصيحة بجمل) لكنها هنا لوجه الله سبحانه وتعالى حسبنا الدعاء...بس!!
-------------

(1) مرقابية: نسبة إلى المرقاب أحد أحياء الكويت في الخمسينيات.