النخل سيد الشجر سعدي الحديثي

النخل سيد الشجر

يسعد الكثيرون من الصائمين في العالم الإسلامي بأن يبتدئوا إفطارهم بشق تمرة, لكن هذا يبدو بعيد المنال في كثير من الأصقاع, أمّا في العالم العربي فالتمر وفير, إذ ينتج النخل العربي 76% من تمور العالم. وهذا حديث عن النخل وثماره المباركة التي يجمع كثير من علماء التغذية على أنها: غذاء ودواء.

(النخلة أرض عربية) عبارة قالها الشاعر مظفر النواب متنفسًا فيها الصعداء حين بدت له غابات النخيل مع أول خيوط الصبح بعد مفازة مضنية في ليل حالك الظلام محفوف بالمخاطر, فإلى أي مدى يمكن اعتبار النخل أرضاً عربية?

إذا رجعنا إلى الأصول, نجد أنه من الصعب تحديد الموطن الأول للنخيل في العالم. يمكن القول باطمئنان إن وادي الرافدين ومنطقة الخليج ومصر هي من البيئات الأولى لوجود هذه الشجرة المباركة, وما التحديد الذي ادّعاه ابن وحشية من أن جزيرة حرقان هي الموطن الأول للنخيل إلا تجاوز على العلم, لأنه لم يورد لنا سندًا واحدًا يجعل هذه الجزيرة بالذات وليس غيرها هي الموطن الأول, فقد تكون منطقة المنامة أو شرقي السعودية أو منطقة من مناطق الإمارات أو عمان, دع عنك بلاد الرافدين أو مصر.

وحين يدّعي العالم الإيطالي أدارادو بكاري أن منطقة الخليج هي الموطن الأصلي للنخيل, فإنه يبرر ذلك بأن (هناك جنسًا من النخل لا ينتعش نموّه إلا في المناطق شبه الاستوائية حيث تندر الأمطار وتتطلب جذوره وفرة الرطوبة, ويقاوم الملوحة لحد بعيد), وجميع هذه الصفات تتوافر في منطقة الخليج والمناطق المجاورة لها. أما العالم الجيولوجي إدوارد بري, فقد عثر على نماذج مستحفرة من التمر في شرقي ولاية تكساس الأمريكية, فحاول البعض التشبث بهذه الاكتشافات واعتبارها دليلاً قاطعًا على أن أمريكا هي الموطن الأصلي للنخيل.

ورغم اختلاف وجهات نظر المؤرخين حول موطنها الأصلي, فالثابت أن بابل التي يمتد تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد, قد عرفت هذه الشجرة وثمارها من خلال ما خلّفته من آثار. ولم يكن وادي الرافدين الموطن الوحيد لوجود آثار النخيل, فإن مصر القديمة هي الأخرى كانت موطنًا لزراعة النخيل, حيث عُثر على نخلة صغيرة كاملة في إحدى مقابر سقارة حول مومياء من عصر الأسرة الأولى (حوالي 3200ق.م).

وتضمنت شريعة حمورابي عددًا من المواد التي تؤكد على حماية زراعة النخيل, كما تضمنت القصيدة البابلية المعروفة 365 فائدة لهذه الشجرة وثمرها.

وقد أدخل البابليون والآشوريون التمر في بعض الوصفات الطبية كعلاج الدمامل والقرح, ووصف ماء التمر مع ماء الورد للمعدة وعسر الهضم مع الحليب, واستعمل مسحوق نوى التمر مع شحم حيواني للرضوض والأورام, وكذلك مسحوق النوى وماء الورد لمداواة العيون.

ومنافع التمر الكثيرة أعطته أهمية كبيرة وجعلته في موضع التقديس, لقد كانت معابد وقصور السومريين والبابليين مزيّنة بالنخل أو السعف أو بكليهما, وكان للبابليين إله للنخيل على هيئة امرأة يخرج من كتفيها سعف النخيل كأجنحة الملائكة. وتلقيح النخيل من الطقوس الدينية عند السومريين والبابليين.

شجرة مباركة في السماء والأرض

لقد أعطت الأديان السماوية قيمة كبيرة للنخيل والتمر, فاليهود يعتبرون التمر من الثمار السبعة المقدسة, والمسيحيون يعتبرون فسيلة النخل رمزًا للمحبة والسلام. أما في الإسلام, فالنخلة شجرة مباركة أعزّها الله ورسوله الأمين إذ جاء ذكرها في كتاب الله العزيز عشرين مرة. ورد ذكرها مرتين في كل من السور التالية: سورة الأنعام ومن النخل من طلعها قنوان دانية و وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله , وفي سورة مريم فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا , وسورة الرحمن فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام و فيهما فاكهة ونخل ورمان وسورة النحل ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب و ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنا . كما ذكرت مرة واحدة في السور التالية: طه ولأصلبنكم في جذوع النخل , والشعراء وزروع ونخل طلعها هضيم , وفي ق والنخل باسقات لها طلع نضيد , والقمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر , والحاقة فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية , وعبس فأنبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبًا* وزيتونًا ونخلاً , والبقرة أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب , والرعد ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماءٍ واحد , والإسراء أو تكون لك جنة من نخيل وعنب , ويس وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب .

عروس الغزل

وكان اهتمام الإسلام بالزراعة عموما وبالنخل خاصة, قد تمثل بالشروط الواضحة التي أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بيع وشراء التمر, وفي آداب أكله كذلك. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سار الخلفاء والحكام في البلاد الإسلامية على النهج نفسه حتى صارت شجرة النخل سيدة الشجر كما وصفها أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني البصري المتوفى سنة 248 هجرية 862 ميلادية. وفي وصف جامع للتمر, قال ابن قيم الجوزية إنه: فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى.

وقد صاغ أمير الشعراء أحمد شوقي هذه المعاني في بعض من أبياته الشعرية:

أهذا هو النخل ملك الرياض أمير الحقول عروس العزب
طعام الفقير وحلوى الغني وزاد المسافر والمغترب
فيا نخلة الرمل لم تبخلي ولا قصرت نخلات الترب


لم يكن أحمد شوقي أول الشعراء الذين تغزلوا بالنخلة وأحسنوا في وصفها شجرة وثمرة ففي جمالها قال أبو نواس:

كرائم في السماء زهين طولاً ففات ثمارها أيدي الجناة
قلائص في الرءوس لها ضروع تدر على أكف الحالبات


ووصف أحد الشعراء النخلة قائلاً:

والنخل حول النهر مثل عرائس نصت غدائرها على غدرانِ
والطلع من طرب يشق ثيابه متنشرًا كتنشر الجذلانِ


وقال السرى الرفاء المتوفى سنة 366 هجرية:

فالنخل من باسق فيه وباسقةٍ يضاحك الطلعُ في قنوانه الرطبا
أضحت شماريخه في النحر مُطْلعة إما ثريا وإما مِعصمًا خَضِبا


وفي وصف البلح الأحمر وهو في مرحلة البُسر قال ابن وكيع:

انظر إلى البُسرِ قد تبدى ولونه قد حكى الشقيقا
كأنما خوصه عليهِ زبرجد مثمر عقيقا


أما المعري فقد شرب من ماء دجلة وزار أشرف الشجر:

شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا


ومما قالت الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي هذه الأبيات:

تباركت يا نخلة الشاطئين ويا آية الأعصر الباقية
نَهلتِ الخلود من الرافدين فبوركت مسقيّة ساقية
أظلي أيا نخلة الشاطئين فؤادي بأفيائك الحانية


لسنا هنا في معرض إيراد كل ما قيل من شعر بحق النخيل ولكن الأبيات التي قالها الأمير الأندلسي عبدالرحمن الداخل جديرة بالذكر لأنها تمس آلاف القلوب العربية التي ذاقت طعم الاغتراب:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي بالتغرب والنوى وطول اغترابي عن بَنِيَ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي


وتدور حول النخيل حكايات وأساطير إذ يروى أن (هناك قبيلة عربية اسمها (جهينة) عاشت قبل ظهور الإسلام, عملت من التمر هكيلاً اتخذته إلهًا لها وعبدته. وقد ورد أنه حين حل القحط في ديار جهينة وانتشرت بينهم المجاعة, اضطرت هذه القبيلة أن تجعل من إلهها طعامًا فقال الشاعر فيهم:

أكَلَتْ جُهينةُ ربّها زمن التقحم والمجاعة

ولأن النخلة جزء من حياة الناس فقد دخل اسمها في مختلف المواقف الإنسانية. ولعل مواعيد عرقوب من الأمثال الطريفة التي بُنيَتْ حول النخلة وتمرها: (كان عرقوب رجلاً من العمالقة, فأتاه أخ له يسأله شيئًا يعطيه من ثمار نخلِهِ. فقال له عرقوب: إذا طلع نخلي.فلما طلع أتاه فقال له: إذا أبلَح.فلما أبلح أتاه. فقال: إذا زها. فلما زها أتاه. فقال: إذا أرطب. فلما أرطب أتاه. فقال: إذا أتمر, فلما أتمر جَزَّه ليلاً ولم يعطه شيئًا. فضَرَبَتْ به العرب المثل في خلف الوعد).

التمر عربيّ إنتاجًا وثقافة

ومهما يكن من أمر فإن الوطن العربي هو المنتج الأكبر للتمور في العالم في الوقت الحاضر. ذلك لأن الأرض العربية تمتلك كل المميزات التي تتطلبها زراعة النخيل. فالترب الرسوبية هي أفضل الترب لزراعته كما في السهل الرسوبي في العراق, وفي الترب الرملية كما في الجزائر والترب الجيرية كما في تونس.

وتشير الإحصاءات العلمية لسنة 1981 إلى أن الأرض العربية تحتضن حوالي 70% من أشجار النخيل والتي تنتج حوالي 76% من تمور العالم. كان العراق يحتل الصدارة في عدد النخيل وكمية المنتج من التمور لسنوات عديدة, وتنافسه مصر أحيانًا, إلا أن الوضع قد تبدل الآن فتراجعت مكانة العراق وتقدمت دول عربية أخرى في مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة وخاصة أبوظبي حيث يبلغ ما فيها من أشجار النخيل الآن حوالي 33 مليون نخلة, كما ورد في جريدة الاتحاد الصادرة في يناير 2001. (فقد تم استصلاح مساحات كبيرة من الأراضي في مختلف أنحاء الإمارة وأنشئت المزارع عليها حسب أحدث الأنظمة الزراعية المعتمدة). أما خارج نطاق الدول العربية فقد برزت الولايات المتحدة الأمريكية كدولة كبرى في مجال زراعة النخيل وإنتاج التمر. لقد تم استيراد أكثر النخيل التي زرعت في أمريكا من العراق ومن أمريكا انتشرت زراعة النخيل في كثير من بلدان العالم).

وتنتمي نخلة التمر, حسب تصنيف (لينس) إلى رتبة (بالمي) من نوع (فينيكس داكتيليفر). وفي لسان العرب, لابن منظور تفصيل دقيق لمصدر اسم النخلة وأسماء أجزائها, والمختصر المفيد الذي تجمع عليه قواميس اللغة العربية وهو ما يتفق عليه أئمة اللغة كالفراهيدي وأبو عبيد والأصمعي, أن النخلة شجرة التمر وجمعها نخل ونخيل ونخلات, يذكر ويؤنث. والاسم مأخوذ من نَخَلَ ينخِلُ وهو استخلاص اللباب من القشور.

وحكاية النخلة عند العرب مثل حكاية السيف أو البعير أو غيرهما, فانتشار العرب فوق رقعة واسعة من الأرض باعد بين الجماعات السكانية فنمت اللغة العربية مستقلة في جانبها الشعبي اليومي, الأمر الذي أوجد أسماءً متعددة ومختلفة للأشياء نفسها. وفي مقالة عن الخوص يذكر د.سليمان محمود حسن أسماء صغار النخيل فيقول إنها الإشاء, وهي في مقابل الفسيل فإذا استقامت وثبتت في الأرض ولم تعد تحتاج إلى سقي يسمونها الغامرة. وفي مكان آخر في المقالة نفسها يورد مسميات العرب تبعًا لطول النخلة: (فهي فسيلة أو ودْيَة إذا كانت النخلة صغيرة. أما إذا كانت قصيرة تنالها اليد فيقال لها القاعدة فإذا صار لها جذع يتناول منه المتناول فهي جبار...). أما محمد عباس علي فيبدأ بالأشاء والجعل والصرمة والفسقة, وإذا انفصلت عن أمها: حثيثة وبتيلة وودية, فإذا انتشلت فهي فسيلة ثم هي أشاة ثم جعلة ثم قلم ثم طريق إذا نالت اليد أعلاها. فإذا ارتفعت عن الأيدي فهي جبارة. هذه كما يبدو أسماء صغار النخل في البحرين.لأنني افتقدت (التالة) وهي النخلة الفتية التي لم ترتفع عن الأرض بعد, وتكون متعافية غضة السعفات زاهية المنظر. يستخدمها الشعراء في مختلف الأغراض الشعرية. فمن يرد أن يصف ذوائب حبيبته يقارنها بسعفات التالة كما في هذا البيت من العتابة:

طِلَعْ يرتَعْ كَعَنْزْ الكوس مِنْتَلْ يمَيِّح والذواويب سَعَفْ من تالْ
أسيلَكْ يا تَرِفْ بالنبي مو إنتْ الِ خدودك بالظلامْ إلّهِنْ ضوه?


أو كما عبر الآخر عن أساه وعتابه لصروف الدهر:

قِطَعْ بيَّه زماني قطِعْ بَتّالْ وسقاني كاسْتينْ الصَبُر بالتّلْ
راحْ العيطْ قِلنَه الأمَلْ بالتالْ راحْ التالْ وقطعْنا الرجا..


وما دمنا في مجال الحديث عن طول النخلة فإن كلمة (العيط) التي وردت في بيت العتابة السابق هي جمع مفردها عيطة وهي النخلة البالغة الطول.

ومكونات النخلة الأساسية هي: الجذور والساق والسعف والليف. ولكل من هذه الأجزاء تفاصيل وأسماء وأوصاف عسيرة على الحصر.

ورغم الفوائد الجمة التي تعطيها جميع أجزاء النخلة فإن التمر هو المادة الأساسية. يعتبر التمر من أغنى الأطعمة الأساسية حيث يمد الجسم بالطاقة الحرارية وهذا يعود إلى محتواه السكري, كما تحتوي التمور على كمية كبيرة من الأملاح المعدنية. والتمر مصدر للحديد والبوتاسيوم والمنغنيز وكذلك الكالسيوم والكربون والمغنيسيوم وكثير من المواد الأخرى.

أما أصناف التمور فإن ما هو معروف منها حتى الآن يبلغ حوالي ألفي صنف. وقد تتركز بعض الأصناف في مناطق دون غيرها لأسباب متعددة منها ملاءمة الظروف البيئية وغزارة الإنتاج والنوعية الجيدة ووفرة الفسائل, وأسماء هذه الأصناف لا تتبع نظامًا محددًا. فقد تكون حسب الألوان أو حسب الأشكال أو بأسماء مكتشفين أو بأسماء مناطق وغير ذلك.

وقد دخل التمر في الصناعات الحديثة فانتشرت مصانع الدبس والسكر السائل والخل والعلف, وتنوعت المصانع التي تستخدم الجذوع والسعف والنوى والجماروغيرها من أجزاء النخلة الأخرى.

 

سعدي الحديثي