البنية الصورية في الشعر الجاهلي ريتا عوض

البنية الصورية في الشعر الجاهلي

يعود الناقد الأدبي اليوم إلى دراسة التراث الشعري مسلحا بأدوات معرفية جديدة ونظريات نقدية حديثة لم تتح للباحثين الأقدم عهدا, ويعود إليه بوعي حضاري وثقافي أو بحسّ تاريخي - على حدّ تعبير تت إس إليوت - يجعله يدرك أن لا حداثة دون تراث, وأن الحاضر يوجهه الماضي, وأن الماضي يتحوّل ويتطوّر وتعاد صياغته بالنظرة المثقفة الحديثة, وأن التراث الأدبي والفني القومي نظام متكامل وحيّ متغيّر.

ولئن تطورت دراسة التراث الأدبي والفني الغربي في عصرنا على أيدي نقاد وباحثين كبار فإن دراسة شعرنا العربي القديم دراسة منهجية ما زالت في بداياتها. فالدراسة الأدبية لهذا الشعر في معظمها, لم تصل إلى زيادة الوعي به من حيث هو تراث فني ما زال مكوّنا أساسيا من مكوّنات الوعي الثقافي للإنسان العربي في عصرنا الحاضر وعنصرا حيويا في تراثنا الحضاري. فلم تتح لهذا الشعر فرص الدراسة المنهجية التي أتيحت لغيره من الأعمال الأدبية العريقة في التراث الإنساني, كشعر الملاحم الإغريقية والأساطير القديمة على سبيل المثال, بالرغم من أنه يتميّز عنها بكونه إبداعا في لغة ما زالت حيّة فاعلة حتى اليوم, وهي حالة ينفرد بها ما وصلنا من هذا الشعر العربي الذي أبدع منذ ما يقارب الألف وخمسمائة سنة في لغة مازالت هي لغة العرب اليوم.

هل هو شعر بدائي?

إن الاتجاهات السائدة في الدراسات الأدبية التي تتناول الشعر الجاهلي, توحي بأن هذا الشعر نتاج بدائي, ينتمي إلى ماض بعيد لسنا اليوم معنيين به. فالمنهج الغالب على تلك الدراسات يتمثل في التعامل مع هذا الشعر بما هو تعبير عن ذاتية الشاعر أو انعكاس لأحداث واقعية عاشها, والنتيجة المنطقية لهذا المنهج هي النظر إلى الشعر الجاهلي على أنه صورة لوقائع حياة مجموعة من البدو في شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام, وهي حياة تقدّم على أنها ساذجة ورتيبة ومنمّطة في صور مقننة ينقلها شاعر عن الآخر. هذا المنهج الساذج أدّى إلى تحويل الشعر الجاهلي إلى شبه وثيقة تاريخية لا تهم غير الأنثروبولوجيين أو الباحثين في التاريخ القديم. فالمنهج ينكر ضمنا أن الشعر فنّ في المحلّ الأوّل, وأن الفنّ ليس هو الواقع, وليس انعكاسا مباشرا له, ويتغاضى عن خصوصية اللغة الشعرية المتميّزة عن لغة الكلام العادي والمعرّفة بكونها لا تنقل معاني معجمية مباشرة, بل هي حمّالة دلالات متعدّدة ومتكثّرة ومتحوّلة.

لكن اللغة الشعرية لغة فنية تختلف عن لغة الخطاب العادي, والعالم الشعري ليس عالم الواقع اليومي. ومهمة النقد هي الكشف عن تميّز اللغة الفنية في الاستخدام الشعري, وعن خصوصية ذلك العالم الذي يبدعه الشعراء, في ارتباطه بعالم الواقع وانفصاله عنه في آن واحد. من هذا المنظور تكتسب الصورة الشعرية أهميتها في دراسة الشعر بما هي صيغة من صيغ تحوّل اللغة عن طبيعتها العادية واكتسابها طبيعة فنية تجعلها لغة شعرية.

ولعل من أبرز ما عرّفت به الصورة الشعرية في العصر الحديث تعريف الشاعر والناقد الإنجليزي عزرا باوند لها بأنها تلك التي (تمثّل مركّبا فكريا وعاطفيا في لحظة من الزمن.)وتكمن أهمية هذا التعريف في معارضته النظرة التي سادت الثقافة الغربية منذ القرن الثامن عشر حين وضع الفيلسوف الجمالي الألماني جوتهولد أفريم لسنج دراسته المهمة لاوكون (1766) وثبّت فيها نظرية تفرّق بين الشعر والتصوير, على أساس أن التصوير يستخدم في تمثيل العالم الخارجي وسائل أو إشارات مختلفة تماما عن تلك التي يحاكي بها الشعرُ الفعلَ الإنساني, فالتصوير يستخدم الأشكال والألوان في المكان, بينما يتكوّن الشعر من أصوات تنطق في الزمان. وكان لسنغ ينطلق من موقف نيوكلاسيكي يؤمن أن الفن محاكاة, وهو مفهوم يعدّ التمثيل (representation) أساس الفنون التشكيلية ويعدّ السرد المتمثل في الشعر القصصي ذروة التعبير الشعري. وكان تعريف باوند للصورة الشعرية تحوّلا بالشعر إلى مسار جديد, فقدّم مفهوما للشكل الشعري مناقضا للأسلوب السردي في الشعر الذي دعا إليه لسنج فغدت القصيدة سلسلة من المقاطع المستقلة المتجاورة, وتحوّلت بذلك طريقة إدراك الشعر عن الطريقة التي حدّدها لسنج لإدراك اللغة الشعرية, فأصبحت القصيدة بالنسبة إلى باوند تدرك إدراكا لحْظيا, أي إدراكا غير متعاقب في الزمان, وهو ما سمّي في النقد الحديث بالتشكّل المكاني للغة الشعرية. بذلك تختلف اللغة الشعرية عن لغة الكلام العادي التي تدرك إدراكا زمانيا وتلتقي بالفنون التشكيلية وبالتصوير, وتتحوّل القصيدة نفسها إلى لوحة فنية تدرك إدراكا متزامنا لا متعاقبا.

في هذا المفهوم لا تحدّد الصورة الشعرية بصفتها إعادة إنتاج تصويري للواقع بل من حيث كونها عنصر توحيد لأفكار وعواطف متباينة تتجسّد مكانيا في لحظة من الزمن. وفي هذا المنظور لا يعود الفن محاكاة, فينتفي التمثيل بما هو مطابقة الصورة للمظاهر الخارجية للوجود وتنتفي المحاكاة بما هي انعكاس لأفعال متكررة في الزمن. وبابتعاد الصورة عن تمثيل العالم الخارجي وبابتعاد الشعر عن محاكاة الفعل الإنساني يتدخل العقل لاجتياز الفاصل بين الصورة والمظهر الخارجي للوجود, وبين اللغة العادية والتشكّل الفني لهذه اللغة فيغدو التأويل أساس إدراك تلك الصورة التي تكون بالتالي صورة رمزية, وأساس إدراك اللغة الشعرية.

إسهامات النقد الحديث

لعل من أبرز إضافات النقد الحديث تأكيد العلاقة بين الشكل في الفنّ والجوّ الحضاري الذي ينشأ فيه العمل الفني. وكان النقاد والشعراء في إنجلترا الذين أطلقوا حركة الشعر الحديث في القرن العشرين, وعلى رأسهم تي إي هيوم وعزرا باوند وت. س إليوت, قد أفادوا بصورة خاصة في شعرهم وفي نقدهم من علماء الفن التشكيلي ونقاده من الألمان الذين اهتموا منذ أواخر القرن التاسع عشر بدراسة العلاقة بين الشكل الفني والجو الحضاري الذي ينشأ الفن فيه, وتتبعوا ظاهرة الانتقال من شكل فني إلى آخر في الحضارة الإنسانية معللين هذا الانتقال بالموقف الوجودي للإنسان والواقع الحضاري في العصر. وكان الأثر الأكبر للفيلسوف والناقد التشكيلي الألماني فلهيلم فورنجر, خاصة في كتابه التجريد والتقمص الوجداني الذي نشره عام 1908, وهو كتاب يعدّ منطلقا للتحولات الفنية التشكيلية والشعرية في أوربا التي نتجت عنها إبداعات تمثلت في حركات الفن والشعر الحديثين.

كان من أبرز سمات الحداثة الفنية في الغرب التحوّل عن المحاكاة والاتجاه إلى الرمزية بالمعنى الذي بينّاه. وكان فورنجر قد أثبت في نظريته وتحليلاته الفلسفية الجمالية للفنون التشكيلية, أن تلك الرمزية أو الاتجاه اللاطبيعي كما سمّاه, لا يختص بزمن حضاري معيّن أو بثقافة محدّدة, لكنه يرتبط بموقف من الوجود, يكون فيه الفنان غير منسجم مع واقعه المعيش, فلا يعيد إنتاج نماذج الطبيعة العضوية بالمحاكاة, بل يسقط عن تلك المظاهر عضويتها بحذف البعد الثالث, ويعيد إبداع عالم فني متجاوز لذلك الواقع. بهذا تميزت فنون الشعوب البدائية والنحت النُصبي الفرعوني والفن الشرقي والبيزنطي والرقش العربي الذي سمي في الغرب باسم (الأرابيسك) والنحت القوطي والفن الغربي في القرن العشرين. وكان من أهم ما استنتجه فورنجر وثبّته في النقد التشكيلي الحديث أن أيا من الاتجاهين الطبيعي واللاطبيعي في الفنّ ليس معيارا لا بدّ من اتباعه. هذا الموقف شكّل ردّا على الفكر الغربي منذ مطلع النهضة حتى نهاية القرن التاسع عشرة الذي عدّ المذهب اللاطبيعي في الفن انحرافا بربريا ناتجا عن ضعف القدرة الفنية. وقد لاحظ الفلاسفة الجماليون والنقاد الأدبيون أن الفنون جميعا كالموسيقى والفن المعماري تسير في الاتجاه الفني نفسه, وأبدى آي كوهنيل في مقالته عن مادة (الأرابيسك) في الموسوعة الإسلامية الملاحظة نفسها في قوله: (وتوجد تطورات مماثلة في الشعر العربي والموسيقى العربية).

وإذا كان البعد الثالث في التصوير هو المنظور الذي يمنح الصورة العمق الطبيعي ويقرّبها من محاكاة الواقع الخارجي, فإنه في الشعر التسلسل الزمني المتمثل في السرد القصصي والذي يشكّل محاكاة للفعل الإنساني المتحقق متعاقبا في الزمن كما بيّن جوزف فرانك في مقالته الممتعة والمهمة (الشكل المكاني في الأدب الحديث). وإذا كان العرب في تصويرهم لم يعتمدوا التمثيل أساسا للتعبير الفني واتجهوا إلى التجريد المتمثل في التصوير بالأشكال الزخرفية فاختزلوا الأشكال البشرية إلى منمنمات أحيانا أو نماذج مستوية واختصروا النبات إلى تصميمات تجريدية من أوراق الشجر المتصلة بأشكال هندسية معقّدة, فقد اتجهوا في شعرهم إلى إلغاء عنصر الزمن بما هو تسلسل وتعاقب, فلم يبدعوا الشعر القصصي الذي يعدّ خاصية أساسية من خصائص الشعر الكلاسيكي الأوربي. لهذا لم يكتب العرب ملحمة شعرية في رأي هذه الباحثة, ولم يكترثوا بالشعر الإغريقي الملحمي والدرامي, حين قاموا بترجمة عيون الثقافة الإغريقية من فلسفة وعلوم, لأن ذلك الشعر مناقض تماما للتوجه الحضاري العربي وغير منسجم مع ما نتج عنه من شكل فني للقصيدة العربية القديمة.

المكان سر القصيدة القديمة

تميّزت القصيدة العربية القديمة بإلغاء البعد الزمني وتأكيد مكانية النص الشعري, وهو ما حوّلها إلى أجزاء متجاورة تشاهد معا في لحظة من الزمان على حدّ تعبير عزرا باوند في تعريفه للصورة الشعرية الحديثة. ولهذا كانت القصيدة العربية مجموعة من المشاهد المتجاورة التي يمكن تبديل مواقعها دون أن يختل البناء العام, لأن هذه المشاهد متزامنة, أي أنها حادثة معا وتشاهد معا. فالتبديل هنا لا يعود (تقديما) ولا (تأخيرا), لأن التقديم والتأخير يفترضان التتابع والتسلسل الزمني, وهما أمران لا تدّعيهما القصيدة العربية الممتدة أفقيا في المكان. ولذا فإن الشاعر العربي, الجاهلي بالأخص, يذكر الأطلال والصحراء ويتغزل بحبيبته ويصف ناقته وفرسه ومعركة خاضها ورحلة صيد قام بها, فتتجاور المشاهد المختلفة لأنه لا يقصد أن يؤلف منها كيانا عضويا. إنه ـ واعيا أو لا واعيا ـ يسعى إلى الهروب من الظاهرة الطبيعية العضوية في الوجود باختزال البعد العمقي وتحقيق صورة متكاملة مسطحة ومستوية. بل إن المشهد الواحد يتكوّن من مجموعة متجاورة من الصور التي يستقل كل منها في بيت شعري محدّد بالقافية كوسيلة لفصله عن الصورة المجاورة المستقلة في البيت الشعري المجاور له. ويتأكد الاتجاه إلى تحقيق استقلالية البيت الشعري في أن امتداد المعنى في أكثر من بيت ـ وهو ما يسمى بالتضمين ـ عدّه العرب عيبا من عيوب النظم. وكانت القافية وسيلة فصل ووصل في آن معا, فهي إذ تفصل بين البيت والبيت تعيد بتكرارها ربط الأبيات جميعا ضمن إطار واحد. وتبرز في هذا البناء الشعري حتمية وحدة الوزن في أبيات القصيدة, إذ إنها السبيل إلى الربط بين الأبيات التي تبدو منفصلة, وعقد الصلة بين المشاهد المتجاورة.

كذلك فإن النص الشعري العربي بابتعاده عن تمثيل مظاهر الطبيعة العضوية بما فيها الإنسان وعدم محاكاة فعله, كان تحقيقا لمبدأ اللاشخصية في الشعر. وهذا أمر طبيعي بالنسبة للإنسان العربي الذي كان يشعر أنه لا يقوى بنفسه على مواجهة الطبيعة القاسية والوجود الغامض والقاهر, فاحتمى بالقبيلة وأضاف إليها فيما بعد الدين والدولة وظل عضوا في مجموعة. ومن هنا لم تكن القصيدة العربية, بصورة عامة, تعبيرا عن شخصية الفرد, بل كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتقاليد الشعرية التي تكوّن ما يسمى بأغراض الشعر. فليس هناك فارق بين الأطلال ببرقة ثهمد وما خلّفته الحبيبة وعشيرتها بحومانة الدرّاج والدخول وحومل. وتتشابه مشاهد الحرب والصيد وأوصاف الخيل والنوق. وكذلك تختلط صفات الأبطال حتى يؤلف مجموعها صورة لبطل واحد كامل. وتتشابه النساء فكأن الشعراء جميعا يصفون امرأة واحدة يسمّونها تارة سلمى وأخرى سعاد أو خولة أو هند, لأن الشعر فنّ له تقاليده وأصوله, وهو مرجع ذاته, وليس محاكاة للواقع الخارجي وليس وصفا له. ويعود الشعراء إلى تقاليد معيّنة في المديح وفي الرثاء وفي الهجاء وفي الغزل, فتكتسب مجموعة القصائد التي تستلهم التقاليد نفسها شخصية خاصة بها, فتكون لاشخصية القصيدة سبيلا إلى تأكيد شخصية الغرض الشعري. ولا يعني ذلك أن قصائد الرثاء مثلا, تقلّد الواحدة الأخرى, وينقل الشاعر الواحد فيها عن الآخر, ولكن هذه القصائد الرثائية جميعا تتبع تقاليد معيّنة تكسبها هوّيتها, وهو أمر لا ينفي الإبداع بل يؤكده. فليس هناك إبداع إلا في إطار التقاليد الفنية أو الشعرية. وذلك يؤكد أن الفنّ, بأشكاله جميعا, ليس هوى ذاتيا, وإنما هو تراث متماسك ومتنامٍ. وهذا مدلول الرمزية كما بيّنا, بما هي ابتعاد عن المحاكاة والتمثيل, وإدراك للعمل الفني بالتأويل.

الصورة الشعرية والحضارة

من هذا المنظور تتغيّر النظرة التقليدية إلى الصورة الشعرية. فإبداع التشبيهات والاستعارات وإدراكهما, لا يقومان على اكتشاف مشابهات حقيقية, قريبة المتناول أو بعيدته, لكنهما يرتكزان على أعراف حضارية. فالشاعر لا يشبّه المرأة بالغزال, مثلا, لوجود شبه حقيقي أو متوهّم بينهما, بل لأن أعرافا مترسّخة في ثقافته تقوده إلى هذا التشبيه. وهذه الأعراف تتحوّل إلى تقاليد شعرية تحقق ترابط الأعمال الفنية وتجعل منها تراثا. وفي هذا الإطار يفهم قول الجاحظ: (ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش, وإذا كان الشعر مديحا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها, كذا أن تكون الكلاب هي المقتولة: ليس على أن ذلك حكاية عن قصة بعينها). فالجاحظ هنا يستخلص مبدأ فنيا عاما من التجلّيات الشعرية الموجودة يمكن أن يعدّ عنصرا مكوّنا في النظام الشعري, ويؤكد مبدأ التقاليد الشعرية التي تحدّد أغراض الشعر من رثاء أو مواعظ أو مديح, وتتحدّد بها تلك الأغراض. وحين يقول إن الشعراء لا ينقلون حكايات عن قصص معيّنة حدثت فإنه يوحي بمعنى متضمّن يفيد بأن الإبداع الشعري ينبثق من التراث ويرتبط بالتقاليد الشعرية. وبهذا المعنى ينتفي عن القصيدة مبدأ محاكاة العالم الخارجي وتلغى عنها صفة الوثيقة الشخصية أو التاريخية.

إن تحديد الشبه في التشبيه الشعري, وتعيين معنى واحد مباشر للجملة الشعرية, والقول بالمحاكاة, جميعها تنفي البعد الرمزي للصورة الشعرية, وتسقط عن الشعر فنّيته بمعادلته بالكلام العادي. إلا أن ما يحفظ للصورة الشعرية رمزيتها, ويهب العمل الشعري حياة عبر العصور يتحقق استمرارها في قراءات جديدة تعيد إبداعه عملا معاصرا إنسانيا, هو ذلك الارتباط عينه بالتراث الثقافي والحضاري. فالصورة ليست معادلة لشيء أو أشياء في العالم الخارجي, إنها عنصر في نسيج من العلاقات الثقافية المتحوّلة تتغيّر مواقعها وتكتسب معاني جديدة بتطوّر النظام الإبداعي والثقافي. ومن هنا فإن دراسة الصورة الشعرية تحليل للدلالات الرمزية الثقافية للتعبير الفني في حضارة من الحضارات.

إن العناصر التكوينية للبنية الصورية للقصيدة العربية كما حددناها يمكن أن تعدّ مبادئ أساسية في نظام شعري عربي يجلو خصائص المنطق الفني الموجّه للتعبير الشعري في التراث العربي. فالشعر العربي بشكل عام, وبالأخص منه الجاهلي, لم يكن محاكاة لأفعال متكررة في الزمان, ولا تمثيلا لمظاهر الواقع والطبيعة, لأن الشاعر العربي كان على علاقة غير منسجمة مع واقعه وبيئته, وكان يعاني معاناة حادة أزمة الوجود الإنساني, يواجه وحيدا الزمن العاتي, السالب الإنسان الشباب والحيوية, والمودي به إلى الموت والمجهول, فسعى إلى تخطي ذلك الواقع بإيقاع صوري مخالف لإيقاعه وبالبنية الفنية المغايرة لبنيته. من هنا تميّزت اللغة الشعرية في قصائد الشعر الجاهلي برمزيتها الناتجة عن تحوّل الصياغة اللغوية عن المسار الزماني العادي للغة التقريرية المباشرة إلى الحيّز المكاني المتحقق بالصورة الشعرية.

لكن القول إن الشعر الجاهلي لم يكن تعبيرا عن صور الحياة الواقعية في عصره لا يعني انقطاع الصلة بين هذا الشعر ومحيطه الاجتماعي وإطاره التاريخي والحضاري, بل ينطوي على مبدأ مؤداه أن هذا الفن الشعري العربي لم يكن انعكاسا مباشرا للواقع الذي نشأ فيه ولم ينقل الصورة المباشرة لذلك الواقع وإن كانت ظروف ذلك الواقع وشروطه, وهي ظروف وشروط تاريخية وحضارية بالضرورة, تلعب دورا حاسما في تحديد الشكل الفني لهذا الشعر ومضمونه.

 

ريتا عوض