البحث إبراهيم العلوش

البحث

قضينا عدة أشهر معاً....

في البداية لم نتبادل الحديث, ربما خلال أسبوع أو عشرة أيام, فقط كان ينبهني للنظر يمينا وشمالا, وعندما نقترب من جمع يخفف من سرعته ويقول بصوت خافت:

- انظر إليهم جيدا عله يكون بينهم!

كان يأتيني كل يوم في حدود الرابعة بعد الظهر, كنت معتادا على النوم ظهرا ولم أعد أستطيعه, صوت الدراجة النارية يلامس رأسي وأنا أتشاغل في الظهيرة هنا وهناك مفكرا برحلة اليوم لئلا يأتيني النوم فجأة ويضطر الرجل للانتظار في الشارع, لكنني وقبل أن يقف حذاء الرصف وقبل أن يطفئ المحرك كنت أخرج إليه من باب البيت الذي لم يعد ينام فيه الآخرون, فالكبار صاروا قلقين علي والصغار يستغلون فترة الظهيرة عادة باللعب والصخب خارج رقابة الأهل الصارمة متحررين من الأوامر والنواهي والسخرة, ناولني هذا الغرض أو ذاك.

في البداية كانت رحلاته غير منتظمة, لكنه وبعد الأسبوع الأول حيث بدأ مجرى الكلام بيننا, صار يفصح لي عن نواياه في البحث وكأنه لم يعد يطيق التنقل أربع ساعات يوميا صامتا, وفي أيام العطل والجمع كنا نقضي معا حوالي عشر ساعات صارت تتخللها فترات توقف لشرب (الكازوز) أو القهوة التي يرفض أصحاب المحلات أخذ حسابها منه, بعد أن اندرجت لاحقاً ضمن قطاعات بحثنا اليومي عملية البحث في المقاهي والمطاعم وأمام الجوامع وقت دخول المصلين ووقت خروجهم وخاصة عند صلاة الجمعة.

كان الرجل دءوبا لا يبدي تبرما أو شكوى, لم يحصل أن اشتكى لي حاله أو وطأة عمله, فكرت بيني وبين نفسي, لو أنني امتلكت مثل هذا الدأب لتمكنت من إنهاء دراساتي العليا التي أجلتها سنة بعد سنة بحجج كثيرة تبدو واهية فيما بعد, مرّ عليّ زمن طويل من التشاغل والتذرع حتى خسرت فرص العمل التي كانت تنهال علينا من الخليج حيث رحل معظم الناس حتى اعتقدت أنه لم يبق في البلاد إلا أمثالي من المتقاعسين إلى أن التقيت هذا الرجل الدءوب.

خلال هذه الفترة نمت لدي حاسّة تلمّس الوجود, تلك الحاسّة التي تنسل إلينا عبر لوحات (البورتريه) أو المشاهد السينمائية التي تسبق الأحداث, وبشكل أقل في الوجوه التي تصفها الكتب, لكن هذه المرة كانت الوجوه حقيقية في شوارع أعرفها جيدا, غير أن الوجوه كانت غريبة عني أو هاربة أمامي وأنا أتأملها, هذه الغرابة هي التي أعطتني مسافة للتأمل والتدقيق, جعلت الوجوه أبعد قليلا عن اليومي والمألوف وأقرب إلى التخيلي الذي عرفته في اللوحات والأفلام!!

بعد شهر على بدء البحث صرت أذهل من ثروة الوجوه التي تعبر إلى ذاكرتي, لم أكن أتخيل أن يكون هذا البند الصغير في الخلق له كل هذه التفاصيل والاختلافات ضمن هذا الحيّز المكاني الصغير, وجوه دائرية ومستطيلة, باهتة وحارة, مرعوبة ومصفرة, لامبالية تتكتم على شيء دفين من الحزن, ثمة وجوه كأن أصحابها يمشون عليها في الشوارع بدلا من أرجلهم, ووجوه كأنها لاتزال من طين لم يجف بعد, تخشى الاقتراب منها لئلا تخرب تكوينها, ووجوه كلوحات الإعلانات فاضحة لكل ما خلفها, ووجوه كحجر البرية المشتت بلا نظام وكأنه خاضع للصدفة فقط, وجوه متقدة تنظر إليك بجمر وأخرى باردة لا تنشغل بك, وجوه منغمسة في الحياة اليومية وأخرى مدفوعة إليها بالقوة فتبدو منساقة بلا هدف أو معنى.

الغريب أنني لم أحفظ تضاريس وجه الرجل رغم الأشهر الطويلة التي قضيناها معا نجول في الشوارع, ربما بسبب جلوسي الدائم خلفه فلم أحفظ إلا نبرة صوته المتباعدة والمنبهة دوما للتدقيق في الوجوه, كانت نبرته خشنة, آمرة دون تعمد نتيجة دربة طويلة في إصدار الأوامر رغم أنه لم يكن ذا مرتبة عالية أو حتى متوسطة في عمله, لكن طبيعة العمل والظرف والإفادة المجزية من النبرة جعلتها تخرج بمهارة واعتياد حاجبة عن الآخر أي فكرة للنقاش أو التأكد.

أحيانا يخيّل إلي إنني لو رأيته الآن لن أعرفه إذا لم ينبر بكلمة أو أمر, مسحت صورته من ذهني إذ إنني ما تأملته بنظرة طويلة تسجل تفاصيله جيدا في الذاكرة, حيث كنت أصعد خلفه مباشرة بعد همهمة تشبه السلام وهمهمة منه تشبه الرد!!

أستطيع القول إن الشهر الأول كان كرنفاليا بالنسبة للأشهر التي تلته, فقد اقتصر على المرور العابر أمام الوجوه المتجمعة دون تأكيدات ودراسة عميقة للوجوه, إذ كان الرجل يعطيني حرية النظر والالتفات دون توجيهات دقيقة ومدروسة من قبله!!

في الأشهر التالية صار يحدد منطقة واحدة نجري رصدها كاملة, شوارعها العريضة ثم الفرعية ثم الضيقة, فدخول بعض المنازل التي كان يكتب عناوينها في قائمة يحملها معه دائما ولم أستطع رؤيتها طوال الأشهر التي جمعتنا معا.

يقرع الجرس ودون مقدمات ندخل المنزل يقول لي انتبه جيدا لا تنخدع بنظرات المسكنة أو الترحيب ولا تفوت وجها واحدا مهما بدا صغيرا, حتى الرضع تأملهم فقد تشي ملامحهم بوجوه آبائهم أو إخوتهم الكبار ونحصل على المطلوب, يمشي أمامي, يفتح الغرف, المطابخ, الحمامات, دورات المياه, الوجوه تنظر إلينا بذعر متصخر على الملامح ونحن ننسل بينهم دون أن يسألنا أحد عما نريد ولا نقول لأحد ما نريد!!

نبدأ رصد الحي بالمرور حوله, نسوره بدخان الدراجة النارية ومن ثم نبدأ بالتوغل فيه عبر محاور مرسومة في خريطة يحفظها, راسمين بدخان دراجته خطوطا متوازية ومتقاطعة, عازلين الوجوه في مربعات من دخان أزرق مائل إلى السواد أحيانا حسب معاناة الدراجة من صعود الطريق أو هبوطه, نمر على دكاكين الحارات وزوايا التقاطعات, يتبادل مع البعض إشارات لا أراها على وجهه لأنه دائم الجلوس على الدراجة أمامي, لكنني أشاهد الردود على الوجوه المتوارية هنا وهناك أو المؤشرة إلى هذا الاتجاه أو ذاك, كانت الحارات مليئة بهم, بعضهم أنيق وبعضهم مهمل وبعضهم الآخر لا تثير رؤيته أي تساؤل, يبدو عاديا, أب لأولاد أو شاب وسيم ينتظر صديقته أو مصلح منهمك بصيانة الآلة التي بين يديه لكنه سرعان ما يطلق الإشارة التي تغير اتجاهنا إلى مسار آخر!!!

* * *

خلال أشهر الصيف أصبت بالسماط, كنت أستعمل مراهم متعددة لأخفف من التهاب فخذيّ اللذين يضخ عليهما جلد المقعد البلاستيكي حرا شديدا يذيب الجلد, لكن الرجل لم يشك من شيء كأن دراجته النارية جزء من جسده, صارت الجولات عبئا شديدا علي, وحتى الجلسات التي نرتاح فيها لم تكن تروق لي ولا حتى روّاد المطاعم والمقاهي الغارقين بالأحاديث الكثيرة والمتناثرة حول كل شيء, وعندما رأيت الرجل الذي كنا نبحث عنه أخيرا ترسّخت لدي القناعة بأن أحاديثهم أشبه بالركام, ركام يتناثر من أجل قتل الوقت وتمضية العمر المتشابه إلى حد الضجر...

مذ خرجت مع رجل الدراجة النارية تلك الظهيرة, انتابني إحساس غامض بأن شيئا ما سيحدث وقبل أن تنعطف الدراجة إلى الشارع الذي رأيته فيه دق قلبي, أحسست بدقته العالية وقبل أن أنغمس في تحليلها رأيته على ناصية الطريق, بدا رجلا مميزا ليس له طلة الناس المتكدسين في المطاعم والمقاهي وأينما كان, ابتسامته شعت علي من بعيد, كان ينظر إلي غير آبه بسيماء رجل الدراجة أمامي, رأسه كانت شمسا صغيرة تلمع في قلبي إنه هو, هو الرجل الذي قال (لا) تبلورت ملامحه أمامي لحظة رأيته, دخل الغرفة يومها وكنت وحيدا فيها, ذهب بقية أعضاء اللجنة للإفطار وبقيت عند صندوق الاستفتاء وحيدا, طلب ورقة ليصوّت عليها, قلت له:

- طبعا تريد أن تقول (نعم)!

- لا... لا أريد أن أقول (نعم)!

- لا يجوز يا أخ... سيأتينا وجع رأس!

قال: هذا رأيي! وتناول الورقة من يدي ورسم دائرة حول الـ(لا) السوداء القائمة تاركا الـ(نعم) الخضراء, طوى الورقة وأسقطها في الصندوق ومضى, كانت هي الـ(لا) التي جعلت رجل الدراجة النارية يصطحبني كل تلك الأشهر خلفه, نظرت إلى وجهه المبتسم, كأنه يعرفني ويعرف سبب ركوبي خلف رجل الدراجة النارية, كان واثقا من نفسه  إلى درجة كدت أن أطلب من رجل الدراجة النارية التوقف وإلقاء القبض عليه صائحا:

- إنه هو... هو الرجل الذي صوّت بـ(لا)!!

لكنني لم أستطع مناكدته, نوره ملأ صدري شعرت لحظتها بأنني كنت جزءا من الركام الذي أراه كل يوم, أما هو فوجهه يسطع عاليا وقامته ترتفع بعيني مثل قامة رجال الحكايات الجميلة...

قال رجل الدراجة النارية:

- كم أكره هذا المغرور... أتمنى أن أجد عليه شيئا, سوف أجعل وجهه يشبه الحذاء... لا أحب أمثال هذا الآدمي... إنه من نوع غريب!!

قلت له:

- حقا إنه من نوع غريب!!

بعدها بأشهر شعر الرجل بالقنوط, أرجعني إلى البيت ولأول مرة قال لي:

- غدا لن آتي, إنني ذاهب في مهمة, سأعود إليك ذات يوم ولابد من أن نجده مهما طال الزمن!!!

 

إبراهيم العلوش