الصمت (قصة مترجمة) ياسوناري كاواباتا ترجمة: كامل يوسف حسين

الصمت (قصة مترجمة)

يقال إن أوميا أكيفوسا لن ينبس ببنت شفة مجدداً أبداً, يقال إنه لن يكتب حرفاً من جديد أبداً, على الرغم من أنه روائي, ولا يزال في السادسة والستين من عمره فحسب. وليس المراد بهذا أنه لن يكتب روايات بعد الآن, وإنما أنه لن يكتب حرفاً واحداً.

أصيبت يمين أكيفوسا, وغدت بلا جدوى, تماماً كلسانه, لكنني سمعت أن بمقدوره تحريك يسراه قليلاً, ولذا وجدت أن من المعقول افتراض أن بوسعه الكتابة إذا أراد ذلك, وحتى مع التسليم بأنه سيجد من المستحيل كتابة فقرات إضافية, فإنه لا يزال يبدو من المحتمل أن بوسعه كتابة كلمات بحروف العامية اليابانية لدى رغبته في إنجاز شيء ما لأجله.

وبما أنه عاجز الآن عن الحديث ـ بما أنه عاجز عن الإشارة أو الإيماء بحرية ـ فإن كتابة أكثر حروف العامية التواء من شأنها السماح له بتوصيل أفكاره ومشاعره بطريقة يستحيل إنجازها بخلاف ذلك, ومن المؤكد أن ضروب سوء الفهم ستكون أقل حدوثاً.

أياً كان غموض الكلمات, فإنها أسهل يقيناً في تفهمها من لغة الجسد المرتبكة أو الإيماءات الملتبسة. وحتى إذا تم الافتراض أن أكيفوسا العجوز قد أفلح في إيضاح أنه يريد احتساء شيء ما بضم شفتيه على نحو يوحي بالامتصاص, على سبيل المثال, أو تقليد عملية رفع قدح إلى فمه, موضحاً فحسب أنه يريد ماء أو شاياً أو حليباً أو دواء, إنه يبغي أياً من هذه السوائل الأربعة, حتى ذلك من شأنه أن يكون صعباً, فكيف يميز بين الماء والشاي? لسوف يكون ما يريده واضحاً تمام الوضوح إذا كتب (ماء) أو (شاياً) بل إن حرف (م) أو (ش) يمكن أن ينقل الرسالة.

من الغريب, أليس كذلك? أن رجلاً كسب قوته, على امتداد أربعين عاماً, باستخدام الحروف والعلامات لكتابة كلمات, الآن وقد أوشك على أن يفقد كلية تقريباً تلك الحروف والعلامات وبالتالي وصل إلى تفهم القوى التي تحظى بها بأعمق المعاني وبأعظم قدر ممكن من اليقين, الآن وقد غدا بمقدوره استخدامها بمثل هذه المعرفة العميقة, من الغريب, أليس كذلك? أن يحرم نفسه من استخدامها, إن حرف (م) وحده أو حرف (ش) وحده قد يساوي ما يزيد على كل الفيض, الفيض الهائل حقاً من الكلمات والحروف التي كتبها طوال عمره, ذلك الحرف الواحد قد يكون عبارة أكثر بلاغة, عملاً أكثر أهمية, وقد يحظى بقوة أكبر.

حدثت نفسي بأنني ربما أحاول قول هذا لأكيفوسا العجوز عندما أزوره, حينما يمضي المرء بالسيارة من كاماكورا إلى زوشي, فإنه يجتاز نفقاً, وليس الطريق بالذي يدخل الكثير من البهجة على النفس, فهناك محرقة للجثث قبيل النفق, ويتردد أن شبحاً قد ظهر هناك, أخيراً, شبح امرأة في مقتبل العمر تستقل السيارات التي تمر غير بعيد عن المحرقة ليلاً, هكذا يقال في القصة التي تتردد في هذا الشأن.

كان النور سيظل منتشراً, ولذا لم يكن هناك ما يدعو للقلق, ولكنني مع ذلك سألت سائق سيارة الأجرة, الذي بدا مألوفاً, عما يعلمه عن هذا الموضوع.

قال السائق: (لم أصادفها بنفسي بعد, ولكن هناك أحد الأشخاص في شركتنا أقلها بسيارته. والأمر لا يقتصر على شركتنا فحسب, وإنما هي قد ركبت سيارات أجرة تابعة لشركات أخرى كذلك, وقد رتبنا الأمر بحيث نصطحب مساعداً إذا مضينا في هذا الطريق ليلاً). ومن خلال الحكم استناداً إلى طريقته في الحديث, فإنه قد كرر هذه القصة عدداً كافياً من المرات ليجعله يشعر بالسأم من سردها.

ـ أين تظهر?

ـ أين حقاً, إنها تظهر على الدوام في السيارات التي تعود خاوية من زوشي.

ـ إنها لا تظهر عندما يكون هناك أناس في السيارة?

ـ طيب, ما سمعته هو أنها تظهر في السيارات التي تعود خاوية. أحسب أنها تنسل منسابة إلى السيارة قرب المحرقة. ومما ترامى إلى سمعي فالأمر ليس قوامه أنك توقف السيارة فتبادر هي إلى ركوبها كذلك, فأنت لا تعلم متى تنسل إلى السيارة, وإنما السائق يساوره شعور مفارق للمألوف, فيلتفت إلى الوراء, وإذا هنالك في السيارة تلك  الشابة في مقتبل العمر, ولكن بما أنها شبح فإنها لا تنعكس على صقال المرآة التي ترصد المشهد الخلفي.

ـ ذلك أمر محير, أحسب أن الأشباح لا تنعكس صورها على صقال المرايا?

ـ أحسب أنها لا تنعكس. يقولون إنها لا انعكاس لها, حتى إذا كان بمقدور عيون البشر رؤيتها.

ـ نعم, ولكنني أحسب أن عيون البشر يمكن أن تراها. أليس كذلك? المرايا ليست لاقطة على نحو دقيق.

هكذا قلت. ولكن العيون المتطلعة إلى المرآة هي, بالطبع, عيون بشرية. أليست كذلك?

قال السائق:

ـ لكن من رأوها ليسوا شخصاً أو اثنين فحسب.

ـ ما طول المسافة التي تركب خلالها السيارة?

ـ حسن. إن الخوف يستبد بك, ويبدو الأمر كما لو أنه أصابك نوع من الدوار, ولذا فإنك تشرع في الانطلاق بالسيارة مسرعاً حقاً, ثم عندما تصل إلى وسط كاماكورا, فإنك تسترخي, وعندئذ تكون قد مضت لحال سبيلها.

ـ لابد أنها من كاماكورا إذن, لابد أنها تريد العودة إلى دارها في كاماكورا, وهم لا يعرفون من تكون.

ـ آه, الآن لا علم لي..

حتى إذا كان يعرف, أو إذا كان هناك بعض الحديث بين سائقي سيارات الأجرة حول من عساها تكون, فإن من المشكوك فيه أن السائق سيكون من عدم الاكتراث بحيث يحدّث راكباً بجلية الأمر.

ـ إنها ترتدي كيمونو, المرأة الشبح. إنها بارعة الحسن, ولا يرجع إدراك ذلك إلى إطلال البعض من فوق أكتافهم, أو ما إلى ذلك, فأنت لا تحدق على وجه الدقة في محيا شبح.

ـ هل تفوهت بأي شيء?

ـ سمعت أنها لا تتحدث, ولسوف يكون أمراً جميلاً أن تقول شكراً على الأقل. أليس كذلك? ولكن, بالطبع, عندما تتحدث الأشباح فإنها تشكو على الدوام.

قبيل دخولنا النفق, تطلعت إلى الوراء عند الجبل الذي تستقر المحرقة عليه. لقد كانت محرقة مدينة كاماكورا, وهكذا فإنه يبدو أن معظم الموتى الذين أحرقوا هناك يرغبون في العودة إلى الدور في كاماكورا. وربما سيكون من الجميل أن تكون امرأة رمزاً لكل أولئك الموتى, الذين يركبون السيارات الخاوية ليلاً. ولكنني لم أصدق القصة.

ـ ما كنت لأصدق أن شبحاً سيحتاج إلى سيارة أجرة. أليس بمقدور الأشباح أن تمضي إلى حيث يطيب لها, وتظهر في أي مكان?

وصلنا إلى دار أوميا أكيفوسا بعيد خروجنا من النفق.

كانت سماء الساعة الرابعة المتشحة بالسحب تضوع, على نحو خفيف, بعبق الدراق, وهو مؤشر يوميً بمقدم الربيع. ترددت للحظة عند بوابة دار أوميا.

لم يسبق لي أن زرت العجوز أكيفوسا إلا مرتين في الشهور الثمانية التي انقضت, منذ أن أصبح هو نفسه نوعاً من الشبح الحي. كانت المرة الأولى بُعيد السكتة التي أصابته. كان أكبر مني بعشرين عاماً, رجلاً أُجله, كاتباً شملني برعايته, وكان من الصعب عليّ أن أراه على هذه الحال, بشعاً, وبائساً, على نحو ما غدا عليه.

لكنني كنت أعرف أنه إذا أصيب اكيفوسا بسكتة ثانية, فإن من المحتمل أن تكون تلك هي النهاية. كنا نقيم في مدينتين متجاورتين, فزوشي وكاماكورا تقع إحداهما على مرمى حجر من الأخرى, على نحو ما نقول, وقد بدأت تثقل على ضميري الحقيقة القائلة إنني أهملت زيارته. ولم يكن عدد الناس الذين رحلوا عن هذا العالم بينما كنت أبحث إمكان زيارتهم ولكنني لم أزرهم بالقليل, بأي حال من الأحوال. وغالباً ما حدث أنني وصلت إلى الاعتقاد بأن تلك هي سنة الحياة. وقد كنت أفكر في أن أطلب من اكيفوسا أن يكتب لي شيئاً على قطعة من ورق من نوعية هانسيتسو, ولكن الفكرة وصلت إلى حد تبدو معه عبثية. وقد حدث هذا الشيء نفسه لي مرات عديدة. ولم يكن الموت المفاجئ بالشيء الذي يمكنني التعامل معه بشكل عرضي, وكنت أدرك تمام الإدراك أنني نفسي قد أموت في  أي لحظة ـ ربما ذات ليلة خلال عاصفة ـ ولم أكن حريصاً على نفسي أشد الحرص.

عرفت مؤلفين آخرين لقوا حتفهم فجأة, من جراء نزيف في الدماغ, أو نوبات قلبية, أو انسداد بالشرايين, ولكنني لم أسمع قط بشخص تم إنقاذه ولكنه شل على نحو ما حدث مع العجوز أكيفوسا. ولو أن المرء نظر إلى الموت باعتباره أعظم بلية على الإطلاق, لكان عليه القول إن أكيفوسا محظوظ إلى أبعد الحدود بمواصلته العيش, حتى على الرغم من أنه يعيش كمريض لا يرجى له شفاء, كرجل معاق, ولكن ذلك الشعور بحسن الطالع كان من الصعب للغاية على معظمنا أن يحسوا به, كما كان من المتعذر علينا أن نحدد ما إذا كان أكيفوسا نفسه يحس بأنه كان محظوظاً.

مرت ثمانية شهور فحسب منذ تعرض أكيفوسا للسكتة, ولكن مما سمعته فإن عدد الناس الذين يزورونه غدا محدود للغاية بالفعل, حيث يمكن أن يكون من الصعب التعامل مع عجوز أصم, ولكن ليس مما يقل عن ذلك صعوبة التعامل مع رجل قادر على السمع, ولكنه لا يستطيع الكلام, فهو يفهم ما تقول له, على الرغم من أنك لا تفهم ما يريد أن يقوله لك. إنه أمر أكثر غرابة من محادثة أصم.

كانت زوجة أكيفوسا قد توفيت في وقت مبكر, لكن ابنته توميكو مكثت معه. كانت هناك ابنتان, لكن الصغرى تزوجت, وغادرت الدار.

أما الابنة الكبرى, توميكو, فقد انتهت بها الحال إلى البقاء في الدار لرعاية أبيها. ولم تكن هناك حاجة حقيقية تدعو إلى أن يتزوج أكيفوسا من جديد, حيث إن توميكو قامت على شئون الدار جميعها, وقد ابتهج حقاً بحرية حياة العزوبية, ولربما يقول المرء لهذا السبب إن توميكو قد اضطرت لتقديم تضحيات معينة لأبيها.

وتشير الحقيقة القائلة إن اكيفوسا, على الرغم من أنه كانت له علاقات عاطفية عديدة, ظل على عزوبيته وأن قوة إرادته كانت من المضاء بحيث تغلبت على عواطفه, أو أنه ربما كان هناك شيء آخر يجري.

كانت الابنة الصغرى فارعة القوام وذات ملامح بديعة على نحو استثنائي, ولكن هذا لم يكن يعني القول إن توميكو كانت من نوعية الشابات اللواتي يتوقع المرء أن يبقين بلا زواج. ولم تعد, بالطبع, فتاة في ميعة الصبا, فقد كانت تدنو من الأربعين, ولذا لم تكن تضع لمسات من مواد التجميل على الاطلاق, لكن المرء يستشعر فيها نقاء. وقد بدت على الدوام إنسانة هادئة, ولكنها لا تتسم بشيء من كآبة العوانس التقليديات ولا ضيقهن, وربما أمدها إخلاصها لأبيها ببعض العزاء.

درج الزائرون على محادثة توميكو بدلاً من أكيفوسا, وكانت تجلس بجوار وسادة أبيها.

أزعجتني رؤية ما وصلت إليه من نحول, وبدا لي أن من الغريب أن تستبد بي الدهشة, الأمر الذي كان معناه أن من الطبيعي بالنسبة لها أن تكون ناحلة, ولكن على الرغم من ذلك فإن رؤيتها تغدو فجأة وقد أوغلت في العمر وغدت ناحلة أثارت الاكتئاب في نفسي, وخطر لي أن الناس في تلك الدار يعانون.

لم يكن هناك ما أقوله, بعد أن تفوهت بالكلمات العبثية التي يقولها من يعود مريضاً, وهكذا انتهى بي الأمر إلى التفوه بشيء ما كان ينبغي أن أقوله:

ـ هناك شائعة تتردد, مفادها أن شبحاً يظهر على الجانب الآخر من النفق. هل سمعت بذلك? لقد سألت السائق عنه وأنا في الطريق إلى هنا. وفي حقيقة الأمر..

ـ أهناك شيء من هذا حقاً? إنني في الدار على الدوام. ولم يتناه إلى سمعي أي شيء.

بدا جلياً أنها ترغب في معرفة المزيد. وهكذا ـ فيما حدثت نفسي طوال الوقت بأنه كان من الأفضل ألا آتي على ذكر هذا الموضوع ـ لخصت لها ما عرفته.

ـ حسن, إنها نوعية من القصص يصعب على المرء تصديقها, على الأقل إلى أن يرى الشبح. بالطبع, قد لا يصدق المرء القصة حتى لو رأى الشبح, ففي نهاية المطاف هناك أوهام دائماً.

ـ ينبغي أن تتحرى الشبح الليلة, يا سيد ميتا, وتكشف ما إذا كان له وجود حقاً!

قالتها توميكو. وكان غريباً منها أن تقول ما تفوهت به.

ـ آه. ولكنه لا يظهر والليل لم يسدل أستاره بعد.

ـ ستكون الشمس قد غربت إذا بقيت لتناول طعام العشاء.

ـ لسوء الحظ أخشى أنني ليس بمقدوري البقاء. وفضلاً عن ذلك فإن شبح المرأة لا يستقل إلا العربات الخاوية.

ـ حسن. إذا كان الأمر كذلك فليس لديك ما يثير القلق? إن أبى يقول إنه مسرور للغاية بقدومك, وإنه يأمل أن تأخذ راحتك. أبي.. لسوف يتناول السيد ميتا طعام العشاء معك. أليس كذلك?

تطلعت إلى العجوز أكيفوسا, فبدا كما لو أنه أومأ برأسه موافقاً على وسادته. هل كان مسروراً لقدومي? بدا بياض عينيه غائماً وموحياً بالإجهاد, وكانت هناك لطخ من الصفار حتى في بؤبؤيه. ولكن بدا أن بؤبؤيه يتألقان من أعماق هذه اللطخ. ولاح أنه سيعاني من سكتته الثانية عندما تندلع تلك التألقات متحولة إلى لهب. بدا أن ذلك يمكن أن يحدث في أي لحظة. وخالجني شعور بعدم الارتياح.

ـ أخشى أنني سأجهد أباك, إذا بقيت وقتاً أطول مما ينبغي, وذلك قد...

قالت يوميكو بوضوح:

ـ لا, أبي لا يشعر بالإجهاد. إنني أدرك أنه أمر غير لطيف مني أن أبقيك هنا مع مريض كأبي, ولكنه يتذكر أنه كاتب بدوره, عندما يكون هنا كاتب آخر.

ـ هو... ماذا?

أدهشني إلى حد ما التغير الذي طرأ على نغمة صوت توميكو, ولكنني أعددت نفسي للبقاء لبعض الوقت.

ـ من المؤكد أن أباك يدرك على الدوام أنه كاتب.

ـ هناك رواية لأبي كنت أفكر فيها كثيراً منذ أصبح على هذه الحال. لقد كتب عن ذلك الشاب الذي أراد أن يصبح كاتباً, كان الفتى يبعث إليه برسائل غريبة كل يوم تقريباً, ثم استبد به الجنون تماماً, فأودعوه في مصح للأمراض العقلية. والأقلام والمحابر تعد خطيرة, وقالوا إن أقلام الرصاص خطيرة أيضاً, ولذا فإنهم لم يتيحوا له الحصول عليها. وكانت أوراق المخطوطات هي الشيء الوحيد الذي سمحوا له بالحصول عليه في غرفته. وكان فيما يبدو على الدوام هناك أمام ذلك الورق, عاكفاً على الكتابة, على الأقل اعتقد أنه يكتب. ولكن الورق ظل على بياضه. إلى هنا كان الأمر من نسج الواقع, أما الباقي فهو رواية أبي. ففي كل مرة كانت أمه تجيء لزيارته, كان يقول لها: (أماه, لقد كتبتها, هل تقرئينها لي? هل تقرئينها لي يا أماه?!) وتنظر أمه إلى المخطوط الذي يعطيها إياه, فلا تجد فيه شيئاً مكتوباً على الإطلاق, فتشعر بالرغبة في الانخراط في البكاء ولكنها تقول: (آه, لقد أحسنت الكتابة, إنها جيدة للغاية. أليس كذلك!) وتبتسم, وفي كل مرة تزوره كان يلح عليها لتقرأ المخطوط على مسامعه, فتشرع في قراءة الصفحة البيضاء عليه. وخطر ببالها أن تروي عليه قصصاً من بنات أفكارها, جاعلة الأمر كما لو كانت تقرأ المخطوط. تلك هي الفكرة الرئيسية الكامنة وراء رواية أبي, وتحدث الأم الفتى عن طفولته. ولا شك في أن الفتى المجنون يعتقد أنه يجعل أمه تقرأ نوعاً من التسجيل لمذكراته, شيئاً كتبه هو نفسه, ذلك هو ما يعتقد أنه يصغي إليه, فتتألق عيناه بالفخر, وليست لدى أمه فكرة عما إذا كان يفهم ما تقوله من عدمه, ولكنها في كل مرة تزوره تكرر القصة ذاتها وتتحسن أكثر فأكثر في سردها, فهي تبدأ في الظهور بمظهر من تقرأ بالفعل قصة ابنها, وهي تتذكر أموراً كانت قد نسيتها, ويتزايد جمال مذكرات الابن, والابن يجتذب قصة الأم من مغاور الذاكرة, ويساعدها, ويغير القصة. وما من سبيل لتحديد رواية من هي, وما إذا كانت رواية الأم أو الابن, وعندما تتحدث الأم ينصب تركيزها على ما تقوله حتى لتنسى نفسها, وهي تتمكن من نسيان ان ابنها مجنون, فما دام أنه يصغي إليها بتركيز كامل, فليس هناك من سبيل إلى معرفة ما إذا كان مجنوناً من عدمه, ويمكن إلى حد كبير أن يكون عاقلاً ومجنوناً معاً, والأمر يبدو كما لو أن الأم والابن يحييان في عليين معاً, ويشعران معاً بالسعادة. وفيما هي تواصل القراءة يخيل إليها أن ابنها قد يتحسن, فتواصل قراءة المخطوط المجرد من الكلمات.

ـ تلك هي رواية (ما يمكن للأم قراءته). أليست كذلك? إحدى روائع أبيك. إنها عمل يستعصي على النسيان.

ـ الكتاب مؤلف في صيغة المتكلم. الابن هو البطل, ولكن بعض الأمور التي يتذكرها عن طفولته حدثت بالفعل لأختي ولي عندما كنا صغاراً, وكل ما هنالك أنه جعلها تحدث لصبي..

ـ هل الأمر كذلك?

ـ كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الأمر.

ـ أتساءل حقاً عن السر في أن أبي كتب رواية كتلك. هذا الكتاب يخيفني الآن, وقد غدا على هذه الحال. ليس أبي مجنوناً, وليس بوسعي أن أكون مثل تلك الأم واقرأ على مسامعه رواية لم يكتبها. ولكنني أتساءل عما إذا لم يكن ذهنه عاكفاً على تأليف رواية الآن تواً.

خطر ببالي أن توميكو إنسانة غريبة, بمقدورها قول أمور كهذه, على الرغم من أن اكيفوسا العجوز ربما كان يسمع كل كلمة تتفوه بها. ولم أدر كيف أرد على ما قالته.

ـ لكن أباك كتب بالفعل العديد من الأعمال المتميزة, وهو وذلك الفتى ذو العقلية الأدبية مختلفان تمام الاختلاف.

ـ هل تعتقد ذلك? أحسب أن أبي لا يزال يريد أن يكتب.

ـ بالطبع, ليس من شأن الجميع أن يوافق على هذا.

حدثت نفسي بأنني شخصياً أعتقد أنه قد كتب بالفعل ما فيه الكفاية, ولكنني لو كنت في وضع العجوز أكيفوسا لحرت فيما يتعين عليّ فعله.

ـ كل ما في الأمر أنني لا أستطيع الكتابة نيابة عن أبي. سيكون جميلاً لو كان بمقدوري كتابة (ما تستطيع ابنة قراءته) ولكنني لا أستطيع.

بدا لي صوتها كما لو كان صوت شابة في الجحيم. هل تعني الحقيقة القائلة إنها قد تحولت إلى نوعية المرأة التي قالت مثل هذه الأمور إنها من خلال قيامها المستمر على شئون أبيها, الذي كان نوعاً من الشبح الحي قد استحوذ عليها شيء ما بداخله? خطر لي أنها قد تؤلف كتاباً عن ذكريات مروعة, عندما يموت أكيفوسا. وبدأت استشعر كراهية عارمة نحوها.

ـ ماذا لو أنك تحاولين الكتابة عن أبيك?

أحجمت عن إضافة قولي: (بينما هو لا يزال على قيد الحياة) فجأة تذكرت بعض كلمات مارسيل بروست. كان نبيل بعينه قد أساء إلى الكثيرين في يومياته التي تمثل, بعد طول انتظار, للنشر, ولذا كتب يقول: (إنني على شفا الموت, وآمل ألا يمرغ اسمي في الوحل طويلاً حيث إنني سأعجز عن الرد!) ولا يرجع تذكري لهذه الكلمات على الإطلاق إلى أن الحال تشبه حال أكيفوسا وتوميكو, فهما ليسا غريبين بحال, وربما حدث حقاً بينهما تبادل انفعالي غامض, يتجاوز ما يعايشه الآباء والبنات.

أذهلتني الفكرة الغريبة القائلة إن توميكو قد تكتب عن أبيها, كما لو أنها قد أصبحت ذلك الأب.

وسواء أكان الأمر قد أصبح لعبة جوفاء أم عملاً فنياً مؤثراً, فقد بدا أنه في الحالتين كلتيهما يقدم بعض العزاء لهما كليهما, فأكيفوسا ربما يمكن إنقاذه من صمته المطلق, من سحبه إلى الكلمات, والسحب إلى الكلمات هو يقيناً شيء لا  يطاق.

ـ سيتمكن أبوك من فهم ما كتبته, ولسوف يكون بمقدورك تقويمه. لن تقرئي صفحة خالية من الكلمات, وإذا ما كتبت حقاً عن أبيك, إذا جعلته يصغي إليك وأنت تقرئين...

ـ هل تظن أنه سيكون عمل أبي? حتى القليل منه...

ـ لا شك في أن بعضه سيكون كذلك, وأي شيء أكثر من ذلك... سيكون وقفاً على مشيئة السماء, وهو ما يعتمد على مدى قربكما انتما الاثنان, ليست لديّ طريقة لمعرفة ما سيكون عليه الأمر.

لكنه بدا بالفعل أن كتاباً يؤلف بمثل هذه الطريقة سيضم حياة تتجاوز كتاب ذكرياته يؤلف بعد وفاة أكيفوسا. ولو أنه مضى على نحو جيد, فإنه حتى نوعية الحياة التي يعيشها الآن يمكن أن تكون ثمينة على صعيد أدبي.

ـ حتى إذا واصل أبوك الصمت, فإنه يظل بمقدوره أن يساعدك, ويظل بإمكانه تصحيح أخطائك.

ـ لن يكون له أي معنى, إذا كان في نهاية المطاف عمليا. يتعين عليّ تدبر الأمر بعناية مع أبي.

تردد صوت توميكو مفعماً بالحياة, وهي تنطق هذه الكلمات.

من جديد بدا أنني قلت أكثر مما ينبغي. أليس ما كنت أقوم به شبيهاً بإرغام جندي جريح على نحو يدعو لليأس على العودة إلى المعركة? ألم يكن ذلك انتهاكاً لحرمة الصمت? لم يكن الأمر كما لو أن أكيفوسا كان عاجزاً عن الكتابة, فقد كان بمقدوره كتابة حروف أو علامات إذا أراد ذلك. ربما كان قد اختار الصمت, اختار ألا ينبس ببنت شفة بسبب حزن عميق, آسف. ألم تعلمني تجربتي أنه ما من كلمة يمكن أن تقول قدر ما يقوله الصمت.

ولكن لئن قدر لأكيفوسا أن يواصل التزام الصمت, ولو قدر لكلماته أن تند عن توميكو ـ ألن يكون ذلك أحد تجليات قوة الصمت أيضاً? ـ إذ لم يحر المرء قولاً فإن آخرين يتحدثون نيابة عنه, كل شيء يتحدث.

ـ أتسمح لي? إن أبي يقول إنني يتعين أن أقدم لك بعض الساكي تواً, عليّ القيام بذلك على الأقل.

انبعثت توميكو واقفة.تطلعت بشكل غريزي إلى أكيفوسا, ولكن لم يكن هناك ما يوحي بأن العجوز قد تحدث.

الآن ها نحن هنا وحدنا, بعد أن غادرت توميكو الغرفة, وهكذا أدار أكيفوسا وجهه نحوي. بدا مكتئباً. ترى هل هناك شيء يود قوله? أو ربما ضايقه أن يوضع في موقف مثير للضيق أحس فيه بأنه يتعين أن يقول شيئاً? لم يكن أمامي خيار إلا أن أتحدث.

ـ ما رأيك فيما يتعلق بما كانت توميكو تقوله?

ـ ...........................

جابهت الصمت, قائلاً:

ـ أشعر يقيناً بأن بمقدورك أن تقدم عملاً يستقطب الاهتمام, مختلفاً تماماً حقاً عن (ما تستطيع الأم قراءته), وقد بدأت في الشعور بذلك فيما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع توميكو.

ـ ...........................

ـ إنك لم تكتب أبداً رواية شخصية, أو سيرة ذاتية. ربما الآن, إذ لم يعد بمقدورك الكتابة, فإن استخدام يد شخص آخر لتقديم عمل من ذلك النوع قد يسمح لك بالكشف عن أحد أقدار الفن. إنني لا أكتب عن نفسي, ولا أعتقد أن بوسعي الكتابة عنها حتى إذا حاولت ذلك, ولكنني لو كنت صامتاً, وإذا كان بوسعي الكتابة على ذلك النحو.. فلست أدري ما إذا كنت سأستشعر نوعاً من البهجة كأنما أدركت الحقيقة في نهاية المطاف... لو أنني حدثت نفسي بقولي: أهذا هو أنا? أو أنني سأجد الأمر برمته مثيراً للشفقة, فأتخلى عنه. ولكن أياً كان الأمر, فإنني على يقين من أنه سيكون مثيراً للاهتمام.

ـ ................

عادت توميكو بالساكي وبأطعمة خفيفة.

ـ هل بمقدوري أن أقدم لك مشروباً?

ـ شكراً لك. آمل أن تغفر لي, يا سيد أوميا, احتساء الشراب أمامك, ولكن حسن, شكراً لك.

ـ أخشى أن المرضى من أمثاله لا يتجاذبون أطراف حديث شائق.

ـ كنت بالفعل أواصل مناقشتنا السابقة.

ـ أكنت تقوم بذلك? في حقيقة الأمر إنني كنت أحدث نفسي, فيما عكفت على تدفئة الساكي بأنه قد يكون من المثير للاهتمام أن أقوم بدلاً من أبي بالكتابة عن كل العلاقات العاطفية التي خاض غمارها في السنوات التي أعقبت وفاة أمي, فقد حدثني بكل ما يتعلق به تفصيلاً, بل إن هناك بعض الأمور التي نسيها أبي ومازلت أذكرها.. إنني على يقين, يا سيد مينا, من أن هناك امرأتين اندفعتا إلى هنا عندما انهار أبي.

ـ نعم.

ـ لست أدري ما إذا كان الأمر عائداً إلى أن أبي ظل على هذه الحال لوقت طويل للغاية, أو ما إذا كان راجعاً إلى وجودي هنا, لكن المرأتين كفتا عن المجيء إلى هنا, ومع ذلك فإنني أعرف كل ما هنالك حولهما, فقد أبلغني أبي بكل ما يتعلق بهما.

ـ لكن أباك لا ينظر إلى الأمور على نحو ما تنظرين إليها.

كان هذا أمراً جلياً, ولكن على الرغم من ذلك فإن توميكو بدا عليها الضيق.

ـ من المستحيل عليّ الاعتقاد بأن أبي قد كذب عليّ. ويبدو أنني بمرور الزمن وصلت إلى تفهم مشاعره.

انبعثت واقفة, وأضافت:

ـ لكن لم لا تسأله بنفسك? لسوف أعدّ لتناول طعام العشاء, ثم أعود.

ـ أرجو ألا تزعجي نفسك بشأني!

مضيت مع توميكو, واستعرت قدحاً.

ـ يبدو أن غرامياتك أصبحت ملكاً لتوميكو الآن. أحسب أن تلك هي الطريقة التي يفرض بها الماضي منطقه.

ـ .......................

ربما ترددت في استخدام كلمة (الموت). وربما هذا هو السر في أنني استخدمت كلمة (الماضي).

لكن يقيناً أنه ما دام أكيفوسا العجوز باقيًا على قيد الحياة, فإن الماضي يظل ملكاً له! أم يتعين على المرء التفكير فيه كنوع من الملكية المشتركة?

ـ ربما إذا كان بمقدورنا أن نمنح ماضينا لشخص ما, فإننا سنود أن نمضي قدماً ونهبه له.

ـ ........................

ـ ليس الماضي بالشيء الذي ينتمي إلى أي أحد, ربما أقول إن المرء يمتلك الكلمات التي تستخدم في الحاضر للحديث عن الماضي. ليست كلمات المرء فحسب, فلا أهمية لهوية من يمتلك الكلمات. لا, مهلاً! باستثناء أن اللحظة الراهنة هي عادة لحظة صامتة. أليس كذلك? حتى عندما يتحدث الناس على نحو ما أتحدث الآن, فاللحظة الراهنة لا تعدو أن تكون صوتاً قوامه (أ) أو (ن) أو (م). إنها تظل مجرد صمت بلا معنى. أليس كذلك?

ـ .....................

ـ لا, الصمت بالتأكيد ليس مجرداً من المعنى, على نحو ما قلت أنت نفسك.. أعتقد أنني في وقت ما قبل موتي أود أن أدلف إلى رحاب الصمت, على الأقل لبعض الوقت.

ـ كنت أفكر في هذا قبل قدومي إلى هنا. ولكن يبدو أنه يتعين ان تكون قادراً على كتابة العامية اليابانية على الأقل, ومع ذلك فإنك ترفض أن تكتب حرفاً واحداً. ألا تجد هذا كله أمراً مزعجاً? إذا كان هناك شيء تريد إنجازه, على سبيل المثال, فإنك إذا كتبت حرف (م) إشارة إلى الماء أو حرف (ش) اشارة إلى الشاي...

ـ .................

ـ هل هناك سبب جذري لرفضك الكتابة?

ـ ....................

ـ آه, الآن فهمت. إذا كان الحرفان (م) و(ش) ونحوهما كافية لإنجاز الأمور, فإن الأصوات (أ) و(ن) و(م) لا ينبغي ألا تكون مجردة من المعنى أيضاً, والأمر نفسه ينطبق في حالة كلام الطفل الصغير, فهذا الطفل يدرك أن أمه تحبه. هكذا الأمر في روايتك (ما تستطيع الأم قراءته). أليس كذلك?

الكلمات تضرب جذورها في كلام الطفل الصغير, وهكذا فإنها تضرب جذورها في الحب. ولو أنك قررت كتابة حرف (ش) في كل مرة ترغب في الإعراب عن الشكر, ولو أنك بين الحين والآخر كتبت حرف (ت) لتعني توميكو... عليك فحسب أن تفكر في مدى السعادة التي ستدخلها عليها.

ـ ......................

ـ ربما كان حرف (ت) سيحتوي بداخله من الحب ما يفوق ما تحتويه كل الروايات التي كتبتها خلال الأربعين عاماً الماضية, وربما ستتمتع بقوة أكبر.

ـ ....................

ـ لم لا تتحدث? ربما بمقدورك على الأقل أن تقول: (آه ه ه) حتى لو سال لعابك. لم لا تتدرب على كتابة حرف (أ)?

ـ .......................

كنت على وشك المناداة باتجاه المطبخ, لأطلب من توميكو أن تحضر قلماً وبعض الورق, عندما أدركت فجأة ما أقوم به.

ـ ما الذي أفعله? إنني أخشى أن أكون فقدتُ الوعْي قليلاً... سامحني!

ـ .....................

ـ هأنت قد بذلت قصارى الجهد لتحقق الصمت, ثم أجيء أنا وأزعجك.

ـ .....................

حتى بعد أن عادت توميكو, ساورني الشعور كما لو أنني كنت أهذي, كل ما فعلته كان الدوران حول سور صمت أكيفوسا العجوز.

استخدمت توميكو الهاتف في متجر قريب لبيع الأسماك لاستدعاء السائق الذي أقلني.

ـ يقول أبي إنه يأمل أن تأتي للحديث معه مجدداً بين الحين والآخر.

ـ نعم, بالطبع.

بعد أن رددت عليها بهذا الرد الذي وجدته على لساني, أقلتني السيارة.

ـ أرى أنكما أنتما الاثنان قد جئتما.

ـ لا نزال في مطلع المساء, ولدينا راكب, ولذا فإنني أشك في أنها ستظهر, ولكن على سبيل الاحتياط...

خرجنا من النفق من جهة كاماكورا, وانطلقنا غير بعيد عن المحرقة, وفجأة بدأت السيارة تندفع كما لو كانت تطير.

ـ أهي هنا?

ـ إنها هنا. وهي تجلس بجوارك.

ـ ماذا?

تبددت آثار الكحول, في لمحة عين. نظرت خلسة إلى جانبي.

ـ لا ترعبني على هذا النحو, فلست في حال تسمح لي بمعالجة الأمر!

ـ إنها هنالك, هنالك بالضبط.

ـ كاذب. هدئ السرعة! عليك بذلك, فهذا الانطلاق خطر!

ـ إنها جالسة إلى جوارك مباشرة. ألا تستطيع رؤيتها?

ـ كلا, لا أستطيع ذلك. إنني عاجز تماماً عن رؤيتها.

قلت ذلك, لكنني فيما كنت أقوله بدأت في الشعور ببرد غامر, حاولت أن أبدو شجاعاً, قلت:

ـ لو أنها هنالك حقاً... فماذا تظن... هل أقول لها شيئاً?

ـ لا تنكت على هذا النحو! إن اللعنة تحل بك إذا حادثت شبحاً, فسوف يتلبسك. إنها فكرة مخيفة. لا تفعل ذلك! سيغدو كل شيء على ما يرام إذا لزمت الصمت حتى نقلها إلى كاماكورا.

 

ياسوناري كاواباتا