حاجتنا إلى الخيال والبراءة حسين عيد

 أنطوان دي سانت اكزوبري (1900- 1944) من كبار كتاب العالم. فرنسي الأصل. ترجمت أعماله الإنسانية" إلى مختلف لغات العالم لعل أشهرها رواية "أرض الرجال ". ولد في مدينة ليون الفرنسية، من عائلة عريقة الأصل، لكنها فقيرة، فتولت جدته رعاية أسرته. ولم يكمل أنطوان دراسته في الأكاديمية المعمارية، لأنه بعد أن أمضى سنة فيها، التحق بكلية الطيران وأصبح طيارا، وسقطت طائرته أثناء الحرب العالمية قرب مدينة ليون حيث قضى نحبه.

أما روايته "التي ترجمها عبد أما روايته "الأمير الصغير"، التي ترجمها عبد الإله سباهي، فهي رواية (خيالية تم، حول لقاء الراوي (شخص بالغ، ناضج) مع الأمير الصغير الذي جاء من كويكب بعيد. هي رحلة معايشة وامتزاج لمدة عام (زمن الهواية). بين إنسان بالغ وطفل يافع، فهي في جانب منا رحلة حب وصداقة، لكنها - على الجانب الآخر- رحلة لقاء بين الأرض (بماديتها) والسماء (بروحانيتها). بين رؤى تقولبت وسط عالم الكبار، وفق منظور توارثه البشر عبر أجيال كاملة، وترسخ بالعادات والطقوس والتقاليد، وبين بكارة المواجهة ودهشة التعرف لصغير بريء محدود التجربة. بين اهتمامات بالمال والجاه والسلطة تضيع حياة البشر بددا، وبين حب زهرة وحيدة يثير التأمل والفرحة. بين عالم تحجرت أفكاره وتحنطت معالمه، وبين عالم وليد يتشكل بعفوية ويتكون بتلقائية.

ظلال التجربة الذاتية
لم يركز الكاتب على البناء (الخيالي) للرواية، بل وضعه داخل إطار واقعي بدأ روايته وأنهاها به. ورغم أنه استمد هذا الإطار من واقع خبرته العملية، حين اضطر الراوي إلى الهبوط بطائرته هبوطا اضطراريا في الصحراء لعطب أصاب محركها (سبق أن وقعت للكاتب حادثتان فعلا أثناء الطيران، أقعدته إحداهما عن الطيران الذي يعشقه سنوات طويلة). إلا أن هذا لم يكن نقطة البداية في الرواية، بل جعل الراوي مفتتحها تجربة ذاتية واجهته طفلا في السادسة، ظلت عالقة بوجدانه، مؤثرة في شخصيته بعد أن صار رجلا. تجربة قوامها بكارة (خيال) الطفولة اللا محدود، حين قرأ كتابا كبير ملونا (قصصا حقيقية عن الغابات البكر)، حيث شاهد صورة (مدهشة) لثعبان هائل الحجم يبتلع فريسة ضخمة، فينام نصف سنة حتى يستطيع هضمها. ومن تأثير تفكيره كثيرا في الغابة ومغامراتها يرسم صورة للثعبان (من الخارج) بعد أن ابتلع فيلا، فرآها الكبار قبعة. حاول أن يوضح لهم، فرسم صورة الثعبان من الداخل وبداخله الفيل الذي ابتلعه، عندئذ نصحه الكبار بالاهتمام بالجغرافيا والتاريخ والحساب (هنا مواجهة موضوعية بين (خيال) الطفل المتدفق وواقع الكبار المادي، حتى وصل الطفل إلى اقتناع أن " الكبار لم ولن يعرفوا شيئا ومن المرهق جدا للصغار أن يشرحوا ويوضحوا كل شيء").
هكذا فقد الطفل الثقة في قدراته، وتخلى عن حلم أن يصبح فنانا، وأصبح طيارا، لكنه ظل وحيدا، يفتقد من يحادثه بصدق وإخلاص. فكان إذا ما قابل أحد الكبار- يعتقد بذكائه وقدرته على الفهم- يطلعه على رسمه الأول الذي يحتفظ به، لكنهم جميعا كانوا يجيبونه " أن تلك قبعة "، لأنهم فقدوا القدرة على (التخيل)، عندئذ كان يجاريهم في أحاديثهم حول السياسة واللعب والملابس. لقد ظل ابن السادسة داخله حيا، مؤثرا، يبحث عن أمل بتفهم حقيقي، عند كل لقاء جديد، دون جدوى!، حتى هبط اضطراريا في الصحراء، وقابل الأمير الصغير عند الفجر (كما الحلم) الذي ألح في أن يرسم له حملا، وكان فيه سر محير لا يدع مجالا للآخر للرفض، فرسم له الصورة الوحيدة التي يعرفها منذ طفولته، صورة الثعبان من الخارج، فصاح الصبي: " أنا لا أريد فيلا في جوف ثعبان " فاندهش الرجل، وتعثر في رسم الحمل، ولما كان متعجلا العودة لإصلاح عطب الطائرة، فقد رسم صندوقا صغيرا به ثلاث فتحات، وأخبره أن الحمل بهذا الصندوق، فسعد الأمير الصغير به جدا: " انظر كيف ينام حملي الصغير ".

أعشاب ضارة.. أعشاب مفيدة
إنه (خيال) الطفولة الخصب المدهش يعمل، فكان نقطة البدء لنمو صداقة بينهما. هكذا راح الصبي يحدثه عن حياته ببساطة وتلقائية، فهو يعيش على كويكب صغير تنمو به أعشاب ضارة وأخرى مفيدة، بدورها لا ترى، لأنها ترقد في باطن الأرض. إذا نمت نبتة ضارة كالبوباب يجب أن تجتث جذورها حالما يمكن تمييزها عن نبات الورد أو الأزهار، لأنك لا تستطيع أن تتجنبها في المستقبل، إذ إنها ستحتل الكويكب بأكمله، إنها تخترقه بجذورها، وقد تحطمه إلى قطع إذا كان صغيرا. إنه عمل ممل جدا، لكنه ليس صعبا (ألا ينطبق هذا على التربية؟، فحين يكون الطفل صغيرا، في مرحلة التكوين، يجب أن نراقب نموه، فإذا نمت لديه أفكار أو عادات سيئة، يجب أن تجتث فورا، وإلا سيكون تأثيرها على مستقبله مدمرا!). والمدهش أن الرجل رسم عن خطر البوبات رسما دقيقا ومتقنا حتى يحذر الأطفال من خطره " ألهمتني معرفتي بخطورته وأهمية ذلك فأبدعت شيه " (هنا يتبدى الحافز الطبيعي للفن الجيد المستمد من إحساس محدق بخطر محتمل يستند إلى (معرفة)، بما يثير (الخيال) المبدع في النهاية، ويلهمه). ثم بدأ الأمير الصغير زيارته إلى الكواكب المجاورة. على الكوكب الأول قابل ملكا " إن الأمير الصغير لم يكن يعلم أن الملوك ينظرون إلى العالم نظرة في غاية البساطة، فهم يرون أن الناس كلهم عبيد لهم " و "أهم شيء للملوك أن يطاعوا دون محاججة. وهم لا يطيقون العصيان ". لكن للملك خبراته أيضا " يجب أن نطلب من أي فرد على قدر ما يستطيع عمله، السلطة يجب أن تكون ذكية قبل كل شيء "، و " إن أصعب شيء أن تحاكم نفسك بدل أن تحاكم الآخرين، عندما تعرف كيف تحاكم نفسك بصدق فأنت حكيم أيضا".

كواكب أخرى
وفي الكوكب الثاني قابل شخصا مغرورا " إن المزهوين لا يسمعون شيئا غير المديح "!. وعلى الكوكب الثالث قابل سكيرا يشرب لكي ينسى تأنيب ضميره، " لأنه خجل من السكر "!.. وعلى الكوكب الرابع رجل أعمال كان مشغولا جدا في العد، " الكبار يحبون دائما الأرقام "، وعندما تخبرهم عن بيت جميل رأيته، فإنهم لا يستطيعون (تصوره)، هنا يجب أن تقول لهم رأيت بيتا ثمنه مائة ألف فرنك، عندئذ سيفهمون كم هو جميل. رجل الأعمال أن (هذا) لديه أكثر من خمسة ملايين نجمة، يمتلكها، "لأن أحدا قبله لم يفكر بامتلاكها "!، لذلك يعدها ويحصيها، يكتب عددها على ورقة، ثم يضعها في صندوق يغلقه بالقفل، ثم يضعه في البنك.
كان الكوكب الخامس صغيرا، لا يسع إلا مصباحا ومشعل المصباح، عندما يوقد مصباحه ترى نجمة أو زهرة تولد، وعندما يطفئ مصباحه ترى نجمة أو زهرة تهوي. إنه ملتزم. وفي الكوكب السادس قابل الجغرافي الذي يدون حكايات السياح، بعد أن يدقق معلوماتهم. دون أن يتحرك من موقعه. وكان الكوكب السابع. وآخر رحلته هو الأرض، ويكون الثعبان أول ما يقابله، ثم نادى في الصحراء، فلم يجاوبه سوى الصدى " الناس ليس لديهم سعة خيال، إنهم يرددون فقط ما يقال لهم". ثم قابل ثعلبا أوضح له معنى أليف أو ألفة أي إقامة أواصر علاقة. " إذا جعلتني أليفا، سنصبح ضروريين الواحد للآخر، ستكون أنت الوحيد بالنسبة لي في هذا العالم، وسأكون كذلك "، "ستتبدل حياتي وتشرق الشمس". هكذا صارا صديقين، لذلك خصه الثعلب بسر عادي وبسيط لحظة الوداع " القلب هو الوحيد الذي يبصر. الشيء المهم لا تراه العيون ". هنا يتذكر الراوي " عندما كنت صبيا كنت أعيش في بيت قديم جدا كانوا يتحدثون كما لو كان في البيت كنز. طبعا لم يكتشفه أحد وربما لم يفتش عنه أحد أبدا. ولأجل ذلك بقي البيت في قلوب أصحابه". إنه الارتباط والانتماء للمكان "ذلك الذي لا تراه العيون ".
لقد آذنت رحلة الأمير الصغير على الانتهاء، فقد مر عام، وسوف تكون نجمته في ذلك المساء، فوق نفسه المكان الذي هبط فيه من قبل، ونجمته بعيدة جدا، وجسده ثقيل جدا لا يمكن نقله إلى هناك، لذلك يتفق مع الثعبان (هنا تفسر مبرر أول لقاء على الأرض مع الثعبان حين يخبره أنه يرجع أي شخص يلسعه إلى الأرض التي جاء منها)، لذا يحاول أن يخفف عن صديقه: " إن ترك الجسم يشبه رمي الرداء القديم تماما. وليس في هذا ما يحزن " (أليس هذا هو الموت، حير تتخلى الروح عن الجسد، لتبدأ حياة أخرى ؟!).

الأرض.. الرمز المقدس
ويبقى ملمح أخير، حول تفسير تواتر عدد من الأرقام في الرواية، ورد بعضها مرة واحدة، وتكرر واحد منها مرتين. أما الأرقام التي وشدت مرة واحدة فنجدها في المواقف التالية: امتدت رحلة الأمير على الأرض لمدة عام (واحد): الواحد هو المنطلق المبتدأ والأساس، كما يعكس أيضا فعالية الأمير الصغير وإيجابية تأثيره، كما يوحي بإمكان استمرار تأثيره، بعد أن توحدت شخصية قائد الطائرة مع الأمير الصغير.
وفي اليوم (الخامس) عرف قائد الطائرة سر الأمير الصغير: الرقم هنا يوحي بإرداة قائد الطائرة النشطة، التي يتخفى وراءها الكاتب بعمق نظراته وقدراته الإبداعية.
كما كان ترتيب كوكب الأرض في سلسلة زيارات الأمير للكواكب هو (السابع): وهو رقم مقدس، سحري، يشير إلى نوع من الكمال، التوحد، المستقر. وقد يرمز إلى القلق أمام المجهول، الذي يمثله دورة وجدانية يمر بها الراوي..
أما الرقم (ستة) فهو الوحيد الذي تكرر مرتين: تبدأ الرواية بطفل في (السادسة) من عمره: الطفل في مفترق الطرق، والرقم يمثل الصراع بين ما يريد وما يتحقق، ويعكس التناقض بين عالمه وعالم الكبار. والمرة الثانية لتكراره، حين يستعيد الراوي أحداث الرواية بعد مضي (ست) سنوات: لقد عاد الرجل حزينا إلى عالم الكبار، لكنه مشوش، يتوزع بين عالمين: عالم حميم استعاد فيه جزءا مفقودا من ذاته، وعالم يسيطر عليه الكبار اضطر أن يعيش فيه. ولعل هذا التكرار (في البداية والمنتهى). يفسر لنا كبشر، أن هذا الأمير الصغير، موجود داخل كل منا، وعلينا أن نتعهده بالرعاية، وأن نجتث النبت الضار من حوله، لنحافظ على براءتنا وبكارة خيالنا وسط سعير الحياة.