قصة × صفحة (الخلطة السريّة) سلطان سعد القحطاني

قصة × صفحة (الخلطة السريّة)

تدافع ابن السبعين بكامل جسده المكدود على الأريكة الكبيرة, وسط الصالون الأنيق الذي رتبته زوجته, ابنة الخامسة والعشرين, يلتقط أنفاسه, بعد عناء الطريق الطويل, الذي ذرع فيه الشارع القديم, بعد أن هام على وجهه, منذ ساعات الصباح الأولى إلى قبيل أذان الظهر, وقت عودته المعتادة إلى البيت. وبعد أن أخذ نفسًا طويلاً من الهواء المختلط بعبق البخور الهندي الفاخر, ملأ به جوفه المكتئب, واشتمّ منه الروائح التي عوّدته عليها كل يوم, على عادتها في تطييب المنزل, بعد فتح النوافذ للشمس والهواء, ثم تعطيره, وهي عادة لم يعرفها قبلها. أحسّ بأن جزءًا كبيرًا من غبار الشوارع القديمة وغبار المطاحن التي تعود المرور بها يوميًا قد انزاح من صدره, لكن ماعدا ذلك لم يتغير, ولن يتغير, فأرسل نظرة حانية إلى السقف الجبسي الذي قامت بطلب عمله منذ أن قدمت إلى هذه الدار, وأطلق زفرة حارّة, كادت تحرق ما بجانبه من أوراق ومستندات بيع وشراء, رمى بها على الطاولة الساكنة في مكانها بين الأريكتين, خال أنها قد غضبت من تصرّفه - هذا - غير المعهود منه, فقد عوّدها على الهدوء والسكينة, منذ أن اشتراها جديدة ضمن الأثاث, قبل ثلاث سنوات وأربعة أشهر وثلاثة عشر يومًا, حسب تاريخ فاتورة الشراء, قام من مكانه المعتاد في كل يوم, على الأريكة الطويلة, وجلس على الأريكة الصغيرة, فلم يستطع الجلوس أمام المرآة الطويلة مثل كل يوم, لم يستطع النظر إلى قسمات وجهه بعد عودته من السوق, وكان ينظر إليه كل يوم في سعادة وهناء. وجد أن الأريكة الصغيرة لم تناسبه, ففضّل الجلوس على الأرض, واتكأ بذراعه اليسرى على حافتها, ممدّدا ساقيه, وغض بصره عنها, عندما أقبلت تحمل بين يديها صحنًا وضعت وسطه دلة القهوة وإناء التمر ومجموعة من الفناجين الصينية الفاخرة. رفع نظره في حركة استحياء, فاصطدم بصره ببريق الذهب يحيط بمعصمها, بصفرته التي تعانقت بصفرة الدلة, في انسجام تام بين الصفرتين.

استيقظ من حلمه على صوتها, وهي تقول: أظنك سافرت بعيدًا وعدت, لأنك نسيت جواز السفر في حقيبتي. قالتها بعد أن وضعت الصحن - بما فيه - بين يديه, وضحكتها تملأ الصالة, وعبق الروائح يفوح في كل الأرجاء. هه: كنت أفكر في بعض الشئون المالية عند بعض العملاء. تناول الفنجان الأول والثاني, وهو يستمع إلى حديثها العذب, ولم تحوّل نظرها عن عينيه المتعبتين. قالت: قل لي, ما مشكلتك يا صالح? لم أعهد ذلك فيك منذ أن عرفتك, يا حبيبي. حاول أن يهرب من الجواب, لكن تحت الإلحاح الشديد أجابها بقوله: هرب مجيب الرحمن خان. ضحكت حتى وقع الفنجان من يدها, وقالت: وما المشكلة إذا هرب مجيب الرحمن?!!, أنت لست كفيله, وليس له اسم مع العملاء في دفترك الخاص!! قال: المشكلة أكبر من الكفالة. قالت: إذن أنت أعطيته مبلغا كبيرًا لم تسجله, ولم أجد له اسمًا مع مَن تطلبهم!! قال: ليت الأمر كذلك. قالت: إذن ما الأمر?? تنهّد, وقال: هل تعرفين مجيب الرحمن? قالت: لا. قال: إنه صاحب المطحنة التي نشتري منها الدقيق. قهقهت بصوت عال استفزّه, لأول مرة وبعد أن استردّت أنفاسها, قالت: أظنك دخلت عهد الخرف, وهل أغلقت كل المطاحن لتأسف على ذلك الباكستاني الذي ذهب إلى بلاده? ستجد غيره كثيرًا. تنهد تنهدًا طويلاً, وقال: ما كل دقيق دقيق, يا بنت الناس!!!! ثلاث سنوات وأربعة أشهر وثلاثة عشر يومًا قضيتها مع مجيب الرحمن لن أجدها مع غيره, إنه الوحيد الذي يعرف دقيقي, وما بداخله.

 

سلطان سعد القحطاني