توائم لكوكب الأرض عبدالناصر توفيق

توائم لكوكب الأرض

مجرد احتمال وجود حياة خارج الكرة الأرضية له جاذبية خاصة ظلت تثير خيال الفلاسفة والشعراء وكتّاب الخيال العلمي, حتى بدأ الخيال يتحول إلى واقع, ودخل العلماء حلبة السباق باكتشاف الكواكب الشبيهة بالأرض والمرشحة لوجود أشكال من الحياة عليها.

اليوم أصبح العديد من علماء الفلك وجيولوجيا الكون يرجحون فرضية وجود او احتمال تطور أشكال من الحياة على عدد غير قليل من الكواكب. منها ما قد يقع في نطاق المجموعة الشمسية التي توجد فيها الأرض, ومنها الكثير جدا يفترض وجوده خارج النظام الشمسي. ووصل الأمر إلى درجة ان هذه الفرضية تحولت من مجرد مادة فلسفية سفسطائية إلى نظرية علمية تناقش في الأوساط العلمية الرصينة, شأنها في ذلك شأن النظريات المعتبرة والظواهر الطبيعية المختلفة. ولهذا نعتقد أن الأعوام القليلة القادمة ستشهد إرسال عدد كبير من الرحلات الفضائية للبحث عن تلك الكواكب التي يعتقد العلماء أنها تبدو مناسبة لتعيش عليها كائنات حية راقية أو حتى في مراحل تطور بدائية. وقد اتخذت بالفعل الخطوة الأولى في المشوار الاستكشافي المثير بفضل وكالة الفضاء الأوربية إيزا ESA. فقد أعطت إيزا أخيرا الضوء الأخضر للمهمة الفضائية المعروفة اختصارا باسم COROT لكي تنطلق في عام 2005 إلى أعماق الفضاء الخارجي بحثا عن كواكب تشبه الأرض في الخصائص المناخية وفي الظروف المعيشية الأخرى بحيث يتاح لصورة أو أخرى من صور الكائنات الحية أن تعيش فيها.

ومن المعروف أن احتمال وجود حياة خارج الأرض افترضته أولا تحليلات فلسفية منذ قرون بعيدة. ووجد هذا الاحتمال التأييد من قبل عدد من أبرز علماء القرن العشرين في مجالات الفلك والعلوم الفيزيائية. وقد نسج أدب الخيال العلمي على هذا المنوال المثير نفسه. لكن يعود الفضل إلى كتّاب الخيال العلمي في التوسع في عرض جوانب أصبحت راسخة في أذهاننا عن صور وأشكال الحيوات في الكواكب البعيدة وعن السكان المحتمل استعمارهم لجنبات الكون المترامية. ولم يقتصر الأمر على الكتابات الأدبية المجردة بل إن هناك صناعة سينمائية هائلة أصبحت اليوم تقوم على هذه الفرضية. ومنذ بزوغ عصر الألعاب الإلكترونية قبل أربعين عاما دأب المبرمجون على صياغة معارك دفاعية عن كوكب الأرض من هجمات افتراضية تغير فيها علينا الكائنات الفضائية. وفي سلسلة ستار تريك الشهيرة وأفلام الفضاء تطورت استراتجياتنا تلك إلى القيام برحلات استطلاعية لسبر أغوار سحيقة من الكون. ولعل الشعبية الطاغية التي تجدها مثل تلك الألعاب الإلكترونية أو الأفلام السينمائية تدل على مدى تغلغل ثقافة وجود جيران لنا بين جنبات الكون بين سكان الأرض على اختلاف مشاربهم الثقافية. أصبحنا اليوم نعتقد أن تلك الكائنات لابد من وجودها وإن تذرع البعض منا بزعم أن وجودها هو مجرد وجود افتراضي فقط.

وكما أشرنا لم يعد ينظر العلماء بتعال إلى هذا الافتراض التنظيري. وكان أول من تصدى لهذا اللغز المحير العلامة والعبقرية إنريكو فيرمي. والذي وضع علامة استفهام كبيرة أمام الحكمة الإلهية في وجود مليارات المجرات. كل واحدة منها تضم ملايين مؤلفة من المجموعات النجمية والتي بدورها لابد ان تضم عددًا كبيرًا من الكواكب السيارة. ولهذا اعتقد فيرمي انه ومهما كان الاحتمال في وجود صورة او أخرى من صور الحياة على أي منها صغيرا جدا فإن هذا العدد الهائل من تلك الكواكب يجعل عدد الكواكب المرشحة والمحتمل أن يوجد عليها شكل أو آخر من أشكال الحياة كبيرا جدا. هكذا صاغ فيرمي اعتقاده في وجود حيوات خارج الأرض. وهكذا أصبحت أعداد متزايدة من الفلاسفة وصناع السينما وغيرهم تشاركه هذا اليقين التنظيري أو الظن اليقيني. لكن بقي عدد غير قليل من العلماء على تحفظهم المعروف. حتى ان البعض منهم كان يخفي اهتمامه بموضوع الكواكب توائم الأرض عن زملائهم. حدث هذا مع تراوب في عام 1995 عندما ذهب إلى مؤتمر يدور حول هذا الموضوع. لكنه هناك فوجئ بوجود عدد كبير من أشهر العلماء. تغيرت الصورة تماما عندما تحقق عالما الفلك في مرصد جنيف مايكل مايور وديتير كفيلوتز من اكتشاف أول كوكب يدور حول نجم يشبه الشمس. هذا الكوكب أطلق عليه اسم بيغاسوس 51. أصل هذا الاسم معروف فهو لنوع خيالي من الخيول المجنحة.

لكن في الآونة الأخيرة ومن خلال التطورات الهائلة التي شهدتها التجهيزات الفضائية أصبح لا يكاد يمر شهر دون أن تطالعنا الأنباء باكتشاف كوكب جديد (خارج المجموعة الشمسية). ولهذا أصبحت فرضية وجود كائنات حية عليها تجد قبولا واسعا من قبل العديد من العلماء الجادين من مختلف التخصصات الفلكية والفيزيائية. ولهذا السبب قرر الأوربيون الأعضاء في وكالة الفضاء الأوربية إيزا أن يكونوا فريقا لوضع هذه المسألة تحت المنظار العلمي. ولكي يتحققوا بطرق علمية جادة من وجود كواكب آهلة فإنهم سيقومون بدراسة متأنية لتلك الكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية وبالتالي سيبحثون عن آثار قد تدلل على وجود حيوات على أي منها.

منذ عام 1995 أصبحنا نعرف بوجود مايزيد على مائة كوكب تدور حول نجوم مركزية. لكن لكي توجد الحياة على أي منها لابد من توافر ظروف مناخية ملائمة. فالكوكب المرشح من وجهة نظر العلماء لابد أن تتوافر فيه عدة شروط يمكن تجميعها في الحجم والمدار. المدار يجب ألا يكون قريبا جدا من النجم وأيضا يجب ألا يكون بعيدا جدا. والسبب معروف فالقرب الشديد من النجم يرفع من درجة الحرارة وقد يبخر الماء. والبعد الشديد يوفر ظروفا مناخية قارسة. الحجم عموما يجب أن يكون مقاربا لحجم كوكب الأرض وبذلك نضمن وجود غلاف جوي مناسب. وهناك شروط أخرى لكنها جميعا يصنفها العلماء تحت مصطلح الحزام القابل للسكنى. ففي كل مجموعة نجمية توجد منطقة تتحقق فيها تلك الشروط. اذا وجد فيها كوكب يرشحه العلماء لاحتمال أن تكون عليه صورة أو أخرى من صور الحياة.

سبر أغوار المجرات

الطريقة التي ستتبعها المجموعة الأوربية تختلف عن الوسائل التي نتبعها اليوم في رصد الكواكب البعيدة. فالمستخدم حاليا هي تلسكوبات مثبتة على سطح الأرض. أما المجموعة الاوربية فإنها ستستخدم مركبة فضاء (كوروت) وهي تلسكوب فضائي عملاق يدور خارج الغلاف الجوي ليراقب مجموعات نجمية يتراوح عددها بين 30 و60 ألف مجموعة تقع في مجرتنا (درب التبانة) وفي المجرات الأخرى. ستدور المركبة كوروت في مدار يقع على ارتفاع 800 كيلو متر فوق سطح الأرض. وستعمد إلى تصوير آلاف النجوم وسيحاول العلماء من خلال تحليل هذه الصور البحث عن أي آثار تدل على وجود كائنات حية تعيش على تلك الكواكب البعيدة. ولعلهم في بحثهم هذا يعثرون على كواكب تشبه في خصائصها المناخية والجغرافية وفي الموارد الطبيعية كوكب الأرض.

كما أشرنا فالمشروع كوروت أوربي الهوية. وتصنيعه يجري الآن على قدم وساق بمعرفة وكالة الفضاء الفرنسية بالاشتراك مع الوكالة الألمانية للطيران ورحلات الفضاء. وهما عضوان أساسيان في إيزا. ودور الوكالة الألمانية يتمثل في تصنيع التلسكوب وهو تلسكوب كبير الحجم. وأيضا ستقوم الوكالة الألمانية للطيران ورحلات الفضائية بتولي مهمة إدارة الرحلة بعد اطلاقها والتحكم فيها وأيضا ستقوم بتحليل البيانات والصور التي سترسلها كوروت إلى الأرض.

كوروت كما أشرنا هي تلسكوب فضائي كبير ينتصب في مدار حول الكرة الأرضية. السبب في الخروج بالتلسكوب إلى هذا المدار المرتفع سنفصله فيما يلي: تعتمد فكرة رصد النجوم البعيدة (لم نذكر شيئا عن الكواكب الآن) على التقاط الإشارات الضوئية الآتية منها. هذه الإشارات الضوئية تلتقطها تلسكوبات عملاقة. لكن عندما يمر أمامها (أي أمام النجوم اللامعة) أحد كواكبها السيارة يحدث اختلاف ما في صفات هذه الإشارات الضوئية. ولهذه عندما أراد العلماء صياغة اسم لهذه المهمة الفضائية وضعت فيه كلمة Transits والتي تعني حركة الاجتياز أو المرور والعبور. لكن يجب أن نشير إلى ان التغيرات التي تطرأ على شدة وكثافة الضوء المنبعث عند مرور كوكب أمام نجم بالرغم من أنها تحمل معلومات مهمة عن الخواص المناخية والتضاريس الجغرافية التي تميز سطح هذا الكوكب إلا أنها تغيرات طفيفة جدا نظرا للبعد الهائل الذي يفصله عنا. ولهذا فقدرة التلسكوبات الأرضية على قياس تلك التغيرات الطفيفة محدودة جدا أو منعدمة في أحيان كثيرة. هذا المعنى عبرت عنه هايكه بايار مديرة مشروع كوروت في وكالة الفضاء الألمانية: (على وجه الخصوص يعمل الغلاف الجوي للأرض على إضعاف التغيرات التي تعتري الإشارات الضوئية بصورة كبيرة لدرجة انه لا يمكننا التعرف عليها (أي على التغيرات في شدة الإشارات الضوئية) باستخدام التلسكوبات المثبتة على سطح الأرض). وإن تم القياس ليلا. أما اذا تمت القياسات نهارا فيعمل ضوء الشمس على جعل إمكانية تسجيلها مستحيلة.

وما يزيد من صعوبة المشكلة ان ظاهرة الاجتياز هي في حد ذاتها ظاهرة نادرة جدا. ذلك ان الكواكب البعيدة الموجودة ضمن أنظمة تشبه النظام الشمسي لكي تدخل في طور الاجتياز هذا عليها أن تتعرض لظاهرة تشبه ظاهرة خسوف الشمس المعروفة لنا. والخسوف في خارج النظام الشمسي لايمكن التنبؤ به وذلك بسبب عدم توافر معلومات عن نظام وحركة وشكل مدارات الكواكب هناك.

وعن طريق المهمة الفضائية كوروت سيحاول العلماء الأوربيون تخطي هذه الصعوبات. فإرسال تلسكوب فضائي إلى ارتفاع 800 كيلومتر خارج الغلاف الأرضي سيعمل على زيادة القدرة على التقاط صور أوضح للكواكب البعيدة وبالتالي على الحصول على معلومات مهمة عنها وخاصة عند مرورها بطور الاجتياز أمام نجومها.

تلسكوبات عملاقة للفضاء السحيق

التلسكوبات الأرضية الحالية لا توظف ظاهرة الاجتياز بسبب المشاكل التقنية التي أشرنا اليها. ما تستخدمه هو قياس السرعة المدارية للنجوم. والتي يمكن تقريبها بحالة القمر الذي يدور حول الأرض. فقوة الجاذبية للقمر تترك تأثيرا ما على حركة الأرض. قد يكون التأثير الشهير لها هو المد والجزر, ولكنها تترك أيضا تأثيرات أخرى على ثبات الحركة المدارية للأرض فتحدث بها ارتجاجات. ولهذا فدوران الكواكب البعيدة حول نجومها لابد ان يترك تأثيرات على حركتها المدارية. هذه الظاهرة هي الشئ الوحيد الذي يمكننا قياسه من فوق سطح الأرض لكي نتعرف على وجود كواكب حول تلك النجوم. عن طريق هذه الوسيلة غير المباشرة لا يمكننا الا التنبؤ بوجود كواكب غازية عملاقة يفوق حجمها حجم كوكب المشتري. مثل تلك الكواكب الغازية العملاقة لا تصلح للحياة. ويزداد الأمر صعوبة اذا علمنا أن طريقة السرعة المدارية لاتصلح أساسا لاكتشاف كواكب ذات حجم (صغير) يقارب حجم كوكب الأرض وهو الهدف الذي نسعى اليه.

ولهذا اتجه التفكير إلى إطلاق التلسكوب كوروت إلى خارج الغلاف الجوي. فعلى مدى خمسة أشهر كاملة سيوجه التلسكوب نحو 60 ألف مجموعة نجمية ليمدنا بشكل متصل بأي تغير يطرأ على الضوء المنبعث منها. بعد ذلك سيتم تزويده بعدسات أكبر ليقوم بتصوير مجموعات نجمية أبعد وأبعد. المدة التي سيمكث فيها كوروت في الفضاء ستصل إلى عامين ونصف العام.

كما أشرت سابقا فمهمة كوروت لاتمثل إلا البداية في مشوار طويل من أجل الوصول إلى الحقيقة الساطعة الدالة على وجود كائنات حية خارج المجموعة الشمسية. وتوجد بالفعل لدى وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) خطة لإرسال مركبة تحت اسم كيبلر في عام 2006 لدراسة خصائص كواكب المجموعات النجمية. أما إيزا فستطلق في عام 2008 المركبة إددينجتون. هاتان المركبتان لن تدورا حول الأرض كما هي الحال في كوروت. بل ستنطلقان بعيدا نحو الشمس من أجل الحصول على معلومات أدق عن الكواكب التي تشبه الأرض. أكثر من هذا يتجه التفكير في ناسا إلى اطلاق (الباحث عن الكواكب الأرضية) Terrestrial-Planet-Finder إلى الفضاء السحيق. أي أن التفكير الآن بدأ في التبلور بأن الكون الهائل لابد أن توجد فيه كواكب تشبه كوكب الأرض. فلا يعقل أن تكون المجموعة الشمسية هي الوحيدة في الكون الكبير التي بها كوكب يصلح للحياة. ولعل خبراء ناسا يعتقدون في وجود حياة عاقلة, أي حياة بشرية كالتي تعمر الأرض أو شبيهة بها. أما إيزا فتعتقد من خلال اعتمادها لسلسلة الرحلات الفضائية التي تقع في إطار مشروع يحمل اسم داروين في وجود كواكب وحيوات عاقلة على الكواكب البعيدة. مشروع داروين سيتم إطلاقه عام 2014 ولكن ذلك سيأتي بعد عدة رحلات تجهيزية وبعد التوصل إلى تصنيع ستة من التلسكوبات العملاقة Very-Large-Telescopes نصف القطر في كل منها سيصل إلى 150 سنتيمترًا.

هكذا نرى أن العقد القادم قد يحمل إلينا برهانا على وجود كائنات حية على الكواكب البعيدة. كما أن الأمل لا يزال يحدونا في العثور على كواكب أخرى تشبه في خواصها المناخية والمعيشية كوكبنا الأزرق, كوكب الأرض. والسؤال هو: هل اذا اصبحنا نعلم علم اليقين بوجود كواكب تشبه كوكبنا, سنستطيع الفكاك من ارتباطنا العاطفي والوجداني به وخبراتنا الحياتية عليه ونقرر مغادرته إلى أي كوكب آخر? سؤال لم يعرف حتى الفلاسفة ولا الشعراء له جوابا حتى عندما تسمعهم يصفون الشعور بالغربة بين المجتمع بالعيش في (كوكب آخر). لا تظنهم يشجعونك على هجرة الأرض بحلوها ومرها.

 

عبدالناصر توفيق 




 





رسم تمثيلي لكوكب خارج المجموعة الشمسية يحتمل أن توجد عليه مياه وبالتالي صورة من صور الحياة (مأخوذة عن إيزا)





الحصان المجنح بيغاسوس





المركبة كيبلر التي ستطلقها ناسا في عام 2006





مجموعة التلسكوبات العملاقة الستة التي ستطلقها إيزا ضمن مشروع داروين