راشد العريفي عاشق ديلمون محمد المنسي قنديل

راشد العريفي عاشق ديلمون

بدا راشد العريفي, حين رأيته للمرة الأولى, مثل كائن أسطوري ضل طريقه إلى زمننا. كان جالسًا خلف منضدة في محله الصغير وسط المجمع التجاري الضخم محاطًا بعشرات اللوحات المعروضة للبيع. قامته فارعة, وشاربه كث, وشعره لم يعرف التشذيب. بدا للحظة مثل أحد حراس بوابات الخلود وقد تسلل من تلافيف الحفريات والمدن الدارسة. كان مصرًا على أن يقاوم ما حوله من متاجر وما فيها من بضائع مغرية, محاولا أن يجذب زبائن المجمع إلى بضاعة الألوان التي يعرضها. لعله يوقظ داخلهم نوعًا من الشغف الروحي الذي ابتذلته حمى الشراء والاستهلاك. ربما كان يستمد هذا اليقين من جذور حضارية قديمة كان الفن فيها هو نافذة العالم. وكان الفنان هو المالك الشرعي لمفاتيح الأبدية.

بدا العريفي غريبا, وتعبيراته الفنية غير مفهومة. ولكن لم أفهم سر ذلك إلا عندما رأيته في بيئته الطبيعية, عندما اصطحبنا إلى متحفه الخاص الذي أقامه في بيت صغير في إحدى ضواحي مدينة (المنامة). كان عاشق ديلمون القديم قد أقام كهفه الخاص الذي يتنفس فيه هواء التاريخ المعتق بحرية.

البحرين جزيرة مدهشة حقا, ربما كانت أصغر جزيرة في العالم. تستطيع أن تجتازها من أولها إلى آخرها في أقل من ساعة من الزمن. ولكنها تحتوي ملخصا لكل هذا العالم الواسع. ففيها القرى الكامنة والمدن المنفتحة. وعيون الماء والصحارى القاحلة, وفيها الأفكار والنفوس القلقة والفنانون والكتاب الذين مستهم ريح الحداثة, وبقايا الحضارات الكامنة تحت الرمل الساخن, وشهود الزمن العربي الصعب, مفكرون وأدباء وشعراء ونفوس رحبة كأنها قارة شاسعة.

إلى هذا التاريخ الفني ينتمي فن راشد العريفي. ومنه اشتق دربه الفني رساما ونحاتا وحافظا لرموز القدماء. وفي لحظات كثيرة كنت أتخيل أن بيته الأنيق هذا ليس إلا ورشة فنية ملحقة بأحد المعابد الديلمونية القديمة حيث يأمره الكهنة كل يوم يصنع أحد الأختام. وكان هو ذلك العامل المجتهد الذي لا يكف عن النحت في الحجر والجص والخشب لعله يظفر برضا الفن العصي المنال.

لا أعرف تاريخ ميلاد راشد العريفي ولكنه يمارس الرسم بانتظام منذ أقيم معرض للفنانين العرب في كراريز عام 1966, ومنذ ذلك التاريخ وهو عضو نشط في معظم الجمعيات المهتمة بالفن التشكيلي وجمع التراث. وقد نال جائزة في معرض الربيع عام 1972 عن لوحة ديلمون التي كانت علامة بارزة على الاتجاه الفني الذي سوف يسلكه فيما بعد.

لم يكتف راشد العريفي بالمعارض المحلية والعربية ولكنه انطلق إلى آفاق جديدة حاملا سماته المميزة. اشترك في معارض في فرنسا ومونت كارلو والمانيا ونال جائزة مونت كارلو عن الفلكلور البحريني عام 1985.

كما أن فنه لم يتقيد بالجدران المغلقة ولكنه انطلق إلى الشوارع والميادين العامة ومن يتجول في شوارع البحرين يستطع أن يلمح آثار هذه الانطلاقة, وهذا التمازج مع الفضاء المفتوح. ففي متنزه عذارى, الذي كان ذات يوم حافلا بالمياه العذبة, التي تتدفق للبحرين من أنهر سرية يوجد رأس ثور ديلموني, وفي شارع الملك فيصل هناك تمثال آخر مستوحى من الحضارة نفسها, وهناك طاووس آخر يأخذ نفس المنحنى في الشارع نفسه.

ولم يتوقف نشاط راشد العريفي عند اللعب بالفرشاة والأزميل فقط, ولكنه لعب بالقلم أيضا. فقد أصدر عددًا من الكتب مثل (فنون بحرينية), و(العمارة البحرينية) و(الألعاب الشعبية في البحرين), بل إن له مشاريع كتب عن الأكلات الشعبية والحلي والرسم الشعبي.

إنه ذلك الفنان الشامل الذي لا نجد له نظيرًا هذه الأيام, أو بالأحرى هو حالة فنية تتجلى في العديد من الصور والنشاطات.

ولكن لماذا عشق ديلمون, وهي الحضارة التي لم تترك أوابد أثرية ضخمة, كما حدث في الحضارتين الآشورية والمصرية القديمة?

عشق الخلود

يقول راشد العريفي: (لقد قامت حضارة ديلمون في البحرين والمنطقة المحيطة بها وسط ظروف مناخية صعبة, ولأنها اعتمدت في معظم مبانيها على الطين فلم تستطع هذه المباني الصمود أمام تقلبات الطبيعة. لقد بقي لنا أصغر عناصر هذه الحضارة وهي الأختام الديلمونية, حوالي 1200 ختم اكتشفت حتى الآن مصنوعة من الحجر, عاشت ما يزيد على 2500 عام, ومع ذلك حافظت على الشفرة الحقيقية لهذه الحضارة, تماما مثلما انقرضت الديناصورات الضخمة, وبقيت لنا الامبيا ذات الخلية الواحدة حاملة شفرة الحياة..).

لقد ازدهرت حضارة ديلمون كما يذكر المؤرخون حوالي 3200 قبل الميلاد, وكانت البحرين هي مركز ثقافتها وهي تعد بذلك أقدم مركز ثقافي في العالم. وقد أعطت التجارة هذه المنطقة أهميتها, فقد كانت همزة الوصل بين الشرق القديم والغرب, ودامت حوالي 2700 عام, لم تترك معابد ولا كلمات مكتوبة ولا نقوشا ولكنها تركت مجموعة من الأختام النادرة هي التي تحمل لغة هذه الحضارة على صورة نقوش ورموز بالغة الدقة. ويغلب على هذه الأختام اللون الأبيض. ولا يتجاوز حجمها العملة المعدنية المتوسطة. وهي تحمل نقوشًا فريدة لأشكال الأزياء والحيوانات والسفن والشخصيات الأسطورية, مثل جلجامش الجائع إلى الخلود, والطقوس الدينية وعادات الصيد والغرس والحصد.

وعلى صغر حجم هذه الأختام فقد مثلت مصدرًا مهمًا للمعلومات, فمن خلالها عرفنا العديد من ملامح هذه الحضارة, وعاداتها, بل استطعنا أن نفهم ملحمة جلجامش في ضوء جديد, وأن نعرف العديد من طقوسها وتصرفات أهلها, وعلى جانب آخر مثلت هذه الأختام مصدرًا روحيًا وفنيًا استلهمه راشد العريفي على مدى أكثر من 35 عامًا.

لقد رأى راشد في نقوش هذه الأختام مزيجًا من أنماط فنية مختلفة تمثل حضارة العالم القديم, فمثلا امتزجت طرق التجارة وتلاقت في هذه البقعة الصغيرة من الأرض, تداخلت التأثيرات الفنية على هذه القطعة الصغيرة من الحجر. فالنقوش تجمع سمات من بلاد ما بين النهرين وحضارة وادي السند والحثيين وجنوب فارس. كانت ديلمون هي البوتقة التي صهرت الفنون الخام لكل هذه الحضارات وصاغتها في ذلك الختم الرمزي بعد أن أضافت إليه جزءًا من روحها.

لون وفكرة وخط

يلخص راشد العريفي نظرته إلى مدرسة الفن الديلموني إلى ثلاثة عناصر رئيسية هي اللون والفكرة والخطوط.

استوحى العريفي اللون من عناصر كثيرة, من البيئة المحيطة به بوصفه واحدًا من أبنائها, ومن بقايا الفخار, ومن الأحجار الكريمة والصخور, كذلك من الصحراء بألوانها الباهتة ورمالها الوردية وخضرة نباتها المائل للصفرة, من هذه الألوان صنع العريفي (البالتة) الخاصة به, بحيث تبدو الألوان عتيقة ومعاصرة في الوقت نفسه.

وعلى مستوى الفكرة, فالحضارة الديلمونية هي جزء من تعقيدات الفكر الإنساني, تتداخل فيه الطقوس الدينية مع علوم ما وراء الطبيعة والوضع الإلهي المقدس للمرأة. يقول العريفي (في عملي كفنان, حاولت أن أثبت, وأرسخ بصرامة استمرار الفكر في المدرسة الديلمونية, قد أخذت شكلا وغطاء, وقد برزت تعقيدات هذا الفن بشكل بسيط, والذي يمكن اعتباره إفرازا وجزءا من التطور الذي لحق عصرنا الحالي).

ومن الأختام استمد العريفي الخطوط, وقد استخدمها الديلمونيون القدامى من أجل رسم أشكال مستمدة من العصر الحجري للإنسان, في الكهوف وعلى صخور الجبال. وقد جاءت الخطوط الديلمونية معبّرة عن هذا الفن ومختزلة له في الوقت نفسه, فجاءت متميزة بنوع من الصفاء الممتزج بقوة التأثير والفاعلية. أي أن الخطوط كانت قوية وناعمة في الوقت نفسه. يقول العريفي: (لقد كانت القوة في أشكال الأجسام المنحوتة على الأختام وأشكالها المتباينة, والنعومة في تموّج هذه الخطوط. كما يداعب النسيم شجرة الحياة ويراقصها, وأنا كفنان ديلموني أبسط هذه الخطوط بطريقة يسهل فهمها لإنسان عصرنا وربط هذا الفن القديم بحياتنا المعاصرة).

ومن المؤكد - ورغم كل التصريحات السابقة - أن العريفي قد رسم ديلمون الخاصة به, إنه يستخدم التراث القديم كمرجع له, ولكن اعتماده الأساسي - شأن كل الفنانين - كان على مخيلته الخاصة. لقد دخلت الأشكال القديمة والأساطير وشواهد التاريخ إلى أعماقه, وأبدع هو شخصياته الديلمونية الخاصة به, إنه يخلق رجالا ونساء يأخذون سمة النقوش البدائية الأولى, ولكنها تنتمي إليه بالدرجة الأولى. إنه يعيد رواية وقائع التاريخ ويقيم بناء ديلمون الرابضة في أعماقه, وجولة أولية في متحفه الخاص تؤكد هذا الانطباع.

تمثل إلهة الحب والخلود (أناتا) سمة أساسية في العديد من لوحات المتحف, مثلما مثلت سمة رئيسية في الحضارات القديمة. فهي عشتار عند البابليين, وإيزيس عند المصريين, وهي حارسة مخازن التمور في ديلمون مثلما تحرس أجران القمح عند الفراعنة, والآلهة في خطوط راشد العريفي المجرّدة, أناس وآلهة في كائن واحد, أي أنه لا يوجد انفصال بين السماوي والأرضي, لأن صراع البقاء يشملهما, والبحث عن الخصوبة يجمعهما.

لقد تأثرت حضارة ديلمون كثيرًا بفكرة الخلود, بل إن رحيل جلجامش إليها كان بحثا عن هذه الزهرة التي إذا شرب رحيقها أمن شر الموت. ولكن تفسير العريفي للخلود هو أكثر إنسانية, فهو يراه مع مولد كل طفل, وبزوغ فسائل أي نخلة, ونضج كل سنبلة قمح.

وقد أخذ رمز شجرة الحياة من الواقع ومن العديد من الأختام الديلمونية القديمة. وشجرة الحياة ليس اسما رمزيا, ولكنها شجرة موجودة بالفعل في البحرين وسط قطعة مقفرة وجافة من الصحراء. ولكنها تستمد غذاءها من جذور وأغوار عميقة في باطن الرمل الساخن جعلها تقاوم الجفاف لمئات السنين, بحيث تحولت إلى مزار يقصده أهل البحرين بحثا عن الخصوبة والإنجاب. ولكن شجرة الحياة عند العريفي هي نخلة وأغصانها تحمل نجومًا بدلاً من ثمار التمر.

وكما ذكرنا من قبل, فإن نشاط العريفي لا يقتصر على اللوحة واللون, ولكنه متخصص في صنع التماثيل أيضًا. وقد أبدع 26 تمثالاً تتصل كلها بعصر ديلمون, وتتدرج من الحجم الكبير إلى الصغير. وقد حرص على صبها في قوالب برونزية حتى تعطي الانطباع بالقدم, وأنها تنتمي بالفعل للعصر القديم. وكالعادة تأخذ الإلهة (أناتا) إلهة الحب والخلود أشكالاً كثيرة من هذه المجموعة إضافة إلى بعض الشخصيات الأسطورية مثل جلجامش وصديقه انكبدو الذي رافقه في مغامرته بحثا عن زهرة الخلود الراقدة تحت مياه البحرين.

لقد أجاد العريفي قراءة آثار حضارة لم تترك خلفها الكثير ليُقرأ. استطاع أن يفك رموز الأختام ويدخل عالمها الرحب, وقد رسم ونحت وشكّل, منفعلا بذلك السحر الذي انبعث من هذه الأختام, وقد شعر ذات لحظة بأنه أحد أحفاد هؤلاء الفنانين الذين حفروها.

 

محمد المنسي قنديل 




الفنان راشد العريفي محاطا باللوحات في معرضه





إعادة تمثيل لأسطورة الخلود في الحضارة الديلمونية. رجل وامرأة وطفل يولد





شجرة الحياة كما وجدت في العديد من أختام ديلمون





أبدع الفنان راشد العريفي 26 تمثالا كلها تدور حول معتقدات حضارة البحرين القديمة





صندوق ديلمون الذي توجد بداخله كل مفردات هذه الحضارة كما تصورها الفنان





الغزلان. والغزالة هي رمز لإلهة الحب (أنانا) في ديلمون





جلجامش. الباحث عن الخلود يحمل أسدًا في يد ويحمل سيفا في اليد الأخرى





راشد العريفي واقفا أمام باب متحفه