بيتر كلايتز وفيلام كالف.. الطبيعة الصامتة تتحدث عبود عطية

بيتر كلايتز وفيلام كالف.. الطبيعة الصامتة تتحدث

تشكل لوحات (الطبيعة الصامتة) طائفة مستقلة في فن الرسم. لا تجوز مقارنة الواحدة منها بصورة شخصية أو بمنظر طبيعي, لا من حيث التقنية ولا من حيث المقاييس الجمالية. ولكن مقارنة (طبيعة صامتة) بأخرى تسمح بقراءة أفضل لكليهما, وتوضح القيمة الحقيقية لكل منهما.

بلغ رسم (الطبيعة الصامتة) خلال القرن السابع عشر الميلادي في هولندا ذروة في النضج لم يعرفها سابقًا, ولن يعرف لاحقًا ما يرتقي إلى مستواها. والأساتذة الذين نبغوا في هذا الفن هم فوق كل إحصاء, تبدأ لائحتهم بالرسام نيكولاس جيلز ولا تنتهي برامبرانت, غير أننا نتوقف هنا أمام اثنين يدينان بشهرتهما كاملة للوحات (الطبيعة الصامتة) دون غيرها, وهما بيتر كلايتز وفيلام كالف.

عندما بدأ بيتر كلايتز (1597 - 1661م) مشواره الفني, كان رسم الطبيعة الصامتة كما هو مكرس على أيدي الأستاذين المعاصرين فلوريس فان ديك ونيكولاس جيلز يقضي برسم بعض الأطعمة والآنية الموضوعة فوق طاولة, غالبًا ما كان يكسوها غطاء أبيض مكوي, مع أي أطعمة?

لم تصلنا من تلك الفترة أي لوحة تمثل مأدبة عامرة بأنواع فاخرة من الأطعمة. بل كان الأمر يقتصر في معظم الأحيان على الخبز والأجبان والفاكهة والمكسرات كاللوز والجوز والبندق.. إضافة إلى بعض الآنية الخزفية والزجاجية البسيطة, أي ما كان يسمى بالهولندية آنذاك (Out bijtiges), وهي وجبة خفيفة يمكن تناولها في أي وقت من أوقات النهار. وهذا ما يتناغم مع التفكير المطهري البروتستانتي الذي كان مسيطرًا على هولندا في بدايات القرن السابع عشر والتقشف الذي يقتضيه. والدليل على ذلك أن كثيرين رسموا آنذاك الأسماك المسموح دينيًا بتناولها في أي وقت حتى خلال أيام الصوم حسب التقاليد البروتستانتية, في حين أن رسم اللحوم المحرمة في أيام الصوم حسب التقليد نفسه, كان نادرًا للغاية.

اللوحة التي رسمها بيتر كلايتز سنة 1636م (طبيعة صامتة مع سمكة) تمثل قفزة عملاقة في هذا النوع من الفن. فقد اختصر الفنان عدد العناصر في اللوحة إلى ستة أو سبعة, بعد أن درجت العادة عند أساتذته على أن تتضمن اللوحة العشرات منها. والغاية من هذا الاختصار كانت جمع هذه العناصر في تركيب يوحدها, يبدو جليًا هنا أنه قائم على ضلع المستطيل, كما يبدو في التواء السمكة الموازي لاستدارة حافة الصحن المعدني الذي يحويها.

وضمن اللون الواحد الذي يطغى على اللوحة تشديدًا على وحدتها, نجح كلايتز ببراعة فائقة في رفع أكبر تحديات فن (الطبيعة الصامتة), المتمثل في رسم ملمس كل مادة من هذه المواد المختلفة: شفافية الزجاج وبرودته, لمعان جلد السمكة وطراوته, خشونة الخبز, انعكاس الضوء على الأطباق المعدنية التي تبدو من لونها أنها من معدن الإيتان دون غيره.

الرسامون الهولنديون الذين ساروا على خطى كلايتز أو عملوا على الأسس نفسها كثيرون, أشهرهم ولا شك فيلام كلايتز هيدا الذي بلغت عنايته برسم ملمس الأشياء وألوانها الحقيقية حدود الهوس. ولكننا نقفز فوقه مدة عقدين أو ثلاثة لنصل إلى فيلام كالف (1619 - 1693م) أكبر أساتذة هذا الفن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, والخليفة الحقيقي لبيتر كلايتز.في لوحة كالف هذه المسماة (طبيعة صامتة بالليمون) (1663م), نرى اختلافات كثيرة عما كانت عليه الأمور عند كلايتز. فعلى الصعيد الشكلي, نرى عناصر اللوحة وكأنها تسبح في الظلام. لا يضاء منها إلا ما يكفي لإظهار وجودها, ولا نرى أي مصدر لهذا الضوء الغامض. ومع ذلك, يمكن للمشاهد أن يتحسس بعينيه رقة البورسلين الصيني المزخرف بدقة بالغة, وصوف السجادة الفارسية وبريق الزخارف المعدنية المطلية بالذهب في الكوب الكبير, وبرودة الرخام, ورطوبة اللب الذهبي لليمونة نصف المقشرة.. ولكن, إضافة إلى هذه الاختلافات الفنية, من حقنا أن نتساءل: لماذا قلّت كمية الطعام عما كانت عليه في اللوحات قبل نصف قرن? أين اختفى الخبز المتواضع والبسيط? ولماذا تقدمت الفضة والبورسلين على الأجبان والأسماك واحتلت محلها? ومن أين أتت هذه الأشياء التي لم تظهر أبدًا قبل عقدين أو ثلاثة?

خلال العقود الثلاثة الفاصلة ما بين هاتين عرفت هولندا تطورين بارزين, أولهما كان ازدهار تجارتها مع جزر الهند الشرقية وآسيا عمومًا, الأمر الذي انعكس رخاءً اقتصاديًا كبيرًا فيها, ووفر في أسواقها سلعًا جديدة من ضمنها البورسلين الصيني الفاخر والسجاد الفارسي. وثانيهما هو تراخي قبضة المطهرين البروتستانت على الحياة الاجتماعية. فتحررت الطبقتان المتوسطة والعليا من قيود التقشف التي فرضت عليهما, وشاع ميلٌ نحو البذخ والحياة المترفة. وهكذا حلّت الفضة المزخرفة والمطلية بالذهب محل معدن الإيثان البسيط, والبورسلين الثمين المستورد محل الزجاج المصنوع محليًا. وفي الأمر ما يؤكد أن فن (الطبيعة الصامتة) رصد عمدًا أو عفوًا التحولات الاجتماعية وسجلها رغم بساطته الشديدة وخطابه البعيد عن التعقيد, شأنه في ذلك شأن كل المذاهب الفنية الأصيلة التي تستحق فعلاً هذا الاسم.

 

عبود عطية

 




بيتر كلايتز, (طبيعة صامتة مع سمكة), زيت على خشب, (63 × 49سم), 1636م, متحف روتردام





فيلام كالف, (طبيعة صامتة بالليمون), زيت على قماش, (36 × 31سم), 1663م, متحف كارلسروه