إذا تجول زائر باريس في شارع الشانزليزيه, أكبر شوارعها وأكثرها حيوية
وشهرة, أمكنه أن يقدّر أن ما لا يقلّ عن ثلث الذين يعبرون الشارع أمام ناظريه هم من
ذوي السحن الإسلامية الإفريقية والآسيوية.
فإذا تصوّر أن هذا الشارع لا يصلح كمؤشر, ولو أولي, على عدد الوافدين
الأجانب من أبناء الجنسيات الإفريقية والإسلامية, واختار شوارع أخرى لعملية سبر
الغور هذه, أو للقياس على الظاهر, فإنه سينتهي إلى النتيجة نفسها تقريبا. قد تكون
النسبة أعلى أحيانا, وقد تكون أدنى, ولكن ليس إلى الحدّ الذي يدمّر نظريتك التي
انتهيت إليها, وأنت تجوب هذا الشارع الرئيسي أو غير الرئيسي. ففي (بولفار سان
جرمان), أو في (بولفار سان ميشيل), وفي ساحة (الكونكورد), وفي ميدان الأوبرا, يتأكد
لك أن باريس مدينة عربية إسلامية, أو أنها, على الأقل, مدينة أممية تتقاطع فيها
شعوب وقارات وحضارات وثقافات مختلفة, ولكن للعرب فيها مكانة قوية ثابتة.
عروبة باريس
وتتأكد (عروبة) باريس, على أفضل وجه, إذا زار زائرها حيّ Barbès في
دائرتها التاسعة عشرة. فلا شك أنه سيفرك عينيه ليتأكد من أنه ليس في حي القصبة
بالجزائر, أو في أي قصبة أخرى من أعمال تطوان أو أصيلة أو العرائش بالمغرب. ففي
المشهد الذي تقع عليه العين في Barbès ما يؤكد للزائر أن ما يراه منقول حرفيًا عن
مشهد جزائري أو مغربي. بل هو المشهد الجزائري والمغربي عينه: سوق الخضار ذو الطابع
الشعبي هو ذاته. الحوانيت ملأى بالبضائع الواصلة للتّو من الوطن الأم. وفوق باب
الحوانيت, وُضعت عبارة (ذبح حلال), للإشارة إلى أن الذبح تم على الطريقة الإسلامية,
فإذا حانت من الزائر نظرة إلى المارة في الشارع لم يجد بينهم فرنسيا واحدا. فكلهم
جزائريون ومغاربة وتونسيون وأفارقة ومشارقة. قد لا تجد كل النساء محجبات, ولكن نسبة
المحجبات بينهن مرتفعة, سواء بين النساء المتقدمات في السّن, أو الأقل سنّا.
وتجزم بأن باريس عربية وإسلامية إذا زرت ضواحيها الشمالية, في
Courneure على وجه التحديد, وهي ضواح شبه مغلقة أمام غير المسلمين, لأنه لا يقيم
فيها سواهم, ولا يزورها أحد من الغرباء عنها إلا إذا كان على موعد مع أحد فيها, كما
كان حالي أنا. وقد استنتجت أن المترو لا يصلها, وأن التاكسي غير مألوف كثيرا فيها,
كما أنه لا يعرف مسالكها ومداخلها.
فعندما صعدت إلى سيارة تاكسي متوقفة في موقف للتاكسي في قلب باريس, وقلت
لسائقها: هاك عنواني, استعان بكتابين أمامه في السيارة ليعرف الوجهة التي سينطلق
إليها. أعياه التفتيش في الكتابين ولم يهتدِ إلى العنوان الذي كنت متواعدًا فيه مع
أحد زعماء المسلمين الفرنسيين. وعندما اعتذر مني آسفًا لأنه لم يعرف العنوان, نزلت
مسرعًا إلى سيارة التاكسي التي بعده مباشرة. سألني سائقها: ولماذا نزلت من السيارة
الأولى? فلما أخبرتُه استيقظ فيه التحدي ليهتدي إلى العنوان. فما هي إلا دقيقتان أو
ثلاث دقائق من التفتيش العصبي في الخرائط وأسماء الضواحي التي عنده, حتى انطلق. وقد
استغرقت رحلتنا هذه ساعة كاملة حتى وصلنا, ولكن بعد أسئلة كثيرة على الطريق.
في Courneure أنت في دار الإسلام لا في أي دار أخرى.
قال لي أحد القاطنين فيها إنها تضمّ مليون مسلم, عربي وغير عربي, وأن
هناك أحياء فيها, وفي سواها في ضواحي باريس أو في ضواحي المدن الفرنسية الأخرى,
منقولة شكلاً ومضمونًا عن أحياء الحنين في الوطن الأم. هناك (باماكو) مالية (من
مالي) بطقوسها وتوابعها ومواصفاتها. وهناك وجود لبعض الطرق الصوفية التي تكاد تندثر
في الكثير من بلادنا, ولكن يوهب لها حظ الانبعاث في هذه الضاحية الباريسية, أو غير
الباريسية وسط الافرنج ربما بتأثير الصدمة مع الحضارة الأخرى, وربما بحثًا عن
الهوية المهددة.
ما من مكان في فرنسا ليس فيه مسلمون, إذا صعدت إلى الشمال, إلى الحدود
مع بلجيكا, إلى مدينة ليل على التحديد, وفي جوارها ولدت طوقية سيفي الوزيرة المسلمة
في حكومة رافاران الحالية لأب من أصل جزائري عامل في الحدادة, ستجد مسلمين مهاجرين,
وبأعداد وفيرة. ستجد الحجاب حتمًا. وستجد الجامع على التأكيد. فإن لم يكن مكتوبًا
على مدخله, وبالعربية أو بالفرنسية, عبارة جامع, فإنك ستدرك أنه مكان للصلاة, وأن
هناك إمامًا يؤم المصلين. لأسباب كثيرة تعذر قيام جوامع كبيرة أو علنية, مثل جامع
باريس الكبير الذي هو من أقدم الجوامع في فرنسا, ولكن المسلمين تمكنوا من التغلب
على ذلك بتخصيص قاعات واسعة لهذه الغاية, تقع في المعامل والمصانع والشركات التي
يعملون فيها, أو خارجها. وكثيرا ما أمّنت هذه المؤسسات الصناعية أو التجارية مثل
هذه القاعات لليد العاملة المسلمة فيها.
1100 جامع
وتقول الإحصاءات إن في فرنسا في الوقت الراهن, ما لا يقل عن 1100 جامع
من هذه الجوامع غير المنظمة كما ينبغي. ولكن تنظيم أوقات الصلاة يتم بصورة عفوية
ودقيقة. في ساعات الصلاة المعتادة, يلحظ الفرنسيون حركة غير عادية بقرب إحدى
القاعات الفسيحة, الموجودة على سطح الأرض, أو في بعض الطوابق السفلية: يدلف
المؤمنون إلى هذا المكان الواحد تلو الآخر, فإذا انتهت الصلاة عادوا إلى عملهم
بهدوء.
تضم مدينة مونبلييه جامعا كبيرا اسمه جامع ابن سينا, ومساحته ثمانمائة
متر وهو يتسع لألفي مصل, وفي المدينة حوالي 50 ألف مسلم. فإذا تابعت طريقك إلى
مارسيليا, المدينة الفرنسية التي تربض على المتوسط, وجدت نفسك في (باب الجنوب) إذا
صح التعبير. فالمدينة كانت, ولاتزال, إحدى البوابات الرئيسية للجزائريين على
الخصوص. وفي المدينة أئمة ومفتون ومسلمون كثيرون تقول الإحصاءات إنهم في حدود
الثلاثمائة ألف نسمة, وفي بعض أحياء المدينة, يمارس الجزائريون والجزائريات على
الخصوص, التقاليد والعادات الوطنية في البلد الأم. فمشهد المرأة الجزائرية بلباسها
التقليدي الأسود والفضفاض والطويل, والمعتمرة الحجاب, مشهد مألوف في بعض أحياء
مارسيليا. والمألوف أيضا مشهدها وهي تضع على رأسها طبقا أو طنجرة أو أواني أخرى دون
أن تمسكها بيدها أو بيديها. فالتوأمة مكرسة بين مارسيليا ووهران وتلمسان ومنطقة
القبائل منذ زمن بعيد, ولا ننسى أن الجزائر بقيت فرنسية أكثر من مائة سنة, وأن
رابطة روحية خاصة قامت, ومازالت قائمة بوجه من الوجوه, بين الجزائر وفرنسا. وخلال
حرب التحرير الجزائرية, كانت هناك (حركة ) جزائرية منحازة إلى فرنسا سواء في فرنسا
أو في الجزائر. وتربط فرنسا بـ (الأمازيغ) روابط ثقافية قديمة ومستحدثة, إذ ساعد
الفرنسيون الأمازيغ, سواء عبر الأكاديمية الأمازيغية أو عبر سواها, على تأسيس
أبجدية, أو أحرفية, أمازيغية خاصة. ولا ننسى أن بدايات هجرة اليد العاملة الشمال
إفريقية إلى فرنسا تمت تحت وطأة الحاجات الفرنسية إليها ومنها على سبيل المثال لا
أكثر, حاجة مصانع (الرينو) و(البيجو) وسواهما من المصانع الفرنسية إلى اليد العاملة
الأجنبية الرخيصة.
في التاريخ الحديث دخل المسلمون فرنسا سلمًا لا حربًا. لم يكن هناك لا
غزو عسكري ولا غزو ثقافي. حصل غزو من نوع آخر, ولكن بأقل تكلفة ممكنة للغازي
وللمغزو على السواء. ولم يكن الأمر على هذه الصورة في القديم, عندما أوقف القائد
الفرنسي شارل مارتيل الزحف العربي في معركة بواتيه الشهيرة عام 732ميلادية.
مارسيليا مربط الخيول العربية
ولكن الوجود الإسلامي في فرنسا قديم جدا. قال لي عميد جامع باريس,
دليل بوبكر, إنه في زمن شارل مارتيل, كانت هناك قبائل من (المورو) تقيم في سهول
فرنسا الجنوبية. وجاء وقت, كان فيه للعرب أساطيل في المتوسط, وكانت مارسيليا مربطا
من مرابط الخيول العربية على الضفة الشرقية للمتوسط. وأقام عرب آخرون في جزيرة
كورسيكا. وإذا كانت الحروب الصليبية قد نقلت للفرنسي والأوربي صورة ساذجة أو بدائية
عن العربي والمسلم, زمن المواجهة بين الإسلام والنصرانية, فقد حصلت محاولات كثيرة
بعد ذلك, كان هدفها التعرّف والتقارب بين الجانبين. ومن الطريف أن نلاحظ أن بونابرت
سمّى نفسه عند غزوه لمصر وفلسطين (إمبراطور العرب), وأشاع عن نفسه أنه اعتنق
الإسلام. وفي ذلك ما فيه من سعي للرغبة بالتقارب, أو بالهيمنة على الأصح.
يمكن تتبّع هذا (الغزو) الإسلامي لفرنسا منذ احتلالها للجزائر عام
1850 وصولا إلى وقتنا الراهن. لم يكن هذا الغزو يصطدم في أكثر الأحيان بمقاومة
شبيهة بالمقاومة التي أخذت تتبدّى في وقتنا الراهن بصور مختلفة. فالمسلمون كانوا
يأتون في الأعم الأغلب للعمل في مهن متواضعة كان الفرنسيون بأمس الحاجة إلى من يعمل
فيها. وهناك نُخَب إسلامية, من أقطار الشمال الإفريقي ومن سواها, جاءت إلى باريس
لتنهل العلم, أو لتناضل في ظروف حرية غير مؤمنة في بلادها الأصلية. وهناك فرنسيون
اعتنقوا الإسلام تحت تأثير جاذبيته, أو نتيجة اطلاعهم على تراثه وحضارته. وجاء وقت,
عندما تكاثر المسلمون في فرنسا, فصلت فيه القنصلية الفرنسية في جدة بالسعودية, أحد
موظفيها المسلمين لرعاية أمور الحجاج (الفرنسيين) في مكة والمدينة. كان هذا الموظف
الفرنسي المسلم المرتبط بقنصلية بلاده في جدة, يقيم في مكة ويقدم للحجاج المسلمين
الفرنسيين كل ما يحتاجون إليه خلال زيارتهم للأراضي المقدسة.
وهذا إن دل على شيء, فعلى أن فرنسا مع أنها بلد علماني, ترعى الشئون
الروحية لمواطنيها إلى أي دين انتسبوا فهي ليست ضد الدين, أي دين.
ولكنها حريصة على الفصل بين الديني والزمني, وهذا يؤلف مبدأ من مبادئ
الجمهورية. وهذا المبدأ هو من النظام العام, كما يقال في القانون الدستوري
والإداري. فلا مجال للمسّ به.
مَن يعرف عددهم?
لا يعرف أحد على وجه القطع عدد مسلمي فرنسا, ولا حتى وزارة الداخلية
الفرنسية التي من ضمن اختصاصاتها رعاية شئون الأديان جميعها, من مسيحية وإسلامية
ويهودية وغير ذلك. فلا يوجد إحصاء رسمي لمعتنقي هذه الملة أو تلك لأن مبادئ
العلمانية لا تسمح بتقديرات اجتماعية.
ولكن هذه التقديرات الاجتماعية لا تبدّد الغموض المحيط بهذه المسألة.
ولكن يمكننا, بداية, الانطلاق مما كتبه الباحث آلان بوير في كتابه (الإسلام في
فرنسا) حول عدد المسلمين بحسب بلدانهم الأصلية. وقد اعتمد بوير على تحقيقات
(المؤسسة الوطنية للإحصاء والدراسات الاقتصادية) INSEE, و(المؤسسة الوطنية للدراسات
الديموغرافية) INED, وهي التالية:
- مسلمون من أصل عربي مغربي 2,900,000
- منهم: جزائريون 1,550,000
- مغاربة 1,000,000
- تونسيون 350,000
- مسلمون عرب من الشرق الأوسط 100,000
- مسلمون غير عرب من الشرق الأوسط (مع الأتراك) 315,000
- مسلمون أفارقة (من إفريقيا السوداء) 250,000
- فرنسيون اعتنقوا الإسلام 40,000
- طالبو لجوء ومهاجرون غير شرعيين 350,000
- آسيويون 100,000
- آخرون 100,000
- المجموع 4,155,000
ولكن مياها كثيرة مرت في النهر, كما يقولون, منذ أصدر آلان بوير كتابه
هذا عام 1998. فأربعة الملايين ومائة وخمسة وخمسون ألف نسمة, التي انتهى إليها,
لحقتها زيادات كثيرة في السنوات الست التي أعقبت صدور هذا الكتاب. أولاً هناك
التكاثر الطبيعي للسكان, وهناك ثانيا التكاثر الآخر الملحوظ في الأسر الإسلامية,
وهو تكاثر تزيد نسبته على نسبة التكاثر لدى الملل والنحل الأخرى, من نصرانية
ويهودية. وهناك هذا الزحف الذي لا يتوقف ليل نهار من بلدان المنشأ إلى بلدان المقصد
في أوربا الغربية.
وخلال تجوالي في فرنسا, واستماعي إلى الرسميين الفرنسيين, وكذلك إلى
المثقفين الفرنسيين والعرب المقيمين فيها, تبين لي أن الوقوف عند رقم ستة ملايين
نسمة كعدد قابل للاعتماد لمسلمي فرنسا, هو رقم له الكثير مما يؤيده. ولكن علينا
الاحتراس لجهة اعتبار هؤلاء جميعا من المواطنين الفرنسيين, ذلك أن بعضهم, وهم بحدود
ثلاثة ملايين, حائز على الجنسية الفرنسية ويُعامَل كأي فرنسي آخر. أما ثلاثة
الملايين الآخرون, فهم بين مقيم في فرنسا إقامة قانونية شرعية, ومقيم إقامة غير
قانونية. وهذه الفئة الأخيرة تتزايد مع الوقت نظرًا للحرية النسبية في الخروج
والدخول عبر منافذ حدودية كثيرة. هناك إمكانات دائمة (لترتيب) وضعية الإقامة, وكذلك
هناك فرص كثيرة للعمل. وكل ذلك يؤدي بنا إلى القول إن السنوات القليلة المقبلة قد
تزيد أو ستزيد, على الأرجح, عدد المسلمين الفرنسيين الحالي. فإذا صح هذا التوقع,
فإننا قد نشهد, بعد ربع قرن من اليوم, ولادة ديموجرافية جديدة لفرنسا, بموجبها يكون
عدد مسلمي فرنسا في حدود ربع السكان أو أكثر.
ظاهرة نمو الإسلام
الفرنسيون العاديون, من اليسار ومن اليمين على السواء, يراقبون ظاهرة
نمو الإسلام في فرنسا بحذر. في الأصل, هم ينظرون إلى الإسلام نظرة تتراوح بين الخوف
حينا والانبهار حينا آخر. امتزج تاريخ فرنسا بتاريخ مسلمي الشمال الإفريقي وكذلك
بتاريخ المسلمين الأفارقة, بعد الصحراء, امتزاجا ساهم بلا شك, وباعتراف الفرنسيين
أنفسهم, بتكون الإمبراطورية الفرنسية وازدهارها. وكذلك بتبوؤ فرنسا مكانتها
العالمية الحالية لم تكن فرنسا لتحقق ما حققت من فتوح استعمارية لولا هذا الجندي
المسلم الذي عاد, فيما بعد, ليساهم في تحرير فرنسا من النازية, ومن بوابة الجنوب,
مدخله الطبيعي إليها. يقول مسلمو فرنسا إن الشائع هو (النورماندي) والدور الأمريكي
في تحرير فرنسا سنة 1946. ولكن غير الشائع, أو المسكوت عنه عن عمد وقصد, هو الدور
الإسلامي المتمثل بألوف مؤلفة من الجنود المغاربة والجزائريين والسنغاليين وغيرهم
من الجنود المسلمين الأفارقة, الذين شقوا طريقهم, من الجنوب نحو باريس وساروا
لاحقًا في شوارع باريس المحتفلة بالنصر. فمسلمو فرنسا ليسو مجرد عمال أو طارئين,
وإنما هم أيضًا جزء من النسيج الوطني الفرنسي. فعلى فرنسا إذن أن تحتضنهم وأن
تعاملهم كما تعامل أبناءها سواء بسواء.
في باريس, لا تستطيع وأنت تشاهد هذه الفسيفساء من الأقوام والشعوب
القادمة إليها من أكثر من قارة, إلا أن تتذكر بغداد العصر العباسي. فكما وفدت إلى
بغداد أجيال كثيرة من شعوب تابعة لها, كالتركستان وبلاد ما وراء النهر, وعاشت فيها,
ونبغ بعض أبناء تلك الشعوب في كنف الإسلام, كالفارابي والبخاري والسمرقندي, تشهد
باريس في تاريخها المعاصر, هجرة الكثير من أبناء الشعوب التي كانت تستعمرها. في
باريس ما لا يُحصى من الكتّاب والأدباء والشعراء والرسامين والموسيقيين القادمين من
بلدان إفريقية أو غير إفريقية كانت في السابق مستعمرات فرنسية. وباريس لا تضيق
ذرعًا بهؤلاء لأن خراجهم, بحسب تعبير الخليفة العباسي هارون الرشيد, يعود إليها.
فالمرء - كما يقول بديع الزمان الهمذاني - حيث يوجد لا حيث يولد, حيث يثبت لا حيث
ينبت. ثم إن باريس تدرك أيضا أنها, إن حرصت على النقاء, وتشبثت بالأصالة, وطردت
هؤلاء الأجانب من جنتها, أو من جنتهم التي يعيشون فيها, بعيدا عن صحاريهم, فإنها لن
تكون سوى بحيرة رائقة أو جدول قرير. لن تكون باريس هذا الأوقيانوس الذي يهدر ليل
نهار وتضجّ فيه باستمرار آلاف التيارات, ولو أن سطحه تطفو عليه أحيانا كثيرة
الطحالب والأعشاب والأخشاب وربما الأوساخ.
ويبدو أن فرنسا حسمت أمرها وقررت أن تكون هذا الأوقيانوس بكل ما فيه
ومن فيه, ولو أن لذلك ثمنا باهظا تدفعه. والدليل على ذلك أن فرنسا اتخذت مثل هذا
القرار لحرصها على (الفرنكوفونية) التي ليست في التحليل الأخير سوى أداة سياسية
وثقافية فرنسية. إنها استمرار لإمبراطورية ما بعد زوال الإمبراطورية. ولكن لكل شيء
ثمنه.
مجتمع للاندماج
رغم الضيق الذي يبدو على جبين فرنسا أحيانا من هؤلاء الوافدين
الأجانب, ونقصد المسلمين بالدرجة الأولى, فإن فرنسا تقول بصريح العبارة إن كل ما
يهمها هو أن يندمج هؤلاء بالمجتمع الفرنسي الذي يعيشون فيه اندماجًا تامًا, وأن
يعملوا وفق مبادئ الجمهورية, وألاّ يظلوا متمايزين عنه, وغرباء فيه.
(الاندماج) وبالفرنسية L’INTEGRATION هو الوصفة السحرية التي تطلبها
فرنسا من المسلمين بوجه خاص. ولكن وصفة فرنسا صعبة وغير قابلة لإعطاء أي نتيجة في
بعض الأحوال, وبخاصة بالنسبة للجيل الأول الوافد.
فهذا الجيل يعتبر نفسه في الأعم الأغلب مهاجرا عن بلده, ولو أنه حصل
على الجنسية الفرنسية. الهدف من هجرته, برأيه, هو جمع المال لبناء منزل له في قريته
أو مدينته ببلاده, وكثيرا ما يصعب على الجيل الأول الذي نتحدث عنه, القيام بأي
خطوات في الاندماج المطلوب, لأنه لا يتحدث الفرنسية أحيانا, لأن قلبه مع بلده أو مع
القضايا العربية والإسلامية, وفي طليعتها قضية فلسطين. القلب عربي وإسلامي ولو أن
الإقامة خارج دار الإسلام.
ولكن الاندماج ولو شكّل وصفة صعبة بالنسبة للجيل الأول, يمكن أن يحصل
بصورة تلقائية مع الجيلين الثاني والثالث. ذلك أن الأجيال الجديدة التي تربّت في
مناخ فرنسا, لاتعرف وطنا آخر لها. وليس لديها الحنين إلى المدينة, أو القرية,
المغربية أو الجزائرية, فإذا زارتها مع الأهل, لم تجد فيها ما يجده الأهل, وطالبت
بالعودة سريعا إلى فرنسا حيث الأصدقاء والصديقات, ومطارح المرح والتسلية
والذكريات.
مع الأجيال الجديدة
ويمكن إعطاء مثل لمسته بنفسي على هذا النزوع لدى الأهل ولدى الأجيال
الجديدة, فقد التقيت في باريس السيدة فاطمة الزهوي وهي مغربية من الدار البيضاء
ومتزوجة من مغربي أيضا. تشغل منصب (رئيسة الرابطة الفرنسية للمرأة المسلمة) ومقرها
إحدى ضواحي باريس.
سيدة مثقفة في حوالي الأربعين من عمرها تجيد العربية كما تجيد
الفرنسية. وهي محجبة, وهذا دليل على إيمانها بالتقاليد, وعلى إخلاصها لدينها. قالت
لي إن لديها أربع بنات, كبراهنّ واسمها منتهى في السادسة عشرة من عمرها, يتلقين
العلم في إحدى المدارس الفرنسية. لم تنكر فاطمة أبدا مغربيتها. (وُلِدت في المغرب
وأهلي هناك. وبي حنين إليهم وإلى بلدي الأصلي. ولكن فرنسا وطني أيضا ووطن بناتي إذ
ليس لهن وطن سواه. نحن نذهب إلى المغرب في العطلة الصيفية ولكن وطن أولادي هنا. ولا
أرى إمكان رجوع هؤلاء الأولاد إلى المغرب, لا بد للإنسان من أن يتجذر في التربة
التي يعيش فيها. ولا بد لنا جميعا في النتيجة أن نندمج في المجتمع الفرنسي).
وأضافت فاطمة الزهوي: (نحن المسلمين ليس لنا أي إشكالية مع العلمانية,
ولكن العلمانية التي تقبل الآخر. إن تاريخ فرنسا هو تاريخ ثقافات متعددة متنوعة,
وكل ثقافة تحمل شيئا جديدا).
وقالت لي فاطمة إنها ولدت في المغرب لا في فرنسا, وإنها قدمت إلى
باريس لتكمل دراستها, ولكنها أكملت هذه الدراسة وتزوجت أيضا. ومع حرصها على ارتداء
الحجاب, بدت فاطمة مسلمة عصرية منفتحة إذ قالت لي إنها مع قراءة سمحة للإسلام تنأى
عن التعصب والحرفية: (إن بعض المسلمين يقعون مع الأسف في قراءة سطحية أو حرفية
للنصوص. ومثل هذه القراءة بعيدة عن روح الشريعة الغراء, وعن روح المعاني العالية
وروح الحرية التي يحملها الإسلام. وفي جمعيتنا نحاول أن نطبق تعاليم ديننا, وأن
نواصل حياتنا هنا كأي مواطن فرنسي آخر, ولا نجد تعارضًا في ذلك).
على أن هناك من مسلمي فرنسا من خطا خطوات أسرع من خطوات فاطمة الزهوي
نحو الاندماج. ويحضرني الآن مثل (طوقية سيفي) التي تشغل الآن منصب وزير التنمية
المستدامة في حكومة رافاران, وهي مسلمة من أصل جزائري.
قابلت طوقية سيفي في مكتبها بالوزارة الواقعة في Arenue Sègw التي لا
تبعد أكثر من مائتي متر عن مقر اليونسكو بباريس. كنت شديد الفضول لسماع تجربة سيدة
عربية مسلمة عملت محامية في السابق, كما أصبحت نائبا في البرلمان الأوربي. قبل أن
أدخل إلى مكتبها قابلت مستشارها في الوزارة (فرحاتي عمّوا) وهو جزائري مثلها.
فرحاتي المسئول في إحدى المنظمات الإسلامية الفرنسية العلمانية لا يختلف في شيء عن
أي فرنسي آخر. يخاطبك بفرنسية لا تختلف في شيء عن أي فرنسية أخرى. ولعله لا يعرف
العربية بتاتًا. ويمكن قول ذلك عن طوقية سيفي, التي لم يَبْدُ عليها أنها تعرف
العربية. وخلال الحديث لم يَبْدُ أن هناك فرقًا يُذكر بينها وبين أي وزيرة فرنسية,
أو أي وزير فرنسي آخر. فعبارة (الإسلام) وردت في حديثها مرة أو مرتين فقط عندما
سألتها عن مستقبل الإسلام في أوربا الجديدة, أو عن إمكان قيام شراكة أوربية/عربية
وإسلامية. وقد وجدت أنها تفضل استخدام عبارة (المهاجرين) على عبارة (المهاجرين
المسلمين). وأذكر أنني عندما ذكرتُ لاحقا اسم طوقية سيفي أمام الحاج التهامي إبريز,
وهو من زعماء الجالية الإسلامية في فرنسا, بدا عليه الامتعاض وعدم الرضا, معتبرًا
أن المسلم لا يجوز أن يخجل من إسلامه, وأن مثل هؤلاء الوزراء ليسوا نموذج المسلم
إذا أصبح وزيرًا.
قالت لي طويقة سيفي إنها ولدت في مدينة هومون شمال فرنسا, وأنها البنت
الكبيرة لأسرة مؤلفة من عشرة أولاد, وأن والدها, المهاجر الجزائري عمل حدادًا في
قلب المدينة الصناعية المسماة المدينة ذات المائة مدخنة. كان الوالد صارما في
تربيته لأولاده. حرص على تعليمهم وكان يهدد المتقاعس منهم بأخذه إلى العمل معه إن
رسب في امتحانه المدرسي.
وقد تأثرت بحديثها عن والدها الذي اصطحبها معه ذات يوم إلى مقر عمله
لحضور حفلة تكريم له بعد عشرين عامًا قضاها في العمل. (بقيت ذكرى ذلك اليوم حية
متوهجة في نفسي, ودفعتني لاحقا إلى النضال في صفوف المهاجرين من أجل تحسين ظروف
عملهم. وقادني ذلك إلى العمل السياسي لاحقا).
ويبدو أن نظرية الجيل الأول الذي يظل الحنين يغالبه إلى بلده, وتحول
الجيل التالي عن ذلك واندماجه في مجتمعه الجديد, قد تمت بحذافيرها في بيت طوقية
سيفي. فالوالد الذي توفي عام 1973 إثر مرض في القلب ناتج عن ظروف العمل القاسية,
دُفن في الجزائر كما أوصى لا في فرنسا. أما أولاده, ومنهم طوقية, فقد اندمجوا
اندماجًا تامًا في المجتمع الفرنسي, ولدرجة نسيان حتى الجزائرية الدراجة. تعرّف
طوقية عن نفسها, لمن يسألها, بأنها (فرنسية من أصل جزائري). لا كلمة واحدة عن
الدين, أو عن الإسلام, ولكنها في ذلك لا تخرج عما هو سائد في المجتمع الرسمي
الفرنسي, أو الغربي عموما لهذه الجهة. إن لوران فابيوس, رئيس الحكومة الفرنسية
ورئيس مجلس النواب الفرنسي, في عهد فرنسوا ميتران, لم يذكر يومًا في وسائل الإعلام
أنه يهودي أو من أصول يهودية. إنه فرنسي لا أكثر ولا أقلّ, ولولا مبادئ الجمهورية
الفرنسية, ومنها الديمقراطية لما أمكن لا للوران فابيوس ولا لطوقيه سيفي, أن يصلا
إلى مراكز المسئولية.
الحياد الإيجابي
تبرز العلمانية في فرنسا واحدة من بين الأمور التي لا يمكن لأحد المسّ
بها. وتعني العلمانية من جهة, الحياد الإيجابي من جانب السلطة العامة إزاء
المعتقدات, وتوفير الضمانة القانونية, كما تعني من جهة ثانية توفير الضمانة
القانونية لحرية التعبير والممارسة الدينيتين.
وهذا يعني استقلال الدولة المطلق في المجال الزمني, وحرية ممارسة
العبادة للجميع في مجتمع تعددي وديمقراطي, والرغبة في تحديد دور كل فئة اجتماعية
وثقافية, وكل مؤسسة في إطار فصل الدين عن الدولة. وحياد الدولة القانوني يعني أنها
لا تنظر إلى مدى التزام المؤمنين, وأنها لا ترى فيهم سوى مواطنين لهم حقوق وواجبات
في المتحد السياسي الوطني. وواجب الدولة منع الكنيسة من الاستيلاء على السلطة (بما
في ذلك التعليم).
ولكن (الحياد الإيجابي) يعني أن من حق الدولة, بل من واجبها, التدقيق
في النشاط الديني باعتباره عملا اجتماعيا, وأن عليها منع الكنيسة من ممارسة أي نوع
من الرقابة على الضمائر, وأن عليها منع كل محاولة لاحتكار المعرفة والحقيقة, وأن
عليها منع مصادرة الحرية, وبهذا تؤكد العلمانية حرية الدين والمعتقد والمعرفة, دون
معاداة رجال الدين وهو نوع من الأصولية المعكوسة. ثمة إذن رابط لا ينفصم بين
العلمانية والديمقراطية التعددية ودولة القانون.
انطلاقًا من هذا الفهم الراسخ للعلمانية, تعاملت فرنسا مع موضوع
الحجاب. قالت فرنسا إن الحجاب, ومعه كل مظهر ديني آخر للأديان الأخرى, يُحظر فقط في
مدارس الجمهورية, وهي مدارس رسمية. في حين أنها لم تحظره في مدارس أخرى, كالمدارس
الكاثوليكية أو سواها. ونشير هنا إلى أن فرنسا بدأت تشهد في الفترة الأخيرة تأسيس
(مدارس إسلامية) أولاها كانت في مدينة ليل. وهذه المدرسة تعطي, بالإضافة إلى
المنهاج الرسمي, دروسًا في الدين الإسلامي.
ولكن الفرنسيين اجتهدوا, ويجتهدون الآن في البحث عن صيغة يقبلها
المسلمون, منها الحجاب الملطف أو المخفف الذي لا يغطي الرقبة. ويمكن معالجة ستر
الرقبة عن طريق الفستان نفسه. وكل هذا يدل على أن فرنسا ذات التاريخ العريق مع
البلاد العربية والإسلامية, وذات المصالح الاقتصادية الواسعة معها على الخصوص, لا
تسعى إلى مشكلة, بل إلى تسوية.
معاهد أئمة لفرنسا
على أن الفرنسيين لا يخفون حنقهم على بعض الأئمة المسلمين الذين
ترسلهم بلدانهم الأصلية لتأطير المهاجرين وتقديم الخدمات الدينية لهم, إذ يعمد
هؤلاء إلى استخدام خطاب لا يختلف في شيء عن خطب أيام الجمعة في مدينة غزة مثلا, أو
في مخيمات عين الحلوة ونهر البارد في لبنان.
من أجل ذلك بدأ الفرنسيون منذ عشر سنوات تقريبا يفكرون بتأسيس معهد أو
معاهد فرنسية إسلامية غايتها تخريج أئمة مسلمين بدلاً من الاعتماد على الأئمة الذين
ترسلهم الحكومات العربية, أو الأئمة الوافدين من البلاد العربية والإسلامية
والحاملين لأفكار تتعارض في الأعم الأغلب مع سياسة السكينة والأمن والاندماج التي
يطلبها الفرنسيون. وقد بدأ هذا التفكير يأخذ طريقه إلى التنفيذ في عهد شارل باسكوا
وزير الداخلية الفرنسي الأسبق, فنشأ معهد سُمّي (معهد التعليم العالي الحرّ/ الإمام
الغزالي), وأعطي صفة رسمية ونشأت بعده معاهد أخرى لتخريج الأئمة من أبرزها معهد
ديني يقع في قلب مسجد باريس خرّج في السنة الفائتة دفعة أولى من الأئمة, ويخرّج هذا
العام عشرة أئمة جدد يجري توزيعهم لاحقا على مساجد فرنسا. أما من حيث تكوينهم
الثقافي والديني, فإن البرنامج الذي يُعطى لهم خلال الدراسة يتضمن, فيما يتضمن,
علوم القرآن, الفقه, الفكر الإسلامي, السيرة النبوية, واللغة العربية لمن لا يعرف
العربية منهم إذ يكون بعضهم من أصول غير عربية, كالأتراك أو الهنود أو
الأفارقة.
ويبدو أن الفرنسيين, ومعهم زعماء الجالية الإسلامية في فرنسا, لم
يصلوا إلى فكرة تخريج أئمة في فرنسا ذاتها, إلا بعد (متاعب) كثيرة سبّبها أئمة
وافدون من الخارج للسلطات الفرنسية وللجالية الإسلامية على السواء, من شأنها إما
زعزعة الأمن والسلامة العامة في فرنسا, أو تشويه صورة الإسلام في الغرب.
والواقع أن مساجد فرنسا التي تُعدّ بالمئات, والمنتشرة في كل مكان فيه
مسلمون, شهدت وتشهد, عددا من الأئمة غير المكونين تكوينا دينيا وثقافيا كافيا, وغير
الملمّين بحدود مهماتهم وصلاحياتهم أحيانًا.
وقبل أشهر قليلة اضطرت السلطات الفرنسية إلى إبعاد إمام مسجد يقع في
ضواحي ليون دعا في خطب له في المسجد, كما في أحاديث إلى جرائد ومجلات فرنسية, إلى
ضرب المرأة عندما لا تطيع زوجها, معتبرًا أن اللجوء إلى هذا الضرب فريضة إسلامية.
أفتى هذا الإمام, واسمه عبد القادر بوزيان, بأن من الواجب على المسلم ضرب امرأته
إذا لم تُطعه.
بل إنه, لفرط حرصه على الدقة ومخافة أن يُتَّهم بالجهل, أو بأنه يُلقي
الكلام على عواهنه, قال إن على الرجل أن يضرب على الكتف وعلى الرجلين, ولكن عليه أن
يتفادى ضربها على الوجه حتى لا يشوّه وجهها. وقدّم بوزيان لائحة مراجعة على صحة ما
يقوله. وكان الفرنسيون يسمعون ذلك في فضائياتهم, أو يقرأونه في صحفهم ومجلاتهم ولا
يصدقون. ولأن في فرنسا فرنسيين من غلاة اليمين لا يحبون الإسلام, وفرنسيين من أصول
يهودية واسعي النفوذ فيها, وفي إعلامها المرئي والمسموع, وغير المرئي والمسموع, فمن
الطبيعي أن يعقب مثل هذه (الفتاوى) حملات واسعة تتقصد تشويه صورة الإسلام وتطلب
تدخل السلطات الرسمية. وقد تدخلت هذه السلطات بالفعل فقررت طرد هذا (الإمام) بداية
ثم أحالته إلى المحاكمة. وتجري الآن محاولات لتسوية المسألة بعد أن أعاد بوزيان
حساباته: فهو متزوج من سيدتين اثنتين وله منهما 16 ولدا. وبحسب التقديمات
الاجتماعية الرسمية, يحصل بوزيان في مطلع كل شهر على مبلغ مالي كبير لا يمكن أن
يحصل عليه أبدا خارح فرنسا. لذلك تدخل الكثيرون وتبلورت تسوية لحل قضيته: تتابع
المحكمة المختصة النظر في الموضوع, يعلن بوزيان أمامها أنه إنما كان بصدد شرح بعض
النصوص لا غير, وأنه هو بالذات لا يدعو أبدا لضرب النساء: وضرب النساء, وغير
النساء, يؤلف جرما جزائيا في فرنسا.
ويرى د. محمد أركون أن هؤلاء الأئمة الوافدين من أقطار الشمال
الإفريقي, ومن مصر, ومن سواها , لا يفهمون الثقافة المدنية العصرية السائدة في
فرنسا باسم العلمانية, ولا يعرفون إلا الخطاب الإسلاموي الذي يقول: (حذار أن تكفروا
مع الكفّار).. ولكن أركون ليس متشائمًا إزاء المستقبل, (فوضعُ الإسلام في أوربا
سيتغيّر طبعًا, ولكنه سيستغرق وقتا طويلا).
تمثيل المسلمين
انطلاقًا من مثل هذه المتاعب, ومن سواها, سعت السلطات الفرنسية إلى
قيام تمثيل لجميع مسلمي فرنسا يمكنه أن يساعد في ضبط التسيّب الحالي, كما في تنظيم
شئون المسلمين ورعاية قضاياهم, على غرار ما هو معمول به بالنسبة للملل والنحل
الدينية الأخرى في فرنسا, ومنها اليهود. وعندما طُرحت مسألة تمثيل المسلمين, توجهت
الأنظار نحو مسجد باريس, باعتباره أكبر مساجد فرنسا وأكثرها شهرة, كما توجهت
الأنظار نحو الجمعيات الإسلامية المنتشرة في المدن الفرنسية كما في الريف الفرنسي.
وكانت هذه الجمعيات قد كوّنت اتحادًا يضمها جميعا. بدأ الاتحاد بسبع جمعيات, ولكنه
يضم اليوم مائتين وخمسين جمعية. ومنذ تأسيسه قبل 21 عامًا, سعى الاتحاد إلى
المحافظة على هوية الجالية الإسلامية, وخدمة قضاياها, والعمل على دمجها في المجتمع
الفرنسي ولكن دون ذوبان, أي مع المحافظة على هويتها الإسلامية وتحت شعار: (نحن
فرنسيون, ولكننا مسلمون), وهو شعار مواز للشعار الذي تتبناه الملل والنحل الفرنسية
الأخرى, ومنها اليهود. كما كانت سياسة الاتحاد واضحة تجاه تمثيل المسلمين
الفرنسيين: (يجب ألا يُفرض عليهم من يمثلهم, لا من داخل فرنسا ولا من خارجها).
وترجمة ذلك تقضي بألا تتدخل السلطات الفرنسية في اختيار من يمثل المسلمين
الفرنسيين, كما تقضي بألا تتدخل سلطات بلدان المنشأ, في الشمال الإفريقي أو في
سواه, في هذا الاختيار. ويرأس اتحاد الجمعيات والمنظمات الإسلامية الحاج التهامي
إبريز وهو مغربي. أما السكرتير العام للاتحاد فهو د. فؤاد العلوي, وهو مغربي
أيضا.
وبالفعل شهدت فرنسا في العام الفائت, اثر عملية انتخابية واسعة في
صفوف الجالية الإسلامية, اختيار هيئة تمثل عموم مسلمي فرنسا تُعرف باسم (المجلس
الفرنسي للديانة الإسلامية) تنبثق منها مجالس جمهورية.
ويرأس هذا المجلس في الوقت الراهن د. دليل بوبكر.
أما نائب الرئيس فهو د. فؤاد العلوي, يليه نائب رئيس ثانٍ هو د. محمد
البشاري. وينبثق عن هذا المجلس 25 مجلسا جهويا في المقاطعات. وكل مجلس له
الاختصاصات نفسها, واللجان نفسها, والهيكلة نفسها التي يتوفر عليها المجلس الوطني.
ومن اللجان لجنة تختص بالتعليم, ولجنة مكلفة بالإرشاد والسجون والمستشفيات, ولجنة
مختصة بالأئمة. وكل مجلس جهوي له صلاحية الاتصال المباشر بالمحافظ وبقية السلطات
وما إلى ذلك.
مسجد باريس
عندما يُذكر موضوع الإسلام في فرنسا, يتداعى فورًا إلى الذهن مسجد
باريس الكبير الذي أنشئ عام 1926 والذي يعتبره الكثيرون أقدم جامع في فرنسا. ولكن
المسجد الأقدم في فرنسا هو في الواقع جامع (نور الإسلام) الذي افتتح في شهر ديسمبر
عام 1905 في مدينة سان دينيز دو لا رينيون. ومئذنة هذا الجامع الرائعة, وهي على
الطراز الهندي, تتبدّى بوضوح في شارع الماريشال لكلرك, في قلب هذه المدينة. ولكن
لأن جامع باريس شُيّد في العاصمة وفي منطقة محاذية للحي اللاتيني, كما ارتبطت به
أحداث ومناسبات تاريخية, فقد أصبح في الذهن العام مرادفًا للجامع الأول والأشهر في
فرنسا. ولا ننسى أنه بات على مدار أكثر من ثلاثة أرباع القرن رمزًا للإسلام السمح
المنفتح على الحضارات والثقافات, كما يمارس في الوقت نفسه نفوذا معنويا كبيرًا على
بقية مساجد فرنسا. وبالرغم من تبعية هذا المسجد, من الناحية الإدارية للجزائر, وهي
تبعية تقوى وتضعف بين وقت وآخر, فإنه يبقى الصرح الذي يؤمّه الرسميون الفرنسيون
عندما يودّون مخاطبة المسلمين. فقد زاره الرئيس شيراك عام 2002 أثناء حملته
الانتخابية وألقى فيه خطبة. وزاره أيضا نيقولا ساركوزي وزير الداخلية السابق في عام
2002. والمعروف أن ساركوزي في عداد الطامحين إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية في
انتخاباتها القادمة. وآخر مَن زاره من هؤلاء الرسميين الفرنسيين الكبار جان بيار
رافران رئيس الحكومة, وألقى فيه خطبة شهيرة عن الإسلام والعلمانية (17
أكتوبر2003).
من أجل أن (أجاور) جامع باريس, خلال إقامتي فيها, نزلت في أحد فنادق
الحي اللاتيني, قرب السوربون. لقد أُخذت بهذا الجامع, قبل أن أراه, من حكاية رواها
الأديب اللبناني الكبير الراحل أمين نخلة في بعض ما كتب. قال أمين نخلة إن مسيحيًا
لبنانيًا من بلاد الجبل درس الطب في باريس وأقام فيها طويلا, وتشبع من لغة
الفرنسيين ومن تاريخهم, وطرائق الأخذ والاعطاء عندهم, وبات يعرف من أشيائهم أكثر
مما يعرف من أشيائنا, كان يسير ذات مرة في شارع (كاتر فارج) على مقربة من جامع
باريس, بعيد الخاطر عن هذه الأرض اللبنانية, إذا تكبيرة تنطلق من المئذنة, وتتعالى
على الجلبة الباريسية, فأُخذ صاحبنا ببغتة حلوة ملأت فؤاده. قال: (فلم أتمالك أن
حوّلت طريقي, وغشيت باحة المسجد حيث قضيت بعض الساعة, بين تلك القناطر والقبب وكأني
في سربي, في لبنان, انظر إلى منازلهم, وأصغي إلى أحاديثهم, على أن بيني وبينهم
سماوات ومفازات).
ولعل الفرق بيني وبين ذاك اللبناني في بلاد الجبل الذي روى أمين نخلة
خبره, أنني قصدت هذا الجامع عن عمد لا بمحض الصدفة. فقد وجدت أن من حسن التدبير أن
أبدأ بزيارته قبل سواه من مواضع المسلمين بفرنسا, للبركة والصلاة أولا, وثانيا
لاستذكار تاريخ طويل له في رعاية المؤمنين. وكذلك لمعرفة نوع الفكر الذي يدور في
أرجائه, سواء في موضوع الحجاب أو في مواضيع أخرى حسّاسة مثلا. ولأنني كنت أعرف,
بصورة دقيقة أو غير دقيقة, أن الشيخ دليل بوبكر هو إمام هذا المسجد, فقد اتصلت
هاتفيًا قبل أيام بالسيدة المكلفة بشأن السكرتارية فيه, وطلبت موعدًا لمقابلة الشيخ
دليل.
ولكن المفاجآت توالت عندما كنت أدلف إلى مكتب الشيخ دليل في المسجد
وفي الموعد المحدد. فقد توقعت أن أجد شيخًا أو إمامًا يلبس لباس الشيوخ والأئمة على
غرار شيوخ وأئمة بلادنا. فلم يكن الشيخ دليل يلبس مثل هذا اللباس, بل كان يلبس
لباسًا آخر هو اللباس الإفرنجي المعروف. وتوقعت أن تكون له لحية, وعلى غرار الشيوخ
والأئمة أيضا, فإذا به حليق, وإذا به - وهنا الأهم - يحمل حملة ضارية على اللحى
وأصحاب اللحى, ويقول وسط ذهولي إن أمور المسلمين لن تستقيم إلا بعد حلق ذقون
المشايخ ونزع حجاب النساء!
وتوالت المفاجآت, فبعض من في المجلس ناداه باسم دكتور, فظننت أنه
دكتور في علم الاجتماع أو في علم التاريخ, وعندما سألت من بجواري عن (فصيلة) شهادته
الجامعية, قيل لي إنه دكتور في الطب, ومتخصص في القلب, وإنه ليس إماما لجامع باريس,
بل هو عميد له. فلقبه الرسمي هو عميد مسجد باريس, كما هو رئيس المجلس الفرنسي
للديانة الإسلامية, فهو إذن رجل دنيا لا رجل دين, ولو أنه يمارس دنياه انطلاقًا من
مكان عبادة, كما هو زعيم سياسي أكثر مما هو أي شيء آخر.
على أن أكثر ما فاجأني هو أن عميد مسجد باريس, الجزائري الأصل,
والمفروض بحكم منصبه ومهماته أن يعرف العربية, بل أن يجيدها إجادة تامة, لا يعرف
العربية, فهو يتحدث عربية محكية شبيهة بعربية بعض المستشرقين أو السيّاح الأجانب,
وعربيته هي مزيج من الدارجة الجزائرية, ومن المفردات الفرنسية التي تتسارع فورا إلى
لسانه عندما يعجز عن التعبير عمّا يريده بالعربية, فتأتي الفرنسية هنا لتنجده, ولأن
الفرنسية مستنفرة دائما للنجدة, فإن من الممكن القول إنه يتحدث بفرنسية ممزوجة ببعض
المحكية الجزائرية. وقد سعدت عندما تحول بعد حوالي نصف ساعة من لقائنا إلى الحديث
بفرنسية صرفة, لأني بتّ أفهمه أكثر.
ولكن هذا التحول لم يتم عندها بلا سبب, فالسبب كان دخول مندوب وزارة
الداخلية الفرنسي عليه للتباحث في قضايا تهمّ الفريقين. وقد أحب أن يُسمع الموظف
الفرنسي الحديث الذي يدور بينه وبين صحفي عربي قادم من المشرق العربي سمّاه أكثر من
مرة ب(أخي في الإسلام والعروبة القادم من لبنان ومن بلاد الشرق), لإجراء تحقيق عن
أحوال المسلمين في فرنسا, ولكن ما لا أستطيع أن أنساه في مجلس د. دليل, هو خلطه غير
الموفق بين اللغتين العربية والفرنسية, وهو خلط يشاطره إياه مثقفون عرب كثيرون في
فرنسا!
على أن النجدة تأتي د. دليل لا من لغة راسين وفولتير وفكتور هيجو
وحدها, بل تأتيه أحيانًا من تراث الإسلام القديم.
فعندما وصل حديثنا إلى موضوع الحجاب, ذكر عبارة (أسباب النزول)
بالعربية, معتبرًا أن أسباب النزول لا تتعامل بقسوة مع هذه المسألة, أي لا تعتبرها
فرضًا واجبًا. إنها مسألة شخصية لا أكثر. أما القانون الفرنسي, وهو قانون دولة
علمانية, فإنه لا يجبر أي امرأة مسلمة لا على لبس الحجاب - بالطبع - ولا على نزعه.
ولكن في المدارس العلمانية التابعة للدولة, فإن القانون يحظر أي إشارات دينية صارخة
تدل على هوية صاحبها أو صاحبتها. وخارج إطار هذه المدارس, الأصل هو الإباحة لا
المنع.
وصف د. دليل بوبكر إمام مسجد (فينسيو) عبد القادر بوزيان الذي أباح
ضرب المرأة غير المطيعة لزوجها, انصياعًا لأوامر الدين, بالإمام الجاهل الذي لا
يجوز له أن ينصّب نفسه مفتيًا أو شارحا للنصوص.
وعندما سألته عن مستقبل الإسلام في أوربا أبدى ملاحظات ذكية, جديرة
بالاهتمام. قال إن على أوربا نفسها أن تقرر نوع العلاقة التي تريدها مع الإسلام.
فإما أن تعترف بالإسلام انسجاما مع تقاليدها الديمقراطية التي عُرفت بها, وإما أن
تتنكر لهذه التقاليد وتقع أسيرة التعصب والراديكالية والرفض. ولكننا لاحظنا أن
أوربا تخشى أن تؤدي سياسة السماح التي تتبعها مع المسلمين المقيمين فيها, إلى
محاولة هؤلاء إقامة (دولة ضمن دولة), أو إقامة (غيتوات) إسلامية, داخل دولها, وهذا
ما لا قدرة لها على احتماله. إن أوربا لا يمكنها أن تسمح بجسم غريب أو بأجسام غريبة
داخلها.
لذلك يدعو دليل بوبكر إلى تجنب الإسلام الراديكالي, ونصرة الإسلام
العصري المستنير الذي دعت إليه (مدرسة الإصلاح) في أواخر القرن التاسع عشر وبداية
القرن العشرين, ممثلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وهتف بي وهو يحمل عصاه
ليودعني: (إذا أردت أن تكون مسلما عصريا, فعليك أن تكون علمانيًا. لا يتناقض
الإسلام مع العلمانية, ودون هذه الأخيرة لا يوجد عصرنة). وكل ذلك باللغة الفرنسية
التي يجيدها كالفرنسيين أنفسهم, ولاشك أنه واحد منهم, قلبًا وقالبًا, تمامًا كما
كان والده الشيخ حمزة بوبكر في عمادة مسجد باريس طيلة ربع قرن. والمعروف أن الشيخ
حمزة بوبكر, الجزائري الأصل, كانت له مواقف سلبية تجاه الثورة الجزائرية التي حكمت
عليه بالإعدام, وجرت أكثر من محاولة في فرنسا لاغتياله, ولكنه تصالح في سنواته
الأخيرة مع السلطات في بلاده. وعندما توفي عام 1995 أقيمت له جنازة رسمية في مسقط
رأسه بالجزائر, البيض سيدي الشيخ...
الإسلام الآخر
على أنني تعرفت في فرنسا إلى إسلام آخر يتميز بالنظرة الواقعية إلى
طبيعة العمل في بلد أجنبي, ويبحث في صيغة تحفظ للمسلم المهاجر إسلامه, كما تحفظ
للبلد المضيف, وقد بات محل الإقامة الدائم, حقوقه كاملة.
يتميز هذا الإسلام, الفرنسي عن سواه في أنه يوافق على (الاندماج) وهي
الفكرة العزيزة على الفرنسيين, ولكنه يرفض (الانصهار) أو (الذوبان) كليًا, أي
التخلي عن الإسلام كدين وثقافة. فلسان حاله أمام وزارة الداخلية الفرنسية, وأمام
المجتمع الفرنسي هو التالي: (نحن فرنسيون, ونقرّ أمام الله والضمير أن فرنسا هي
وطننا النهائي, وأن كل الفرنسيين, بلا استثناء, هم إخوة لنا في المواطنية, ولكننا
مسلمون, كما المسيحيون مسيحيون, واليهود يهود).
يتمثل هذا الإسلام, أو هذا الفكر الإسلامي, بأكثر من تجمّع إسلامي
فرنسي, ولكنني وجدت أفضل من يعبّر عنه, ويترجمه, هو (اتحاد الجمعيات الإسلامية)
الذي يبدو أنه يمثل شريحة واسعة, إن لم يكن الشريحة الأوسع, من مسلمي فرنسا. 250
جمعية إسلامية توافقت على قيام اتحاد له نهج معروف, ومعترف به من الدولة في آن.
أثناء وجودي في مقر هذا الاتحاد بإحدى ضواحي باريس, التي تضم مئات الآلاف من
المسلمين, اطلعت على مقال كتبه وزير الداخلية الفرنسي السابق نقولا ساركوزي, عند
تركه هذه الوزارة أخيرًا إلى وزارة أخرى, يقول فيه إن هذا الاتحاد يعمل في إطار
القوانين الفرنسية, وإنه خلال عمله في الوزارة لم يجد أن لهذا الاتحاد سياستين أو
وجهين, وقادته أناس محترمون.
التقيت في مقر هذا الاتحاد قطبه أو زعيمه أو أمينه العام الحاج
التهامي ابريز, وهو مغربي الأصل, نفس الحمية والحماسة للإسلام التي يجدها أحدنا
عندما يلتقي إسلاميين تربّوا في إطار الثقافة الإسلامية, ويحفظون الكثير من أدبيات
السلف, ويعتزّون بذكرى الرسول (صلى الله عليه وسلم). ويبدو أن التهامي ابريز ليس
جديدًا في العمل الإسلامي الحركي, بدليل أنه حدّثني عن فضل الشيخ فيصل المولاي,
عليه وعلى إخوانه المسلمين في فرنسا, عندما كان مقيمًا فيها قبل سنوات طويلة, وقبل
أن يعود الشيخ فيصل إلى لبنان. والظاهر أن تفكير التهامي ابريز وإخوانه وأنصاره كان
تفكيرًا إسلاميًا عامًا لم يكن قد اهتدى بعد إلى بوصلة سوية ومتكاملة للعمل
الإسلامي في بلد يقع في خارج دار الإسلام. فقدّم الشيخ فيصل لهم الكثير من الأفكار
حتى توصلوا إلى اعتماد هذه البوصلة.
شرح لي التهامي إبريز ظروف العمل الإسلامي في فرنسا. قال إن الإسلام
في فرنسا يجب أن يتحرّر:
- من التأويلات التي لا تناسب البيئة الفرنسية, وقد تناسب بيئات أخرى.
نحن نعتبر أن من الخطأ تبنّي مدرسة فقهية, أو حركة معينة بذاتها. نحن ننظر في ما
قدمته هذه المدارس, ولا مانع عندنا في أن نأخذ أفضل وأنسب ما عندها ليرفع عنا الحرج
في هذه البلاد.
- من التقاليد التي تعيق الاندماج كما تعيق تطبيق الدين. إنها تقاليد
ليست من الدين ولكن المسلمين أعطوها قيمة الدين. نحن مع هذه التقاليد إذا كانت لا
تعرقل اندماجنا, كما لا تعرقل تديننا.
- من التبعية للخارج وللأجنبي معا, سواء كانت تبعية أيديولوجية أو
فكرية أو اقتصادية أو غير ذلك. نريد أن نبني بكل حرية تصوّرنا للدين في هذه البلاد.
نقدّر مصالحنا التي يجب أن تعلو على كل الاعتبارات, وبعد ذلك نتعامل مع قضايا الأمة
الإسلامية بما لا يتعارض مع هذه المصالح.
لهذا نقول للمسلمين هنا إن اليهود الفرنسيين هم إخواننا في المواطنة,
وإخواننا حتى في النسب والدين, وعلينا ألاّ نحمّلهم وزر شارون وما يفعله بإخوتنا في
فلسطين, شارون شيء وهؤلاء المواطنون شيء آخر.
وذكر التهامي إبريز الآية الكريمة التي تقول {ألاّ تزر وازرة وزر
أخرى}: (يجب أن نميّز بين اليهودي والإسرائيلي. وبالتالي يجب أن نربي أولادنا على
العدل. لماذا? من أجل أن نكيّف الإسلام في هذه البلاد, وكي لا نعرّض مصالح البلاد
هنا وكيان المجتمع إلى الاهتزاز, ولأمر آخر هو أن نقول للجميع إن المسلمين هم عامل
استقرار في هذه البلاد, لا عامل زعزعة للاستقرار, وأنت تعلم - ولاشك - أن أعداء
الإسلام هنا يحاولون دائمًا أن يستغلّوا أي حادث ليشهّروا بنا وليوغروا صدر الدولة
علينا, وليقولوا للمواطنين الفرنسيين إن المسلمين هم خطر عليكم في الحال وفي
المآل).
يبدو التهامي إبريز متفائلاً بمستقبل الإسلام في فرنسا وفي أوربا,
ولكن من ضمن شروط عدة أولها أن يعمل المسلمون في فرنسا على نشر فهم صحيح للإسلام.
لإسلام يرفض التعصب والانغلاق والتسيب, لإسلام يدعو إلى الانفتاح, والاندماج
بالمجتمع والتعامل معه.
ثاني هذه الشروط قبول التعددية والتعايش في إطار بوتقة واحدة. (نحن
مسلمون نؤمن بسيدنا عيسى عليه السلام, ونؤمن بسيدتنا العذراء مريم عليها السلام,
سيدتنا العذراء مثال للطهارة والقداسة والسمو, نحن لا نتهم سيدنا عيسى بأنه ابن
زنا, ولا والدته السيدة العذراء بأنها كانت زانية, لعنة الله على مَن قال هذا
الكلام. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا
كذبًا ).
حول مثل هذه الأفكار والمعاني, دار الحديث مع التهامي إبريز الأمين
العام لاتحاد الجمعيات الإسلامية والمشارك الأساسي في (المجلس الفرنسي للديانة
الإسلامية), المنتخب من المسلمين والمعترف به من السلطة الفرنسية.
التهامي إبريز يدعو مسلمي فرنسا إلى أن يعيشوا العصر وتحولاته, وأن
يخرجوا في فرنسا مما يُسمّى بـ (مساجد تحت الأرض), إلى المساجد الجميلة الكبيرة
التي يدخلها النور. (ونريد أن تكون مساجدنا في فرنسا مفتوحة لغير المسلمين, كما
كانت عبر التاريخ, وسيلة للتواصل. نريد أن يدخلها غير المسلم, لا نريد أن نقبله في
مساجدنا وحسب, بل إن نصحبه حتى يرجع إلى المكان الذي قدم منه, هذا ما يقوله ديننا,
ونريد أن نساهم في الحياة العامة, أن نبني المؤسسات الاقتصادية, والإعلامية, وأن
نخوض تجربة المدارس الحرة الخاصة, ونريد المشاركة السياسية, لماذا لا ندخل الأحزاب
السياسية, نحن ننصح بدخول الأحزاب كي نعطي الصورة الفضلى عن الإسلام).
وينتقد التهامي إبريز بعض المسئولين الفرنسيين المتحدرين من أصول
إسلامية, ولكن الذين يتنكّرون لدينهم: (ليس لهؤلاء لسان واضح. طبعا لا نريد أن يكون
الإنسان الواضح متزمتًا. نحن مع الإنسان الواضح الذي يعرف سماحة الإسلام, والذي
عندما يسأله أحد عمّا إذا كان مسلمًا لا ينزعج)!
وحول موضوع الحجاب والضجة الواسعة التي أثيرت حوله سواء في فرنسا أو
في الخارج, يقول التهامي إبريز:
نحن لم نُفهم في موضوع الحجاب, كما لم نقم باللازم حتى نعرّف الآخرين
ماذا يعني الحجاب بالنسبة إلينا. الحجاب عندنا هو مجرد التزام بالدين, الحجاب عندهم
رمز لتخلف المرأة, للحجر عليها, رمز لضعفها ولانتقاص قيمتها.
قلنا لهم: تعالوا نتحاور حول هذا القماش. لا تحكموا على الظاهر,
دافعنا عن وجهة نظرنا بحكمة وعقلانية, تدخل رئيس الجمهورية على أساس ألاّ يُسمح
وألاّ يُمنع. قلنا لهم: إذا كان هناك سكوت, فالأصل في الأمور الإباحة. الإنسان حر
إلا إذا جاء ما يقيّد حريّته, ونحن سندخل في حوار من أجل التوصل إلى حل وسط: ترك
الحجاب الكبير الذي يضرب على العنق والقبول بحجاب معقول, ونريد أن تلبس بناتنا
اللباس العصري لا اللباس المستورد من هنا وهناك الذي لا يناسب الفتاة المسلمة في
بلد كفرنسا.
وخطا التهامي إبريز خطوة أخرى على صعيد بلورة تصور لعمل إسلامي في بلد
غير إسلامي: (نحن مع الانتماء للدين ومع الوفاء للوطن في آن. نحن وطننا فرنسا ونريد
أن يكون المسلمون هنا أوفياء مع هذا البلد. لأول مرة طلبنا من الأئمة أن يخصصوا
دعاء خاصا لفرنسا في يوم الجمعة: اللهم اجعل هذا البلد آمنا, واجعلنا فيه من
الآمنين)!
قد لا يجوز هذا النمط من التفكير الذي عبّر عنه التهامي إبريز في مقر
اتحاد الجمعيات الإسلامية بإحدى ضواحي باريس, بنظر الكثيرين, صفة الفكر الإسلامي
العصري أو المعاصر. إنه في الواقع نوع من الفكر البراغماتي الذي يبحث عن حلول
ومخارج لمسلمين يعيشون في بيئة غير إسلامية, في بيئة مسيحية من حيث الجذور الثقافية
والاجتماعية, وعلمانية بالمعنى المعروف للكلمة, ولأن عدد هؤلاء المسلمين الفرنسيين
لا يقل في وقتنا الراهن عن ستة ملايين نسمة, وهو في تزايد مستمر, فلاشك أن أسبابا
كثيرة تستدعي البحث عن صيغة لتنظيمهم وإيجاد قواسم مشتركة بينهم وبين مواطنيهم
الآخرين. وما انتهى إليه التهامي إبريز وصحبه هو عبارة عن اجتهاد على هذا الصعيد,
كما هو محاولة لقطع الطريق على أخطار قد يتعرض لها هؤلاء المسلمون المهاجرون, فيما
إذا نهجوا نهجا آخر مخالفا للنظام العام وللقوانين المعمول بها. ولاشك أن هذا
الاجتهاد الذي بات يؤلف القاسم المشترك بين الغالبية العظمى من الزعامات الإسلامية
في فرنسا, يساعد المسلمين الفرنسيين على مزيد من التجذّر في البيئة الفرنسية ويقيهم
خطر إبعادهم إلى بلدانهم الأصلية, وهو ما يودّون جميعًا ألاّ يتعرضوا له, فمما لا
يخفى على أحد أن المسلم الفرنسي, ومعه المسلم الأوربي, إذا خُيّر بين الاندماج في
المجتمع الأوربي الذي يعيش فيه, والعودة إلى المجتمع الذي قدم منه, فلاشك أنه يؤيد
الاندماج, والأسباب كثيرة.
ثم إن الإسلام لم يعد عبارة عن وجود عابر أو مؤقت, أو محدود في فرنسا
وفي أوربا, فهو موجود بقوة في ألمانيا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وفي سواها. هناك
ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم ينتشرون في بلدان أوربية مختلفة وبحاجة إلى مَن يقدم
لهم فكرا مختلفا عن فكر أبو حفصة المصري, وعن فكر هذه الجهة المتطرفة أو تلك. فكر
يراعي ظروفا مختلفة عن ظروف الوطن الأم, وبيئات مختلفة تمامًا عن بيئته.
ولكن هل يمكن الحديث عن (إسلام فرنسي) و(إسلام أوربي)?
الإنتلجنسيا العربية أو الإسلامية المقيمة في باريس تشكّ في ذلك. هناك
مسلمون في أوربا, ولكن لا يمكن الحديث عن تجربة تاريخية اسمها الإسلام الفرنسي, أو
الإسلام الأوربي, على غرار الإسلام العربي أو الإسلام الفارسي أو الإسلام
الهندي.
المفكر محمد أركون, الأستاذ في السوربون والشخصية المرموقة في الأوساط
الثقافية الفرنسية, قال خلال لقاء مطوّل معه في باريس إنه من غير الممكن القول إن
هناك إسلامًا فرنسيًا أو أوربيًا لأن هؤلاء المسلمين الموجودين في البلدان الأوربية
معظمهم من العمال الذين لم تسنح لهم فرص حتى يتكوّنوا أو يتخرّجوا على مستوى
التعليم الثانوي. فمعظمهم يجهلون اللغة الفرنسية, أو الألمانية أو سواهما, ويأتون
إلى هنا لاكتساب المعاش لا غير.
وفي باريس التقيت السفير اللبناني السابق لدى الأونسكو د. صلاح
ستيتيه, وهو شاعر كبير يكتب أشعاره بالفرنسية, يقيم صلاح ستيتيه في فرنسا منذ سنوات
بعيدة, وهو أحد نجوم الفرنكوفونية فيها. وقد ذكّرني ونحن نتحدث عن هموم الهجرة
الإسلامية إلى أوربا الغربية بكلمة للمستشرق الفرنسي الكبير الراحل جاك بيرك. كان
جاك بيرك يأمل بأن يكون الإسلام في الغرب خميرة للنهضة بالنسبة لمسلمي الشرق, أي
للعرب ولسواهم من المسلمين. ولكن أمل جاك بيرك لم يتحقق لأن تخلف بلاد المنشأ طارد
هؤلاء المهاجرين في مهاجرهم. وبدلاً من أن يقضي هؤلاء عليه, لم يتمكنوا من التحرر
منه في بلاد المقصد, أي في أوربا, (والآن, ولأسباب موضوعية في المجتمع الفرنسي,
هناك مسلمون رافضون لهذا المجتمع, تماما كرفض أبناء هذا المجتمع لهم). أما الحل,
بنظر ستيتيه, فيتمثل في موقف يقفه هذا المسلم الموجود في أوربا, فإما أن يساير
الأكثرية في نظامها وقوانينها وقيمها الاجتماعية, وإما أن يعود إلى بلاده.
وفي موضوع الحجاب, لابد للمسلمين من الخضوع لقانون وافقت عليه السلطة
التشريعية الفرنسية. (بإمكاننا كمسلمين أن نحتفظ بعقيدتنا كاملة في قلوبنا. فلماذا
نصرّ على هذا المظهر الخارجي? إن الحجاب يقيم حجابا بيننا وبين الحضارة التي أتينا
لننهل منها, ولابد - بنظري - من خضوع الأقلية لرأي الأكثرية, وإلا تعيّن علينا
الرحيل إلى بلداننا الأصلية).
وقد سمعت في باريس من مثقفين فرنسيين أن جزءا من المجتمع الفرنسي لم
يكن يشاطر الحكومة الفرنسية رأيها في مسألة الحجاب, وعندما سألت عن السبب, قال
هؤلاء: إن عدد الطالبات المسلمات في المعاهد العلمانية الرسمية لا يتجاوز بضع مئات.
وهؤلاء الطالبات عندما يستمعن إلى دروس عن عصر الأنوار الفرنسي والأوربي, ومنها
دروس عن فولتير وروسو وويدرو, سيتخلّين من تلقاء أنفسهن عن الحجاب, ويعدن إلى لباس
لا يختلف عن لباس زميلاتهن سواء في الثانوي أو في الجامعة. ولكن ما ليس باستطاعة
أحد في المجتمع الفرنسي سماعه هو الحديث عن ضرب الزوجات.
وأضاف هؤلاء المثقفون الفرنسيون أن باستطاعة المسلمين الفرنسيين تحقيق
كل طموحاتهم في فرنسا وبقية الاتحاد الأوربي عن طريق مؤسسة عريقة في تقاليدنا اسمها
الديمقراطية, هي المؤسسة نفسها التي أوصلت عشرات المواطنين المتحدرين من أصول
يهودية أو أجنبية إلى السلطة. ومن هؤلاء إدوار بالادير الأرمني أو التركي الأصل
الذي وصل إلى رئاسة الوزارة وكاد يصل إلى رئاسة الجمهورية. (فهل من مصلحة المسلمين
أن يشهروا تميّزهم بوجوهنا, أم أن يتماهوا معنا ويتحدوا بنا?).
أود أن أشير إلى أن باريس, على الرغم من عروبتها وإسلامها, فإنها تشكو
من قلة الجسور الثقافية وغير الثقافية التي تربطها بالعالم العربي. انتهى الآن عصر
المستعربين الفرنسيين العظام كلوي ماسينيون, عاشق الحلاج, وجاك بيرك عاشق الإسلام
ومترجم معاني القرآن إلى الفرنسية والبحّاثة الرائع في دراسة المجتمعات الإسلامية.
وآخر هؤلاء هو المستعرب أندريه ميكيل دارس المتنبي والناظم أشعارًا بالعربية.
وفرنسا تبحث الآن عن روح جديدة تدبّ في الدراسات الإسلامية في معاهدها
وجامعاتها.
والجسور الثقافية العربية في باريس محدودة ب(معهد العالم العربي)
وبثلاثة مراكز ثقافية تابعة لسفارات عربية, وعلى الرغم من النشاط الذي يضطلع به
المعهد, وهذه المراكز, فإن الحاجة ماسّة إلى مزيد من التواصل وضخ الحيوية في
علاقتنا مع بلد امتزج تاريخه بتاريخنا, وحاضره بحاضرنا, ونكاد نقول مستقبله
بمستقبلنا.
استخلاصات
ويمكننا بعد ذلك استخلاص عدة نتائج مستقاة من ملاحظات ميدانية, منها
أن الإسلام يعيش في أوربا في فضاء تعددي وعلماني, وهو يمتاز بتنوع الأصول
الاجتماعية والاثنية التي يتحدر منها أفراده وجماعاته, وكذلك بتنوع أساليب التعبير
عن الحياة الدينية, سواء على مستوى تفسير المراجع العقائدية والمعيارية أو على
مستوى الحياة العملية المعيشة, وبتعدد علاقة الأفراد والجماعات بهويتهم.
ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي, تشهد فرنسا ولادة (تديّن إسلامي
جديد) ينتمي اتباعه إلى الشباب المغربي الأصل, الفرنسي المولد والهوية. وليس تصور
الشأن الديني وفهمه لدى هؤلاء الشباب المسلمين ناتجًا عن التديّن الجماعي التقليدي
للأهل. بل ناتج عن (عقلية دينية جديدة) تبني علاقات جماعية تتجاوز الجاليات القديمة
القائمة على الصلة الاثنية (الأصل والمنطقة واللهجة المحلية). في هذه التجمعات
الجديدة يعيد الشباب بناء الشأن الديني لا على القواعد القديمة, بل اعتمادًا على
أشكال أخرى للتجمع والتفاعل. ويتجلى هذا في فرنسا بالجمعيات الدينية الجديدة
المبنية على قاعدة محلية فرنسية, كحال (جماعة التبليغ). ففي كل مدينة وكل ضاحية وكل
حي نجد جمعيات يمارس أعضاؤها الجهاد الاجتماعي عبر سلسلة من النشاطات تتنوع بين
المساعدات المدرسية والنشاطات الرياضية, ويرغب المسئولون عنها أن يكونوا فاعلين في
الاندماج, ووسطاء بين بعض الفئات الاجتماعية والنظام السياسي, وبخاصة على المستوى
المحلي.
بصورة عامة هناك ثلاث مجموعات من الشباب: الأولى تمارس نوعا من
التديّن المنزوي. وهي مكونة من أفراد محرومين اجتماعيًا واقتصاديًا, ويتعرضون
للتمييز الحاد, المجموعة الثانية تمارس نوعا من الإسلام الاندماجي, وتسعى وراء معنى
فردي في مجتمع فرنسي يسوده الفراغ, وتغيب عنه المثاليات الاجتماعية التي تعطي أهمية
للحياة الجمعية. وخلافا للإسلام السياسي الذي يقاطع المجتمع, وللإسلام المنزوي الذي
ينكمش عن المجتمع, يحاول الإسلام الاندماجي أن يؤكد حضوره داخل المجتمع الفرنسي.
أما المجموعة الثالثة فتمارس الإسلام الأصولي, وهي أقلية صغيرة في فرنسا, ولكن لها
إمكانات إعلامية كبيرة.
إن ديناميات التطور التي ستؤثر في مستقبل الإسلام الأوربي ليست في
جهاد الحركات الإسلامية الأقلوية بالرغم من حضورها البارز في المجتمع. فالواقع أن
مفتاح تفسير حقائق الإسلام الأوربي الحالي قائم في البحث العميق للاتجاهات
والتحوّلات الحالية داخل الإسلام الصامت, وهو إسلام الأكثرية. فليس بين أشكال
التدين التي سبقت الإشارة إليها, سمات وملامح مشتركة, فهي لا تعبر عن درجة واحدة من
الرقي الاجتماعي, ولا تسير بإيقاع واحد, بل بسرعات متفاوتة. كما أنه ليس موقفا
واحدا من بلدان المنشأ والنزاعات الجارية فيها, ولا من المجتمعات المضيفة, ولا من
مسائل الاندماج والمواطنة والعلمانية والحداثة. إن التغييرات اللافتة تجري في قلب
الإسلام الصامت. إن إسلام دول المنشأ, وإسلام دول الانتشار الأوربية, يشهدان عملية
يمكن تسميتها بعملية رد المقدس إلى الدنيوي Secularisution. وتسلك هذه العملية
اتجاهين: الأول يرى في الإسلام مرجعًا ثقافيًا واجتماعيًا وتربويًا, أي مصدرا
للهوية, من دون أن يوضح الفرق بين المعتقد واحترام الفروض التعبدية والمعايير
الأخلاقية والقانونية والممارسات اليومية. أما الاتجاه الثاني, وهو أكثر دلالة على
مستقبل الإسلام الفرنسي, فإنه لا يسعى إلى الابتعاد عن الدين, أو القطيعة معه,
بالمعنى الدقيق للكلمة, ولكنه يتحفظ إزاء النقل التقليدي والإدارة الجمعية للمعتقد.
فالدين لم يعد مجرد تقاليد موروثة, ولا مجرد محدّد للهوية, بل خيار فردي إرادي يمرّ
بالتفكير والتأمل.
ولكن لاشك في أن وجود الإسلام في الغرب هو فرصة للمسلمين. فحياة
المسلمين في المجتمعات الأوربية العلمانية والتعددية والديمقراطية, واحتكاك الفقهاء
المسلمين بالقيم الإيجابية كالحرية والسماحة والفصل بين السلطات, كل ذلك يفتح أمام
الإسلام إمكان التجدد, والتطور والنماء. إن وجود الإسلام في أوربا فرصة رائعة لقيام
إسلام متفتح وحديث.
مادام الإسلام في معظم الدول الإسلامية غير مستقل عن السياسة, فإن
السلطات السياسية ستبقى تفرض إرادتها على الشأن الديني, لهذا يرى مسلمو أوربا (وقد
وعوا ذلك فعلاً) أن ينظموا أنفسهم بعيدًا عن السلطات السياسية في أوطانهم الأصلية,
وفي استقلال تام داخل أوربا.
على أن وجود الإسلام في أوربا هو فرصة لأوربا أيضا. فظهور الرموز
الإسلامية في الأماكن العامة, ينبغي ألاّ يبقى مناقضًا لفكرة العلمانية
والديمقراطية, ولا لهوية كل أمة أوربية تعددية, فالإسلام بالنسبة إلى معظم المسلمين
على أرض أوربا, يتلاءم مع الديمقراطية والحرية وحقوق الرجل والمرأة, ومع الحداثة
والعلمانية, والتصرفات المتطرفة التي تتبناها أقلية فاعلة - والتي تزعج المسلمين
أكثر من سواهم - لا تعبر أبدا عن الإسلام بنظر أكثرية مسلمي أوربا.
من جهة أخرى, يبدو المجتمع الفرنسي حاليا في أزمة ليس من العدل أن
نرمي أوزارها على النموذج الجمهوري المعروف. فهذا النموذج مازال مثالاً حيًا, ومبدأ
جيدًا لاستيعاب المواطنين, ووسيلة فعالة لتنظيم التعددية الاجتماعية, وتأكيد
المساواة الديمقراطية. وبدلا من وضع الإسلام مقابل الدول العلمانية, ينبغي معالجة
جذور الأزمة التي تغذّي التعصّب والانطواء على الهويات المقفلة.
وينبغي على الأخص الاعتراف بالاختلاف الثقافي, واستيعاب الهويات
الثقافية المختلفة, فغاية السياسة هي تأمين التعايش والتسامح وخلق مشروع اجتماعي
مشترك, أي الحفاظ على قوة الرابطة الاجتماعية وضمان الحقوق والحريات. ومنطق
التعددية يفرض البحث المتواصل عن التوازن الهش دوما بين المساواة في الحقوق وشرعية
الاختلاف الثقافي. ورغم الأزمة التي تصيب على الخصوص الجماعات المهاجرة أو ذات
الثقافة أو الأصل الإسلامي, وبالرغم من مشاعر الكراهية للأجانب التي تصادفها هذه
الجماعات, تبقى فرنسا أرض استيعاب فعّال.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث له: وُلد الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء .
لن يضعف الإسلام إذا اغترب, فالغربة خاصة من خصائصه إن لم تكن طبيعة
فيه. وعندما اغترب الإسلام عبر التاريخ في بلاد الله الواسعة, لم يضعف, بل انتشر
أكثر, وازداد نفوذًا وعطاءً. وغربة الإسلام في أوربا, وفي سواها, في وقتنا الراهن
تقدم فرصًا جديدة له, وللآخرين أيضًا, عن طريق بلورة نشيد جديد للإنسانية
وللحضارة.
بدايةً علينا أن نطرد الخوف من أنفسنا, وأن نفتح نافذة جديدة يدخل
منها النور والهواء إنا نحن نزّلنا الذكر
وإنّا له لحافظون . صدق الله العظيم.