دائرة المعارف العثمانية في الهند.. قلعة لحماية تراث العرب زكريا عبد الجواد صور: سليمان حيدر

دائرة المعارف العثمانية في الهند.. قلعة لحماية تراث العرب

مطبعة متهالكة في هضبة الدكن الهندية, حفر الزمن عليها خطوطه عامًا بعد عام, كانت وراء حفظ جانب مهم من تراث العرب. وعلى الرغم من مرور السنوات, ودوران الأزمنة, أتراحًا وأفراحًا, صعودًا وانحدارًا, فلاتزال تلك المطبعة ومعها جنودها المخلصون من أبناء الهند, يقارعون المستحيل لبث الروح في كل ما يمكنهم جمعه وتحقيقه من مخطوطات عربية القلب, تناثرت في أرجاء العالم.

كان حجم الاهتمام باللغة العربية مفاجأة كبرى, وجدناها بانتظارنا, ضمن مفاجآت عدة رأيناها حين حططنا رحالنا في أرض الهند, حتى أننا من كثرة من قابلنا ممن يتحدثون بها, كدنا نظن أننا في بقعة عربية, وإن تبدلت عجمة اللسان قليلا.

ولعله كان من المستحيل أن نهبط أرض ذلك البلد (القارة) دون أن تصيبنا الدهشة ونحن نجد أن اللغة العربية تدرس في المرحلة الابتدائية كمادة أساسية لأبناء الأقلية المسلمة التى يتجاوز عددها 200 مليون إنسان, في الوقت الذي تعتبر فيه العربية لغة التدريس الثانية في مدارس عدد من المدن مثل حيدر أباد.

وأن نجد كذلك جائزة سنوية تقوم بمنحها رئاسة الدولة لباحثين متميزين في اللغة العربية تقديرا لخدمات مهمة قدموها لتلك اللغة, وبعد ذلك نلبي دعويين خلال تلك الزيارة القصيرة, إحداهما من قسم اللغة العربية في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي, والثانية من المعهد المركزي للغات الأجنبية في حيدر أباد, ثم نعلم أن كل جامعة في الهند تضم قسما للغة العربية, وأن هذا البلد وحده يملك ما يزيد على خمسين ألف مخطوطة من أبدع وأثمن ما كتب بالعربية.

من هنا, كان انطلاقنا إلى حيدر أباد, حيث الجامعة العثمانية العريقة التي أعطت منذ نشأتها, ولاتزال حتى الآن تقدم بدأب وبجهود متميزة خدمات جليلة للغة العربية في شبه القارة الهندية, تتوازى أو ربما تزيد على الخدمات الجليلة التي تقدمها جامعة (ندوة العلماء) في مدينة (لكناو). ولعل التميز ينبع من وجود دائرة المعارف العثمانية التي تضمها الجامعة, والتي ساهمت في الحفاظ على ثروة من المخطوطات والكتب العربية, كان يمكن لها أن تندثر, ولاتزال تقوم بهذا الدور الكبير للحفاظ على تراث العربية, متعقبة إياه في شتى أنحاء العالم. فما أغربه من واقع يقوم فيه الهنود المسلمون بإخلاص شديد وإصرار لافت بشراء المخطوطات من أي بقعة كانت في هذا العالم, وتحقيقها ثم نشرها, وبواسطة مطبعة موغلة في القدم, يندهش المرء وهو يراها تقدم إلى المكتبات العالمية كتبا ومجلدات خطت في الزمن القديم باللغة العربية, بينما أبناء العربية منشغلون بهموم أخرى.

صباحا وصلنا إلى مبنى الجامعة العثمانية التي تخضع لحكومة ولاية أندرا براديش تمويلا وإشرافا, والتي تأسست في العام 1918 م واستكمل البناء فيها في العام 1938م, بعدما أمر مير عثمان علي خان حاكم ولاية حيدر أباد بانشائها, لنشر اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي في البلاد, وقد سميت تلك الجامعة على اسمه, لا على اسم حكام الإمبراطورية العثمانية التي قد يتبادر إلى الذهن ما يوحي بأنها تنتمي إليهم.

توجهنا تحديدا إلى مبنى تنبعث منه رائحة العراقة, تقبع فيه كلية الفنون التي تضم بين أقسامها, قسما للغة العربية, وهذه الكلية هي واحدة من بين كليات عدة تضمها الجامعة العثمانية, في القسم التقينا عددا من الأساتذة, فاز بعضهم بالجائزة التي يخصصها رئيس جمهورية الهند للباحثين المتميزين في اللغة العربية.

في البداية, أكد لنا البروفيسور محمد عبد المجيد, أن هذا القسم الذي تخرج فيه الآلاف من الطلاب, قدم خدمات جليلة للغة العربية, مشيرا إلى أن زمرة من كبار الشعراء والأكاديميين من أبرزهم عبد الستار صديقي ومحمد عبد الحق وعبد المعين خان وهم من الشعراء المعروفين في جميع أرجاء الهند, قد تخرجوا فيه.

لكنه استطرد قائلا: إن القسم وإن كانت الدراسة فيه باللغة العربية في جميع مواده, فإن اللغة العربية في الجامعة تعد اللغة الثانية بعد الإنجليزية التي تعتمد في الهند كلغة رئيسية للتعليم بمختلف مراحله.

وإلى جانب دراساته الأكاديمية التي تصل إلى الماجستير والدكتوراه, فإن القسم يقدم أيضا دورات تأهيلية لمن يرغب في تعلم العربية, إضافة إلى مستوى (سنيور دبلومات) لمن يريد التعمق أكثر في اللغة العربية وفهم القرآن الكريم والحديث الشريف, مبينا أن عددا كبيرا ممن تخرجوا في القسم تقلدوا مناصب مهمة في السفارات الهندية لدى الدول العربية كما انضموا إلى السلك التعليمي للمدارس الأجنبية التي تعمل داخل تلك الدول.

البروفيسور عبد المجيد بدا متحمسا وهو يؤكد لنا أن متعلمي اللغة العربية في تزايد في منطقة شبه القارة الهندية, والسبب يكمن في القرآن الكريم والسنة النبوية, إذ يسعى المسلمون للتواصل مع مفرداتهما عن طريق تعلم العربية, غير أنه أيضا يشير إلى أن فتح أبواب العمل في الدول الخليجية أمام العمالة الهندية قد ساهم أيضا في ازدهار اللغة العربية وفي تزايد أعداد الذين يقبلون على تعلمها.

وهو أيضا ماشددت عليه البروفيسورة قمر النساء بيجوم التي أبلغتنا أن هناك رغبة حقيقية في تعلم اللغة العربية بين الفتيات أيضا, مشيرة إلى العشرات من الطالبات اللواتي يدرسن حاليا في القسم.

بدا الحديث محفزا للدهشة, لكن البروفيسور عبد المجيد لخصه قائلا (نحن نعيش في بيئة غير عربية لكننا نحاول خلق مناخ عربي للطلاب, كي يصبحوا أكثر مهارة في اللغة وفقا لماهو مستطاع).

ولمح هنا إلى رغبة القسم في تبادل البعثات التدريسية مع الجامعات العربية, تماما كما تفعل الجامعات الإيرانية مع القسم الفارسي بالجامعة العثمانية, حيث تقوم بإيفاد العديد من الأساتذة إليه.

دائرة المعارف

في مبنى قريب من الجامعة العثمانية, ذهبنا سيرا على الأقدام إلى مقر دائرة المعارف العثمانية وهي أقدم عهدا من الجامعة نفسها, وإن كانت انضمت تحت جناحها فيما بعد, هذه الدائرة شهدت في عهد السلطان نواب مير محبوب علي خان (نظام الملك) افتتاح واحدة من أقدم مطابع الكتب باللغة العربية في تاريخ الطباعة العربية بالهند وتحديدا في العام 1306 هـ الموافق 1888م, حتى أن أي مكتبة عربية لاتخلو من كتاب يحمل اسم هذه الدار, إذ كانت المخطوطات المؤلفة تأتي إليها مع البحارة, فتعود إلى حيث جاءت مطبوعة بعشرات وآلاف النسخ من كتب الطب إلى الحديث فالتاريخ والعلوم الرياضية, تباع وتنشر في كل المدن الاسلامية.

هذه المطبعة التي كان لها الفضل في إحياء الكتب العلمية والدينية, هي التي مازالت تعمل حتى الان, مؤدية أعظم الخدمات للغة العربية ليس في شبه القارة الهندية وحدها, بل أيضا في البلدان العربية.

في البداية دخلنا إلى صالة تضم العديد من الكتب النادرة المطبوعة والمعروفة في العالم العربي, كتب في الفقه والتراجم والسيرة وغيرها من كل الأغراض التي عنيت بها الكتابة العربية.

هناك وجدنا (مسند أبي يعلي الموصلي) من القرن الرابع الهجري, الذي لايوجد منه الآن إلا ثلاث نسخ فقط في العالم, وتمتلك الدائرة النسخة الأصح منها.

ورأينا أيضا كتاب (المقفى الكبير) للمقريزي, وتوجد نسخة فقط منه في باريس, هي الوحيدة الموجودة في العالم وقد أحضرت الدائرة نسخة فيلمية منها إلى حيدر أباد وقامت بتحقيقها وطباعة نسخ عدة منها.

وكذلك رأينا نسخة نادرة وعجيبة لمصحف يضم 120 صفحة فقط, وكل جزء منه يتم ختمه في أربع صفحات فقط, والعجيب فيه أن كل سطر في هذا الكتاب يبدأ بحرف (الواو), من أول صفحة فيه إلى الصفحة الأخيرة.

أخبرنا الشيخ أبوبكر الهاشمي رئيس المصححين في الدائرة أن عملية التصحيح تتم بمراجعة وبحث وتحقيق المتون للكتب التي يتقرر طباعتها, مشيرا إلى أن الدول العربية وإن كانت قد عرفت المطابع في القرن التاسع عشر إلا أنها اهتمت بطباعة الكتب القديمة المتوافرة لديها, بينما استهدفت دائرة المعارف العثمانية التنقيب عن المخطوطات والمؤلفات العربية والإسلامية وتحقيقها وطباعتها ونشرها في أرجاء العالم الاسلامي, فقد اقتفت المخطوطات النادرة سواء كانت نسخا أصلية أو صورا مصغرة من المكتبات العالمية في الدول الأوربية والعربية وكانت تطبعها بعد ما تقوم بالتصحيح وكتابة الهوامش, وبذلك ساهمت في المحافظة على تراث علمي ضخم, ومنعت ضياعه أو تلفه وقدمته الى مختلف الأجيال صحيحا ومنقحا.

وهو ما أكده لنا الشيخ محمد عمران الأعظمي كبير المصححين في الدائرة وهو شاعر باللغة العربية وأديب يتحدث ست لغات, فقد لخص الأمر قائلا: (إن موضوعنا في هذه الدائرة هو الكتب التي لم تطبع بعد في العالم, فنحن نجلب الأفلام والصور الشمسية من مختلف الدول, ونقوم هنا بطباعتها وتوزيعها في مختلف أرجاء العالمين العربي والإسلامي).

وحين ذهبنا إلى الغرفة التي يقوم فيها رجال الصف بجمع الحروف على النمط التقليدي نفسه الذي اندثر في الوقت الحالي مع انتشار برامج النشر الالكترونية, أذهلنا ماعلمناه من أن هؤلاء المصففين لايعرفون اللغة العربية أبدا, فهم من الهنود العاديين, غير أن خبرتهم الطويلة مكنتهم من حفظ أشكال الحروف واختيارها ورصها ببراعة من بين مئات الألوف من القطع المعدنية الصغيرة الملقاة بغير انتظام في أوعية خشبية متقادمة.

حين لاحظ رئيس دائرة المعارف العثمانية البروفيسور عبد المجيد وهو نفسه رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة, اندهاشنا, سارع بالقول: إن قسم الصف هذا يودع أيامه الاخيرة فنحن مضطرون للتحول عنه إلى الأجهزة الحديثة, وسوف نبدأ بالفعل في رحلتنا الحالية التي نواصل فيها الاهتمام بالتراث العربي, في كتابة المخطوطات على أجهزة الكمبيوتر. لكن الدار - التي وضعت أمامها هدفا تمثل في جمع المخطوطات العلمية والفنية العربية والسعي لصيانتها, على أن تكون تلك المخطوطات, وفقا لما أخبرنا به البروفيسور محمد عبد المجيد, من مؤلفات القرون الثمانية الأولى من الهجرة التي تعد أزهى عصور الإسلام في مجال التأليف, وأن تكون نسخ تلك المخطوطات قد ندرت في العالم بحيث يخشى أن تفقد اذا لم يتم تدارك ذلك - قد أضافت إلى المكتبة الاسلامية والعربية مئات الكتب والمؤلفات التي منها على سبيل المثال: السنن الكبرى للبيهقي, والفالق في اللغة للزمخشري وتهذيب التهذيب للعسقلاني.

في سالارجنج

كان علينا, وقد حرضنا مارأيناه في دائرة المعارف العثمانية, أن نتوجه إلى مكان آخر في مدينة حيدر أباد توجد به كميات هائلة من المخطوطات, إنه متحف سالارجنج الذي أنشأه وزير في عهد نظام الملك, كان يهوى جمع التحف والمخطوطات النادرة, وقد حمل المكان اسم ذلك الوزير العاشق للثقافة والفنون.

كان (جناح المخطوطات) هو أكثر الأقسام إثارة, ونحن نشاهد فيه مجموعة من أندر المخطوطات العربية, وقد رأينا كتبا في الحديث مكتوبة بخط اليد, ومازالت تحتفظ بنفس ألوانها, وكتبا في الشعر والسوانح والتصوف والمواعظ والخطب وعلم المنطق واللغات والسيرة والتفسير والتاريخ والمذاهب باللغتين العربية والفارسية, وإن كان عدد المخطوطات في هذا الجناح باللغة الفارسية يفوق المخطوطات باللغة العربية بكثير, فالعربية منها تصل إلى مايزيد قليلا على 2600 مخطوطة من بين 8500 تشمل اللغات الأخرى.

ومن مقتنيات المتحف النادرة نسخة من القرن الرابع عشر لبستان سعدي الشاعر الفارسي الكبير, ونسخة من (الشاهنامة) للفردوسي تعود إلى نهاية الربع الأول من القرن الخامس عشر, وهناك أيضا نسخة من مخطوطة تجمع أحاديث وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مترجمة إلى الفارسية من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.

معهد اللغات

لم نبتعد كثيرا عن دائرة المعارف العثمانية بعد أن ودعنا العاملين فيها,إذ إن مقر (المعهد المركزي للغة الإنجليزية واللغات الأجنبية) كما يطلق عليه الذي يتبع الحكومة الاتحادية لعموم الهند, كان على بعد خطوات قليلة, أخذنا رئيس قسم اللغة العربية فيه البروفيسور سيد جهانكير في جولة شملت أرجاءه, ركز خلالها على مبنى المكتبة التي تشغل فيه طابقين, والتي تضم وفقا لاحصائية مكتوبة على لوحة تقع على يمين المدخل, نحو 5708 كتب باللغة العربية, و78340 بالانجليزية و8000 كتاب بالفرنسية و15000 كتاب باللغة الالمانية, و19000 باللغة الروسية.

حين سألنا عن سبب قلة الكتب والدوريات العربية عن نظيرتها, قالوا لنا إن الكثير من الكتب والدوريات الأجنبية تأتي لنا بالمجان, فيما يرد علينا المسئولون العرب الذين نتصل بهم لهذا الغرض قائلين, إن معظم الصحف والدوريات العربية يوجد لها مواقع على الإنترنت, فلماذا الحاجة لتكبد عناء إرسال الكتب وتحمل تكاليف شحنها?!

وفي المكتبة التي تعد من أفضل المكتبات في الهند خاصة بالنسبة للغة الإنجليزية, رأينا طلابا عربا جاءوا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه, واتخذوا من أركانها وأجهزتها الالكترونية التي يتم تقديمها لهم مجانا مساعداً على البحث والدراسة.

أما المعهد المركزي الذي انشيء في عام 1948 فهو جامعة وطنية من بين 200 جامعة تعمل تحت رئاسة وزارة المعارف الهندية, ويأتي إليه الدارسون من مختلف دول العالم, وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين يتبوأون مناصب عليا في بلدانهم من أجل تطوير اللغة الإنجليزية لديهم.

وفي قسم اللغة العربية الذي ظهر للنور في هذا المعهد عام 1978م يتم سنويا بدأب لافت, عقد ندوات عن الآداب العربية في مختلف أقطار الوطن العربي, وقد عقدت في العام 2002 ندوة دولية عن الأدب الكويتي, وفي العام الذي سبقه نظمت ندوة اخرى عن الأدب المغاربي شارك فيها أدباء وأكاديميون من تونس والجزائر ومن الأردن أيضا. وقام بتنظيم الندوتين البروفيسور محمد إقبال حسين وهو أستاذ مشارك حاليا في هذا القسم الذي كان قد ترأسه لعدة سنوات وله كتاب باللغة العربية عن الأدب الكويتي الحديث, وكتاب آخر في النقد الادبي ولكن باللغة الأوردية, فيما قام البروفيسور معين الدين الأعظمي الوحيد في هذا القسم الذي نال جائزة رئيس جمهورية الهند في العام 1995 بتنظيم ندوة عن (الترجمة) أتبعها قسم اللغة العربية بندوة عن (أساليب التدريس للغة العربية).

ويعلق د. سيد جهانكير بعد أن سرد لنا نشاطات قسم اللغة العربية الذي يترأسه, قائلا: (من جانبنا نحاول تلافي أي نقص لخدمة اللغة العربية, لكن هذا أيضا يعطينا الحق في أن نشتكي هذا التجاهل من العالم العربي, خاصة ونحن نرى أن هناك لغات لاتأخذ حيزا في اهتمامات المعهد, كالإسبانية مثلا, ومع ذلك فإن مدريد تهتم بإرسال أستاذين إلى هذا المعهد لتدريس تلك اللغة. دع عنك الفرنسية التي يعمل أستاذ في المعهد له صفة دبلوماسي لنشر لغة بلاده).

يستطرد د.جهانكير: (نحن على قدر الاستطاعة نحاول ألا يكون التقصير من جانبنا, ولنا في ذلك أن نفتخر بأن هناك في كل جامعة حكومية بالهند يوجد قسم للغة العربية, إلى جانب الجامعات الخاصة والمعاهد الأهلية, ونستطيع في الوقت نفسه تأكيد أن تدريس اللغة العربية في الهند لايوجد له نظير في العالم غير العربي, فالطالب المسلم يدرس منذ نعومة أظفاره اللغة العربية, وفي حيدر أباد هناك المئات من المدارس النشطة للغاية في تدريس تلك اللغة.

أما البروفيسور محسن عثماني الذي يعمل أستاذا في القسم العربي بالمعهد, كما عمل سابقا ولأكثر من عقد في الإذاعة العربية الهندية التي لاتزال تبث من الهند, وهو من أشهر علماء الهند في اللغة العربية والدين الإسلامي, وله العديد من الإصدارات التي أثرى بها المكتبة العربية والأوردية, منها الكتاب المعروف بالعربية عن أبي الحسن الندوي واسمه (ويسألونك عن أبي الحسن). فقد أشاد بدور مجلة (العربي) في التواصل مع قراء العربية في الهند, قائلا (إننا نعرف هذه المجلة منذ زمن بعيد, فشهرتها وصلت إلى الافاق, وهناك الكثيرون الذين يذهبون إلى المكتبات مع مطلع كل شهر متلهفين إليها تلهف الظمآن إلى الماء الزلال.

وأضاف البروفيسور عثمانى: (إنني أعرف الكثير من الأشخاص الذين تعلموا اللغة العربية بواسطة هذه المجلة العربية الشهيرة, ولانكون مبالغين إذا قلنا إننا تعلمنا منها اللغة العربية, من أقلام كتابها في الأدب والشعر والعلوم الإنسانية, وكذلك العلوم الإسلامية, بينما نحن نعيش في هذه البلاد النائية).

وفي جامعة نهرو التي تأسست قبل 30 عاما في عهد أنديرا غاندي رئيسة الوزراء الهندية السابقة, أنشأ الشيخ عبد الحليم الندوي قبل خمس عشرة سنة قسما يطلق عليه (مركز الدراسات العربية والإفريقية), فيما تنتشر الأقسام المماثلة في الجامعات الهندية, لعل من أشهرها - وفقا للدكتور شفيع أحمد هاشم الذي حصل على درجة الدكتوراة من جامعة نهرو عن رسالته التي خصصها للأدب الكويتي الحديث - الجامعة الملية الإسلامية التي تضم مركزا كبيرا للغة العربية ودراساتها, وكذلك في جامعة دلهي, فيما يتم التدريس في جميع كليات جامعة (ندوة العلماء) باللغة العربية.

في الوقت نفسه, فإن هناك عددا من المدارس في العاصمة الهندية تدرس جميع مناهجها بالعربية منها: مدرسة (رياض العلوم) قرب المسجد الجامع في دلهي القديمة, ومدرسة (جامعة السنابل) قرب الجامعة الملية, ومدرسة (الرحيمية) وهي مدارس خاصة في الأساس.

جامعات خاصة

في اليوم التالي, قصدنا دار العلوم الاسلامية تلك الجامعة الشهيرة التي تأسست قبل عشرين عاما, والتي تعتمد بصفة أساسية في تمويلها على التبرعات, ولاتقبل, مثلها كجميع الجامعات والمدارس الإسلامية الخاصة في الهند, أي تمويل حكومي خشية أن يكون ذلك جسرا للتدخل في شئونها وتوجيه مناهجها, نمر خلال توجهنا إلى هناك بمنطقة (تولي تشوكي) ذات الغالبية المسلمة في حيدر أباد, وهناك نقرأ على لافتات المحلات أسماء خليجية, لأن عددا كبيرا من أبناء تلك المنطقة يعملون في دول الخليج العربي, وفي هذه المنطقة القريبة من قلعة غولكوندو تتزايد المحلات المفتوحة لبيع الخضراوات والفواكه, بل وتتزايد أعداد المدارس وأيضا المقاهي التي تحمل أسماء عربية.

نسير في الطريق حتى ندخل من بوابة الجامعة, التي تمتد مبانيها على مساحة كبيرة, والتي كان العمل الإنشائي لايزال جاريا على قدم وساق في عدد منها منتهزين فترة العطلة الدراسية التي تبدأ مع بداية شهر رمضان ولا تستأنف في الجامعات أو المدارس الإسلامية إلا بعد عيد الفطر.

وتبدأ الدراسة في هذه الجامعة من سن العاشرة حيث يتم تحفيظ القرآن الكريم للطلاب لكن لهم الاختيار بعد اتمام تلك المهمة في إكمال دراستهم داخل تلك الجامعة أو جامعات أخرى قد لاتكون متخصصة في العلوم الدينية.

وتخصص تلك الجامعة عددا من الدورات تمتد على مدى ثماني سنوات, ويتم في السنة الأولى دراسة اللغتين العربية والفارسية للمبتدئين, أما في السنة الثانية فيتم دراسة الفقه والنحو والصرف والمنطق, وفي الثالثة التفسير والفلسفة والبلاغة, أما السنة الرابعة فيتم فيها دراسة الحديث والتفسير وأصول التفسير والفقه أيضا.

وهذه الجامعة تضم معهدا عاليا للأدب العربي, وآخر للدعوة والفكر الاسلامي وثالثا للفقه والافتاء ورابعا للدعوة والدراسات الاسلامية.

اتجهنا بعد ذلك الى مقر جامعة سبيل السلام التي تأسست عام 1393هـ على مساحة 40 فدانا, لكننا حين رأينا لافتة مكتوبا عليها (حي صلالة), سألنا عمن يقطن ذلك الحي الذي تقع فيه, قيل لنا إنه يضم عددا من البيوت التي يسكنها أحفاد البحارة العمانيين الذين كانوا يجوبون المياه بين عمان المزدهرة بحريا في ذلك الزمن البعيد وموانيء الهند, إذ كان هؤلاء البحارة يأتون بالتمور واللؤلؤ, ويعودون إلى بلادهم بالبخور والخشب. غير أن هذا الحي الذي يشغل مساحة أقل من تلك التي يتمدد عليها حي (وادي اليمن) في مدينة حيدر أباد نفسها, يضم أيضا إلى جانب العمانيين أعدادا متناثرة من ذوي الاصول العربية, فهناك سوريون وفلسطينيون وعراقيون وإن كانت أعدادهم قليلة.

لم يطل الوقت بنا كي نصل إلى الجامعة المقصودة, فقد قادنا حامد اليمني الأصل الذي لم يعد يعرف كلمة واحدة من العربية, عبر الدخان المتصاعد من دراجته الى أزقة وحارات ضيقة تؤدي الى أضيق منها, وإلى حفر تتوسط طريقا الى برك مائية لامفر من الالتفاف حولها, لنصل بعد ذلك الى مقر جامعة سبيل السلام. التقينا (عبد الباسط الندوي) الذي ينوب في فترة العطلة الرمضانية عن مدير الجامعة (محمد رضوان القاسمي), والندوي لقب كثيرا ماصادفناه بين الأكاديميين المسلمين في الهند, وهو يطلق على كل من تخرج في جامعة ندوة العلماء التي تعد الجامعة الأهم في الهند لتدريس اللغة العربية وعلوم القرآن الكريم. أخبرنا الندوي أن تلك الجامعة الخاصة التي يزيد عدد الدارسين بها على 1000 شخص, والتي تضم أقساما تتدرج من الروضة إلى الثانوية فالمرحلة العالمية والفضيلة في العلوم الشرعية, ثم الاختصاص في التفسير, تضم ايضا اقساما للكمبيوتر, وللتوزيع والنشر, وكذلك للتخطيط والتنفيذ, وأخرى لتعليم الفتيات الخياطة.

إلى متى?

بعد أيام رأينا فيها بأم أعيننا اهتماما هنديا فائقا باللغة العربية, وحماسا غير محدود للحفاظ على تراث خلفه العرب القدماء في مختلف مجالات العلوم الإنسانية, لم نستطع منع الذاكرة من اجترار مسيرة العلاقات العربية - الهندية, بدءا من الفتح الذي توقف عند حدود السند, دون أن يتم خلاله ارغام هندي على دخول الاسلام بالقوة, ولم يهدم فيه معبد ولا تمثال لإله هندوسي أو بوذي, مرورا بفترة العلاقات الزاهية في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات, في عهود نهرو وساشتري وانديرا, وانتهاء بزمن الانحسار, وترك الساحة خالية لإسرائيل لتسرح وتمرح, ليتحول الود العربي الهندي الذي زادته العلاقات بين الحضارتين الكبيرتين وثوقا, إلى حالة من البرودة غير خافية.

فهل كان يجب أن يحدث ماحدث?, وهل سنظل دائما نواصل البكاء على اللبن الذي يسكب منا دائما, وإن كنا سنخسر عملاقا صاعدا تتغلغل ثقافتنا في أوصاله, وتتعلق الملايين من سكانه بلغتنا وتاريخنا?

لعل الأمر يستحق انتباهة, ولعل في اليقظة واجبا وطنيا, يستحق ضميرا مقداما, يمتلك فضيلة مراجعة النفس.

 

زكريا عبد الجواد 




دائرة المعارف العثمانية حصن عريق تحتضنه حيدر أباد ويتعلم فيه عشرات الالوف لغة العرب





هذه المطبعة قدمت للمكتبات العالمية المئات من أهم كتب التراث العربي





هؤلاء الهنود من عمال الصف بالمطبعة لايجيدون العربية ومع ذلك يقدمون أجل الخدمات للغة العرب





وقت صلاة الجمعة في أحد المساجد القريبة من جامعة جواهر لال نهرو في دلهي





قسم اللغة العربية في مكتبة جامعة دار العلوم بحيدر أباد





تحفيظ الطلاب القرآن الكريم يبدأ من سن العاشرة في معاهد الهند





البروفيسور محمد عبد المجيد رئيس دائرة المعارف العثمانية





تدقيق ومراجعة المخطوطات العربية عمل يتم بإخلاص شديد في مطبعة الدائرة العثمانية





أحد الطلاب الدارسين لعلوم الدين الاسلامي واللغة العربية