أهمية التعريب الجزئي

أهمية التعريب الجزئي

نشرت مجلة (العربي) في العدد (546) مايو 2004 مقالا بعنوان (أي تعريب نريد?) لرئيس التحرير د.سليمان العسكري, يعالج موضوعا خطيرا خصوصا على مستوى التعليم الجامعي في الوطن العربي عمومًا.

وأنا أكتب هذه الملاحظات فإني أنطلق من خلفية عملية لكوني مدرسًا جامعيًا في كلية الهندسة - جامعة الموصل لمادتي الميكانيك الهندسي ومقاومة المواد, لأكثر من عشرين عامًا, بالإضافة إلى أنني أحمل الماجستير من جامعة نيوكاسل - المملكة المتحدة وقد ترجمت ثلاثة كتب في مجال اختصاصي.

إن المقال كان محصورًا عمومًا في تعريب الطب وهو أصعب المجالات خوضًا دون باقي العلوم ولا يمكن اتخاذه نموذجًا محوريًا للدوران حوله.

النقطة الثانية أن مثل هذه المسائل على ما أعتقد يجب أن تناقش من وجهة نظر إحصائية - ميدانية - تطبيقية.

كما أن النزول لأرض الواقع يجب أن يفرق بين العلوم ومن ثم تقسيمها إلى درجات حسب تقبلها للتعريب والفائدة التي يمكن جنيها من التعريب أو من عدمه.

هذا الواقع يجب أن يفرق بين المستويات المتقبلة للتعريب من حيث الهدف. فالدراسات الأولية في معظم العلوم الزراعية والعلمية والهندسية لا يمكن أن تستغني عن دراسة العلوم الأساسية للاختصاص المعني باللغة العربية لأن غاية هذه الدراسات إعداد مهندس أو زراعي أو كيميائي... إلخ, يكون قد استوعب أساسيات اختصاصه مع الإلمام الجزئي أو البسيط بالمصطلحات الإنجليزية لذلك العلم, بينما طلاب الدراسات العليا في معظم الاختصاصات لا يمكن أن يستغنوا مطلقًا عن الدراسة باللغة الإنجليزية وذلك لعمق الفجوة بين البحوث المتواصلة والكتب المتقدمة التي تعالج آخر ما توصل إليه العلم وعدم استطاعة كل الدول العربية مجتمعة مواكبة هذا التقدم في الوقت الحاضر.

من هذا المنطلق, فإنني أرى وأنا على يقين نتيجة الممارسة العملية أنه لامناص من اتباع منهج (التعريب الجزئي) أو (التعريب التكميلي).

هذا المصطلح يعني ببساطة تامة أن تدرس بعض المواد باللغة العربية وخصوصًا تلك التي تتناول المواضيع التي تحتاج إلى شرح كثير وتفاصيل جزئية دقيقة بحيث لا ينشغل الطالب معظم وقته في ترجمة المصطلحات وينسى ما هو مطلوب منه من فهم, بينما تدرس المواد ذات الطبيعة الرياضية أو الهندسية البحتة باللغة الإنجليزية, وإنما يقتصر التعامل بمعظمه مع الأشكال والأرقام.

هذا في مجال الهندسة, وقد يكون للمختصين في مجال الطب أو الحاسبات أو غيرهما من الاختصاصات الدقيقة رأي آخر.

أؤكد هنا أن هذا الكلام ناتج من خلال التعامل مع مئات الطلاب لأكثر من عشرين سنة وبمصادر في مجال اختصاصي مترجمة ومصادر باللغة الأصلية.

لقد وُجِد أن صعوبة الدراسة لهذه المواد الهندسية تخففها لكون الكتاب المدروس باللغة العربية لا باللغة الإنجليزية خصوصًا إذا كانت الترجمة جيدة, وتصل إلى عقل الطالب بسلامة ويسر.

إن هذه التجربة البسيطة تدعونا وعلى مستوى العالم العربي عمومًا إلى ممارسة (التعريب الجزئي), وهي تجربة على ما أعتقد غير فاشلة تمت ممارستها في بعض الأقسام الهندسية في الجامعات العراقية.

إن هذه التجربة تعني في بعض جوانبها أن الكتب المترجمة تأخذ طابعًا خاصًا حيث يجري الإكثار من ذكر المصطلح الإنجليزي (بين قوسين) كلما دعت الضرورة بجانب المصطلح العربي ليتآلف الطالب مع المصطلحين خلال دراسته.

أمر حتمي

إن تعريب العلوم كلها في هذه المرحلة من التاريخ العربي عملية فاشلة بكل جوانبها, حيث إن الاحتكاك مع الغرب والأخذ منه مسألة حتمية لا نستطيع تجاهلها مطلقًا.

من هنا, فإن انقطاع العراق عن العالم في السنوات العشرين الأخيرة نتيجة الحروب التي زج النظام السابق البلاد بها وتقوقع الدراسة داخل (أسوار) العراق قد أفرزت في أحد جوانبها السيئة التي لا تُحصى (دكاترة أو حتى أساتذة) لا يحسنون حتى كتابة أسمائهم باللغة الإنجليزية وهو أحد جوانب (التعريب) الشامل لبعض العلوم الصرفة والهندسية.

إن فهم المصطلح العلمي لصاحب الاختصاص أهم بكثير من معرفة من أين جاء هذا المصطلح أو من أي لغة تم نحته أو استعارته, ذلك أن هذه المصطلحات مفهومة بين أهل الاختصاص حصرًا, وإن أراد شخص من خارج الاختصاص فهمها, فأنا أعتقد أن كل الناس غير المختصين, بمن فيهم الإنجليز والأمريكيون, لا يدركون فهم ما يعني ذلك المصطلح في لغتهم الأصلية.

فكلمة (stress) وهي تترجم إلى العربية بالإجهاد لا يفهمها الإنجليزي غير المختص إلا أنها تعب أو إرهاق, بينما يفهمها المهندس الأمريكي أو العربي على أنها القوة مقسومة على المساحة, وهذا شأن الكثير من المصطلحات العلمية الأخرى.

هذا مثال من بعض المصطلحات التي راودتني من خلال تجربة عملية معيشة, ومن خلال ترجمة متواضعة لبعض الكتب, والتي تؤكد يومًا بعد يوم أن التدريس المختلط باللغتين العربية والإنجليزية أمر وارد مطلوب, ولا يعتبر خطأ أو تشويهًا للدراسة خصوصًا على مستوى الدراسات الأولية الجامعية, وكذلك فإن التدريس وكتابة الأطروحات الجامعية على مستوى الدراسات العليا باللغة الإنجليزية أمر لامناص منه, خصوصًا في مجال العلوم لا في مجال الإنسانيات, فهذا مجال آخر له وجه آخر.

سعد سعيد الديوجي
جامعة الموصل - العراق