الكاتب وصناعة الحرية

الكاتب وصناعة الحرية

طالعت في مجلة (العربي) بالعدد (536) يوليو 2003 مقالا تحت عنوان: (الكاتب بين سقف الحرية وحدود الإبداع) للأستاذ ياسر الفهد وقد تحدث في مقاله عن شقين: الشق الأول يتعلق بالتمييز بين الكاتب والمبدع الأصيل الذي يخلق ويترك بصمة حقيقية, والكاتب المدعي المتدثر بلباس الكتابة ليحقق مكاسب مادية. أما الشق الثاني في مقالته والذي ربطه بالشق الأول, فهو يتعلق بتلك المشاكل والمصاعب التي تهدد مسيرة الكاتب وتضييق الخناق عليه فتجعل حريته محبوسة, ومن ثم فلا يستطيع أن يكون في مستوى التحديات القومية والثقافية, وقد شفع هذا بمقولة لأديبنا الكبير يوسف إدريس حينما قال إن الحرية الممنوحة لكُتَّاب الوطن العربي لا يكفي مقدارها كاتبًا واحدًا, وبالطبع هذا كلام معقول من الناحية الظاهرية ولكننا إذا فحصنا الأمر ودققنا بعيون وفكر محايد ثم نفذنا إلى الباطن سنجد غير ذلك تمامًا وسنجد أن مقولة يوسف إدريس التي استشهد بها كاتبنا كانت قد قيلت في فترة سابقة, فترة سوداء بالنسبة للمجتمعات العربية. فترة كان فيها الاستعمار, ثم بعد الاستعمار كان ترتيب الأوراق المضطربة والمبعثرة فكان القمع وكان مقص الرقيب, وكانت الخطوط الحمراء التي يُمنع على أي فرد تخطيها. كل ذلك نحن نتفق عليه, وأجيال الستينيات والسبعينيات تعرف ذلك تمام المعرفة فكان الواحد منهم لا يستطيع أن ينشر حرفًا واحدًا في أي مجلة أو صحيفة إلا بعد تفحيص وتمحيص وحذف ولهجات عنيفة, أما اليوم فلا يستطيع أحد أن ينكر تلك النعمة التي صار المبدع العربي فيها إذا أصبح يقول كلمته عالية مدوية, وأصبح ينشر بكل الأماكن المختلفة المذاهب والتوجهات وأصبح يطبع أعماله بدور النشر الحكومية والخاصة, بل إن المؤسسة الحكومية نفسها تقف مع المبدع ضد من يريد أن يقيد حرية فكره وإبداعه, وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا يتسع مجال الحديث لذكرها, ولماذا نذهب بعيدًا فها نحن على مختلف مذاهبنا وعقائدنا نقول رأينا دون خوف في مجلة كـ (العربي), وفي مجلات أخرى في أقطار أخرى من عالمنا العربي, فلماذا إذن نقول إن حرية الكاتب مسقوفة بالموانع والتحذيرات والرقابة الإعلامية?

هذا ما يختص بالشق الثاني والذي جرّتنا حماسةُ الحديث إلى البدء به.

مأزق الإبداع

أما الشق الأول الذي أجده لب الأمر وذروة سنامه والذي يختص بالكاتب نفسه, وهل هو موهوب وله بصمة أم لا, فنقول بكل صراحة إن الإبداع العربي كله في مأزق خطير خاصة الشعر. والنصوص التي تنشر سواء في الكتب أو الدوريات تشهد بذلك.

وفي رأيي فإن ذلك يرجع إلى سببين أولهما يختص بالمبدع نفسه الذي لم يغص في التراث القديم ويستخرج جواهره ثم يسوح بالآفاق الرحبة للإبداعات العالمية ثم يسلح نفسه بأكثر من زوج من العيون ليتابع كل شاردة وواردة وصغيرة وكبيرة وحتى غير المرئية وهذا بالقطع يستلزم جهدًا خارقًا, وهذا ما لا يريده المبدع الآن, فهو قد ركن إلى البساطة والحياة الناعمة والعلاقات التي فتحت له كلَّ المنافذ والأبواب المغلقة فلماذا إذن يناضل ويجدد ويتعب نفسه?

وعلى سبيل المثال, تجد شاعرًا يلقي قصيدة رومانسية وهو معجب بنفسه ويمدح قصيدته ويقول إنه لم يكتبها السابقون ولن يكتبها اللاحقون, ولكن حينما تسأل صديقنا هذا عما قرأه في الشعر وفي الشعر الغزلي خاصة فلا يرد فهو لا يعرف أن قصديته الساذجة تلك والتي أصعدها إلى السماء كان عنترة قد كتب أعظم منها منذ ألفين من السنين, وأيضًا عمر بن أبي ربيعة وأحمد شوقي وإبراهيم ناجي وغيرهم الكثير, وكذلك من يكتب قصة ويظنها أنها تفوق قصص موباسان ولا يعرف أن قصته مجرد سيناريو لفيلم سينمائي شاهدناه ألف مرة ومللنا منه.

والسبب الثاني يختص بالحرية والتي فهمتها المؤسسة الحكومية بشكل خاطئ حينما راحت تنشر كل الأشكال التي لا يمت الكثير منها إلى أي إبداع, ثم أخذت تقول لمن يعترض إن هذه حرية فكر, ومن هنا فرح الممارسون للكتابة وانصرفوا من الصعب إلى السهل ومن الثمين إلى الغث, ولم لا فالمؤسسة تزكيهم وتأخذ على أيديهم, فعلى المؤسسة أن تفرق بين شيئين: الفكر الموجود بكتابات المبدع وتأثيره على المجتمع ومدى الإثارة التي سيفعلها في الجمهور خاصة إذا كان هذا الفكر له حساسيته فيما يثيره من قضايا مهمة ومشكلات متشابكة وأفكار غريبة وجديدة لم تسمعها الأذن من قبل, وهنا على المؤسسة أن تستعمل وثيقة الحرية الممنوحة فتروج هذا الفكر مهما كانت حساسيته, وإن كان سيكشف الكبار والمتلاعبين, وأما إذا كانت الكتابات خالية من أي فكر وأي رؤية ولا توجد بها أي تقنية فنية بل مجرد كلمات جوفاء مرصوصة بجوار بعضها بشكل جميل مثل الديكور فيجب ألا تنخدع المؤسسة وتروج ذلك الفكر التافه تحت مسمى حرية الإبداع.

الذكاء والحرفية

هذا وقد يقول كاتب إني أريد أن أنطلق إلى الآفاق الرحبة وأريد أن أخوض بقلمي في الموضوعات الشائكة كالصراعات العربية والغزو الأوربي والعولمة والعلمانية والمؤامرات القائمة على التعليم والثقافة بدلا من الكتابة عن أفكار ميتة كزحام المواصلات وحفر المجاري وشرب المياه الملوثة والعلاقات الأسرية, ولكن مع الأسف لا أستطيع ذلك وإن استطعت وكتبت فسيقولون أخرج يا أبا نواس من البلد? ولن تروج الوسائل الإعلامية كتاباتي وسأُحبس في خندق وأقول له إن المبدع المتميز ببعض الذكاء والحرفية هو الذي يستطيع أن يقول كل شيء, أن يكشف الزيف وأن يقود المظاهرات على الفساد وأن يشجب وأن يعارض وأن يتدخل في أدق الدقائق للدولة. يستطيع أن يفعل ذلك كله وسيصفق له الجميع بلا استثناء لكن بماذا? بخروج الكاتب العربي من الحفرة التي يقبع فيها, عليه أن يخرج إلى الدنيا الواسعة وأن يكون في قلب الأحداث, في الوقت الذي يجب أن تكون له نظرة على المستقبل البعيد والمجهول القادم, ولا ينسى أن يضحى بالجهد في التفتيش على كنوز تراثه حتى لا يصدم حينما يجد نفسه يدور معصوب العينين.

شعبان ناجي
قلين - مصر