المسجـد عمارة الـروح.. إعمار الحياة

المسجـد عمارة الـروح.. إعمار الحياة

لم يكن المسجد, ذلك المعمار المشيد بأكثر من هيئة مجرد دار دين وعبادات, بل جعله العالِم مدرسة, وكرسه الحاكم منبرا, واختاره القاضي مجلسا لعودة الحقوق إلى أصحابها, وعده المسافر ملجأ.

وقد ارتبطت نشأة المسجد في الإسلام بالحياة الدنيا والآخرة معاً, حتى اتـــسعـــت الخريطة البشـرية فانتــــقلت أكثر من مـــهــمة له خـــارج أســـواره وحرمه. وفي كــتـــاب (المسجد) The Mosque: History, Architectural, Development & Regional Diversity الذي حرره وساهم في إنشائه 16 عالما ومعماريا من كل أنحاء العالم وصدر عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة مدعماً بمئات اللوحات والصور, نقرأ, ربما للمرة الأولى, النص المعماري للمسجد, عمارة الروح المؤمنة, وآية إعمار الحياة في العالم الإسلامي على مدى العصور.

ونطالع في مستهل الكتاب خريطة العالم الإسلامي في تسع مناطق: قلب الجزيرة, وإسبانيا والشمال الإفريقي, وإيران ووسط آسيا, والأناضول, وشبه القارة الهندية, وغرب إفريقيا وصحرائها, والشرق الإفريقي, والصين, وشرق آسيا الجنوبي, وهي مناطق ليست معزولة عن بعضها البعض الآخر, بل تتداخل في الحياة مثلما تتقاطع على الورق.

ويتساءل محررا الكتاب, مارتن فريشمان وحسن الدين خان, في مقدمتهما, عن السبب في عدم معرفة التراث المعماري للمسجد خارج العالم الإسلامي, بل وأحيانا في داخله, معتقدين أن يكون السبب الأساسي - بداية - خروج المسلمين من الأندلس, وعدم انطلاق صوت المؤذن شمالا, وهو المعادل الموضوعي لأجراس الكنائس في الدعوة للدين. لذا كان الجهد, المستمر لنحو أربع سنوات في إخراج هذا الكتاب, بالاشتراك مع المساهمين فيه, محاولة رائدة في التوثيق لذلك العالم الثري بالخيال, الخصب في الواقع.

ويرى المحرران أنه في بدايات الإسلام - مثلما حدث في بدايات المسيحية - تمت استعارة بعض الخصائص المعمارية من الأبنية الموجودة بالفعل والمرتبطة بالديانات والثقافات المحلية, قبل أن تتأسس هوية معمارية ذات خصوصية, وعندما تطورت المهارات الحرفية لتلك الخصائص الجديدة تطورت التصميمات.

وارتكنت المرحلة الأولى لتصميم المسجد إلى حرم مغطى, وفناء مكشوف, وجدران تسورهما. بداية النشأة كانت في قلب الجزيرة العربية, والتطور حدث خلال فترة العباسيين في القرنين العاشر والحادي عشر. ثم شهدت المرحلة الثانية نقلة استلهمت عناصر التصميم الإقليمي المتشعبة والمسيطرة ضمن حدودها الجغرافية. وفي المرحلة الثالثة تكونت شريحة ثالثة فوقية لا تتناقض مع الإقليمي بل تجد لنفسها ما يمكن تسميته بالطراز الأثري.

وتتحدد هذه المرحلة الثالثة بقوة ضمن أربع فترات تاريخية: إمبراطورية وسط آسيا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر, والإمبراطورية العثمانية في الأناضول بعد العام 1453 ميلادية, والهند تحت حكم مغولي فيمابعد 1555 ميلادية, وأخيرا إيران بعد العام 1550 ميلادية.

وبشكل عام, حتى حين نضع في اعتبارنا دخول تلك العناصر الإقليمية, أو مصلطحات أخرى مثل مصطلح (الأثر), فإننا نجد لكل مسجد كبير تم بناؤه قبل القرن العشرين, خمس صور: ففي قلب الجزيرة العربية وإسبانيا وشمال إفريقيا يوجد الحرم المغطى والفناء المفتوح, وربما مع قبة صغيرة أو أكثر. وفي الغرب الإفريقي والصحراء يستخدم الطين اللبن في التشييد, وتحل الأبراج مقام المنارات. أما في إيران ووسط آسيا, فيدخل تصميم الإيوان المتكرر في أركان المسجد الأربعة. وتحل في شبه القارة الهندية القباب الثلاث مع الفناء شاسع المساحة. بينما يبرز التركيز في الأناضول على القبة الضخمة التي تتوسط قبابا أصغر عديدة, مع المنارات السامقة. ونمر بشرق آسيا الجنوبي لنضع أيدينا على ملمح متكرر: بناء هرمي يتوسط دار العبادة. وأخيراً في الصين, سور للحديقة التي تضم في فنائها بناء مركباً من عدة أجنحة.

جسر الثقافة والتكنولوجيا

ويناقش إسماعيل سراج الدين في مقاله فكرة الإقليمية المرتبطة معماريا بتشييد المسجد, معرفا إياها بأنها الجسر الذي يصل تخوم الثقافة بحدود التكنولوجيا, ويقول إننا إذا استخدمنا (كما جاء في الفصل الأول من الكتاب) استعاريا صورة الشجرة كمنظومة تشي بثراء الموضوع المتشعب, الخاص بعمارة المسجد, فإننا نستكمل هذه الصورة بالحديث عن بعض من فروع وثمار هذه الشجرة. وهو يقصد إلى التنوع الإقليمي الذي يقدم أشكالا متغيرة للمباني التي تنتمي لسلسلة من الأسلاف, تمثل جذع الشجرة.

ويرى سراج الدين سببين لذلك التنوع الثري: أولهما خصائص مجتمعية محلية تحددها الجغرافيا والمناخ والصفات التي تعطي روح المكان, لمواقع بعينها وشخصية للبيئة المحيطة بها. فيما يكشف ثانيها, وهو البعد التراكمي, عن العملية التي يتواصل بها التعبير الثقافي للمبادئ الإسلامية في أي مجتمع مسلم, بشكل يثري من - بل ويجدد - تلك الثقافات الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء.

ويقسم سراج الدين سياق أي عمل معماري إلى مستويين, سياق مادي مباشر يحكم أسلوبه, وسياق أكثر اتساعاً بقيمه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية, يعطي ذلك العمل المعماري معناه. كما أن للعمل المعماري نفسه بعدين أحدهما وظيفي والآخر جمالي. والمثير أن للتأثير الخارجي دوره في نفي الصبغة الإقليمية لدى بناء بعض المساجد.ودلل على ذلك بأن نمط مساجد الجزيرة العربية قد انتقل إلى خارج المنطقة - بل وإلى قارات أخرى - لأن الرعاية المادية لبنائها فرضت ذلك النمط العربي بعينه.

ويتساءل سراج الدين عن إمكانية تعميم أسلوب معماري إسلامي عالمي في البلدان التي أصبحت تربطها بشكل كبير علاقات التجارة ونقل التكنولوجيا والاتصالات والصور المشتركة. فيما يؤكد في موضع آخر على أن طغيان النمط الاستهلاكي في بلدان إسلامية بمناطق عدة تتكئ على الصناعات المتقدمة يطمر الهوية الإسلامية, وأن ذلك يعيد التأكيد على الحاجة النفسية لإعادة إبرازها, وابتكار فرادة ما تجعل لمجتمعها خصوصيته.

ثم يستعيد محاولة المعماري التركي سوها أوزكان للتفريق بين (العامية المعمارية) و(الإقليمية المعاصرة). فالأولى تعني انغماس العمارة بمضي الوقت في المعمار المحلي لأي منطقة مما يجعلها محدودة بأشكال ومجالات بعينها. فيما تقدم الثانية التفسير المعاصر للأشكال المعمارية المحلية مما يجعلها تفارق حدودها النمطية. ويرى أنه على الرغم من الاختلاف التاريخي واللغوي لمنطقة وسط آسيا وإيران, فأنهما قدمتا نماذج واضحة وثرية للمساجد الضخمة ببواباتها الاستثنائية وزينتها الخارجية المتخمة بالخزف اللامع, متخذاً أمثلة من مدارس ومساجد سمرقند وأصفهان.

لكن النماذج الثلاثة غير التقليدية للمساجد في العالم الإسلامي يجدها سراج الدين في الشرق الإفريقي, حيث تعكس المساجد هناك التأثير الهندي. فيما تعد مساجد المناطق الصحراوية تطويرا إقليميا لمساجد الساحل والغرب الإفريقي, رغم أن هناك مساجد تبنيها الدول العربية هنا وهناك بلغة معمارية مختلفة. وتعد منطقتا شرق وجنوب الصين علامتين بارزتين في استخدام العناصر الصينية لتقديم عمارة فريدة للمسجد.

ومن ناحية أخرى, تقدم ماليزيا في جنوب شرق آسيا وعيا إقليميا ذاتيا. أما أندونيسيا فتعرض بشكل كامل طبقة جديدة من العمارة في بناء المساجد, رغم أنها إلى عهد قريب كانت تتبنى الشكل المعماري لمعابد مرحلة ما قبل الإسلام.

وبعد هذه الدراسة التي تأتي ضمن قسم الكتاب الثاني - والأكبر - نجد قراءات للصور الإقليمية للمساجد, فيكتب دوغان كوبان عن العالم العربي, ويدرس أنطونيو فرنانديز بورتاس عن إسبانيا وشمال إفريقيا, ويقترب برنارد أوكان من عالم إيران ووسط آسيا, ويأخذنا جولرو نجيب أوغلو إلى الأناضول والعهد العثماني, فيما نطوف مع بروين حسن شبه القارة الهندية, أما غرب إفريقيا وصحراء القارة السمراء فنعبرها مع لابل بروسان بينما يتوقف مارك هورتون عند شرق إفريقيا, وفي الصين نعيش مع قلم لو زياوي حتى نأتي إلى هوغ أونيل في مقالته عن جنوب شرق آسيا. وفيما يشرح هؤلاء الخصائص التي تقابل كل منطقة, وجذورها, ومدى ارتباطها بالجيران - في الجغرافيا والدين - يقدم كل منهم نماذج من مساجدها جعلوها بمنزلة مفاتيح لقراءة هذا التنوع المعماري الخصيب.

فضاءات الخط العربي

يرى محررا الكتاب أن علينا أن نولي عناية خاصة بدراسة الخط في تصميم المسجد, لما للكلمة المكتوبة من مكانة في الحليات المعمارية الإسلامية, لأنها تحقق النموذج المثالي للزينة في الزخرفة الإسلامية التي تقصي الكائن الحي من الرسم, رغم أن بعض الرسوم بالخط العربي والنباتات تمثل أشكالا لطيور وحيوانات. كما أن الخط يلعب دوراً بارزاً في أيقوناته التي تستدعي آيات القرآن الكريم فوق أسطح البلاطات الخزفية, أو الأسطح الحجرية, أو التكوينات الجصية أو الألواح الخشبية.
لذا يفرد فيللر إم تاكستون دراسته لقراءة دور الخط العربي في تصميم المسجد.

ويقول إن شيوع استخدام الخط الكوفي في البداية كان لاعتباره الشكل الوحيد لكتابة الخط العربي, حتى جاءت الخلافة العباسية وأدخل خط الثلث في تلك التصميمات الحروفية. ومن خلال دراسة تحليلية يصل إلى أن يربط كل ركن بالمسجد بآيات من القرآن الكريم, حيث تشيع آية الكرسي في القباب, وفي المحراب نقرأ: كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاأو فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب وفي المصابيح الزجاجية المعلقة: الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يـوقــــد مـــن شجـــرة مباركة زيتـــونة لا شــرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم وربما بعضا من الآية نفسها: نور على نور أو: الله نور السموات والأرض وهناك مقتطف من الآية 185 من سورة آل عمران: كل نفس ذائقة الموت , إذا كان المسجد يضم ضريحا. كما يتطرق تاكستون أيضا إلى الاختيارات الحروفية من بعض الأحاديث الشريفة أو مقتطفات للإمام علي بن أبي طالب, كما وجدها في أصفهان.

أما أطرف ما لاحظه فهو ما نقش على بعض أبواب المساجد من عبارات, مثل: الملــك لله, أو يا مفتّح الأبواب, وغيرهما, وهي ليست من القرآن أو الحديث, وإنما هي اشتقاقات يومية من آي الذكر الحكيم, يمكن أن توجد على أبواب المنازل, لكن أصلها قرآني: فالأولى من الآية الكريمة: لله ملك السموات والأرض , والثانية من قوله تعالى في سورة الأعراف: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط

ابتكارات إسلامية

أيضا يشير الكتاب إلى الوفرة في استخدام الأشكال الهندسية بزخرفة المسجد, سواء لصياغة بعدين أو ثلاثة, إما على السطوح المستوية أو المقوسة, وهي الاستخدامات التي تلعب دورا مهما في إخفاء خامات صنعها, فضلا عن أنها تفتح الباب أمام الأعداد والأرقام, التي تمتلك أيضا قيما بلاغية واستعارية مهمة.

وتأتي دراسة محمد الأسد لتضيء ذلك البعد الهندسي بالحديث عن تطبيقاته ونظرة العلماء إلى استخدامه في تصميم المساجد, حتى يأتي إلى اعتبار (المقرنصات) - وهي صيغ معمارية تزيينية من الأقواس الصغيرة - اختراعا إسلاميا, ويقول إنه رغم وجود جذور لها تمتد حتى القرن العاشر الميلادي فإنها لم تشع حتى جاء القرن الثاني عشر الميلادي لتصبح خصيصة معمارية في المساحة الممتدة من مراكش حتى إيران. وهذه المقرنصات تمثل تشكيلات هندسية متطورة تماما, تصف الوحدات فيها بشكل متكرر, واحدة فوق الأخرى, (إنها في الصور تشبه ندف الثلج الساقطة من سقف ترسم وحداتها المتشابهات عمقا هندسيا بارع الجمال). وقد تصنع هذه الوحدات من الخشب أو الحجر أو الجص أو الخزف لتقدم نسقا مرنا لمعالجة السطوح حتى أنها تناسب أي مساحة وأي مكان, بل ولها أن تحدد الفضاء والفراغ وتقسمه لأكثر من حيز.

ويؤكد المحرران حقيقة انتشار الإسلام اليوم, بشكل يؤدي إلى إنشاء المساجد أكثر من إقامة دور العبادة الأخرى. وعلى المعماري المعاصر أن يجيب عن أسئلة بناء المسجد بشكل عملي: ما الغرض من بنائه, وما الذي يستطيعه, بل وما الذي يجب أن يقدمه? وهل يجب أن يبقى المسجد دارا للعبادة وحسب? وهل يعد المسجد مكانا لاعتزال المصلي بنفسه أم اجتماعه بالآخرين, أم هو تلبية لحاجات اجتماعية? وتأتي الإجابات لترضي المؤرخ من ناحية, وتشبع فكر المعماري المعاصر من ناحية أخرى.

ويقدم مارتن فريشمان تحت عنوان (الإسلام وإنشاء المسجد) فكرته عن إنشاء دور العبادة, ومنها المسجد بالطبع, وهي فكرة تتناسخ بين الأديان: بقيت فكرة تكريس مكان للعبادة بمنأى عن الواقع حتى أيقن الدعاة أنه من دون أتباع سيموت أي دين جديد, وأن المتحولين إليه, سيكون من بين أسباب تحولهم, وجود رمز, قد يكون بناء مؤثرا. وأدرك هؤلاء (الدَّاعون) أنه كلما اتسع البناء الذي يكرسونه للدين الجديد, زادت جاذبيته!
وفي إنشاء المساجد يمكننا أن نلمح نقاطا تصميمية مشتركة بينها, وباعتبارها دورا للعبادة فإن دورها يقتضي أن تضم مساحة (تكون مسقوفة في جزء منها) مخصصة للصلاة, وأن تضم الحرم والرواق والصحن, وأن يتحدد بها مكان للقبلة - المتجهة للمسجد الحرام في مكة - في حيز المحراب, وأن يكون هناك المنبر, وهو دائما ما يكون إلى يمين المحراب. وهناك الدكة أو مجلس القاضي, أو مقعد قارئ القرآن في مساجد الجمعة, وأمامه كرسي القرآن الكريم, وهو حامل خشبي مزخرف لحمل المصحف, ويوضع حيث يستطيع القاضي أن يتلو القرآن منه.

وهناك المقصورة, وهي خلوة الإمام وتكون متصلة بالحرم أو منفصلة عنه, وكان الإمام في العصور الإسلامية الأولى (وهو الخليفة أو الحاكم) عرضة لخطر الاغتيال دوماً, لذا وجب تأمين هذه المقصورة. ثم هناك حوض الوضوء, وقد تستغني بعض تصميماته عن وجود النافورة فيه. وهناك المنارة, التي بجانب وظيفتها كعلامة للمكان, تعد مرتقى للمؤذن المنادي إلى الصلاة, وأخيرا الباب, الذي يعد مدخل المسجد, المسور دائما ليخفي ما بداخله عن الأنظار, ارتباطا بفكرة التقديس والتطهير.

المشهد المعاصر

وفي القسم الثالث من الكتاب تطرح ثلاثة أفكار حول المشهد المعاصر, تقدم أولاها صورة المسجد في المجتمع الإسلامي اليوم, التي يصل فيها كاتبها أوليج جرابار للقول إن المستقبل يكمن في مساجد المجتمعات المحلية, أكثر منه في المساجد التي تبنيها الدولة. أما ثانيتها فيقدمها حسن الدين خان تحت عنوان عبور مشهدي للمساجد المعاصرة: في مجتمعات القرى والأماكن الريفية - حيث لا ينال التغيير المتسارع من العقائد والعبادات - بقيت وظيفة المسجد كما هي دونما تغيير كبير عما كانت عليه في الماضي.

والفكرة الثالثة يتناولها محمد أركون في دراسته عن التغيير الذي لحق استخدام المسجد ومعانيه في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة. فعلى الرغم من توقع المؤمن - حين يكون بالمسجد - أن تكون له علاقة مباشرة بالمقدس, إذا به يجد نفسه يمارس - تحت وطأة استخدامات متعددة لدار العبادة - طبائع غير دينية يصعب عليه فهمها ويتعسر أمامه تعليلها.

والمحاولة التي يقدمها أركون تحاول خلق فهم أفضل للمجتمعات الإسلامية اليوم وعلاقتها بالمسجد. حيث يرى أن علينا إرجاع البصر مرتين في مجمل تاريخ المسجد, بل وأن نعيد تفسيره, بنظرة خاصة إلى الأشكال والتصميمات, من ناحية وكذلك أنساقه السيميائية من ناحية أخرى, ويعني بها الرموز والعلامات التي يستخدمها أفراد أي مجموعة اجتماعية لإيصال قيمهم المشتركة, وهو يظن أن في ذلك إدراكا للمفاهيم المجردة, مثلما هو سبيل لبيان وظائف هذه الرموز والعلامات. لأن للمساجد, مثلما للآثار المرتبطة بدور العبادات في الأديان الأخرى, صورة تمثيلية تحمل قيما بعينها يحفها الحضور الإلهي في أماكن العبادة. وهناك اعتبار نفسي لمكان التعبد - بما يحويه من ذاكرة, وفكر وعاطفة, فردية وجمعية - وهو اعتبار لا يأخذه المؤرخون جديا في حساباتهم رغم ثرائه وتعقيده ومكوناته الدلالية في التاريخ.

ونجد, داخل أي جماعة ثقافية اجتماعية, اختلافات حول مفهوم التقديس في التعريفات والحدود والأدوار, تنشأ من استجابتها للظروف التاريخية المتغيرة.

هنا يصبح البشر فاعلين اجتماعيين, أي أنهم يمارسون أدواراً مختلفة في الوقت نفسه: فحين يذهب المؤمن - على سبيل المثال - إلى المسجد لأداء العبادات فهو يصبح شريكا بالتساوي في المكان مع أعضاء الجماعة الحاضرين بالمسجد, الذين قد يكون حضورهم هناك رهنا لاعتبارات سياسية أو اجتماعية, وعلى المستوى الشخصي لأن ممارسي العبادة يتواصلون معا بسبل مختلفة, وطبقا لأدوار مختلفة, وإذا كنا سندرس المسجد كفضاء مقدس في المجتمع المعاصر فعلينا أن نضع بعين الاعتبار تلك الشروط المتقاطعة: التقويم التاريخي, المنهج الأنثروبولوجي, التحليل السيميائي, وكيفية اكتساب السلطة لشرعيتها.

ويربط أركون في تقويمه التاريخي نشأة المسجد الأول في المدينة وارتباط الديني بالسياسي, أما منهجه الأنثروبولوجي فاعتمد على تقسيم المراحل التاريخية إلى حقبتين, اعتنت الأولى في معرفتها بالتفسير الأسطوري فيما اعتمدت لاحقا على التفسير غير الأسطوري, أي على معرفة أساسها الفكر العقلاني. وهما حقبتان لا يمكن الفصل الصارم بينهما بل ويمكن أن يوجدا معا لفترة من الزمن في المجتمعات الفردية.

جمالية المكان وروحانياته

إن بناء المسجد, وفلاحة الأرض, وغزل النسيج, وتعليم القانون أو اللاهوت أو ممارسة الطب يمكن أن ينظر إليها كلها كأنشطة مفيدة تتسق مع صورة المجتمع البشري الذي طور الإنسان من حياته في ظل معرفة أسطورية. لذا, فإن جماليات المسجد - الذي يصمم ويبنى داخل ذلك الجو - لا يمكن أن تعزى بالكامل لعناية المصمم المعماري وموهبته, هناك عناصر أخرى, في تقييم البناء, مثل سؤال عما إذا كان البناء نفسه يعلي ويقوي من الأدوار الروحانية للدين.

ويلاحظ أركون كيف أن المجتمعات ظلت قديما تحرص على بناء المساجدقرب تجمعات عمرانية, لأن دار العبادة اكتسبت بشكل تقليدي دورا تكامليا مع الحياة اليومية للمجتمع الإسلامي. وبالمقارنة فإن مساجد حديثة - مثل تلك المشيدة على الكورنيش حول مدينة جدة - قد تم بناؤها كوحدات مستقلة. وهذا ليس حكما قيميا, بل محاولة لاستدعاء الانتباه للتغير الكبير للسياق السيميائي, وربما يعزى سبب ذلك إلى توافر المواصلات السريعة للأفراد في المجتمعات المعاصرة.

وأخيرا, فإن أركون يشير لرؤية البعض للمساجد باعتبارها ملجأ ماديا من الضغوط, فيما يستخدمها آخرون منابر لآراء سياسية, أو منصات لإطلاق حملات دعائية, تفي بطموحات مجموعة بعينها, وهو يسأل عما إذا كانت مثل هذه الممارسات تنتقص من حرمة المساجد كدور للعبادة, التي لم تعد مكانا لنشر التعليم, بعد انتشار التعليم الحكومي

صدر الكتاب عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة, بأقلام: فيلر إمتاكستون (أستاذ الفارسية, قسم لغات الشرق الأدنى, جامعة هارفارد), وإسماعيل سراج الدين (مدير مكتبة الإسكندرية), ولابل بروسان (المتحف الوطني للفنون الإفريقية, واشنطن), وهوغ أونيل (الأستاذ بقسم العمارة والتشييد, جامعة ملبورن), وبرنارد أوكان (أستاذ الفن الإسلامي, مركز الدراسات العربية, الجامعة الأمريكية في القاهرة), وجولرو نجيب أوغلو (أستاذ بقسم الفنون الجميلة, جامعة هارفارد), ودوغان كوبان (الأستاذ بقسم تاريخ العمارة, جامعة استنبول التقنية), وحسن الدين خان (أستاذ العمارة والحفظ التاريخي, جامعة روجر ويليام, بريستول, والأستاذ الزائر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا), ومارك هورتون (رئيس قسم العمارة, جامعة بريستول), وبروين حسن (أستاذ الفن الإسلامي, جامعة دكا), وأوليج جرابار (أستاذ, جامعة الدراسات التاريخية, ومعهد الدراسات العليا, جامعة برينستون), ومارتن فريشمان (معماري بريطاني, محاضر, يونيفرسيتي كوليج, لندن), وأنطونيو فرنانديز بورتاس (المدير السابق للمتحف الوطني للفن, غرناطة), ومحمد الأسد (مؤرخ ومعماري أردني), ومحمد أركون (أستاذ زائر بجامعة أمستردام, ومعهد الدراسات الإسماعيلية, لندن), كتبوا 16 دراسة في 288 صفحة. وبالكتاب 378 لوحة من بينها 170 صورة ملونة.

 

أشرف أبواليزيد



 





غلاف الكتاب





المسجد الجامع في أصفهان





مسجد الجوهرة في القلعة الحمراء بمدينة دلهي





مسجد بازر شاهي بقلعة لاهور في باكستان





مسجد الجمعة في مدينة تاتا ببلاد السند





مسجد وزير خان في لاهور





مسجد الجمعة في شيلا بجزيرة لامو الكينية