البحر والبحّار... وخبث اللاشعور حنا مينه

البحر والبحّار... وخبث اللاشعور

في مهرجان أقيم في بيروت, تكريمًا لذكرى شاعر العراق الكبير, محمد مهدي الجواهري, منذ سنوات خلت, وعقب رحيله عن دنيانا, رقص المنبر والشاعر اللبناني سعيد عقل يلقي قصيدته في تأبين الجواهري, وشاء حظّي, أنا الناثر الذي يهوى الشعر, ويطرب له في كل حالاته, أن أتكلّم بعد سعيد عقل, والذي يتكلم بعد هذا الشاعر المعجزة, صاحب الشآميات التي صدحت بها فيروز, يتهيّب الموقف, تأخذه رعشة من شعور بالتقصير, والتي تأخذ الفارس, في مزدلف الخيل على مضمار السبق, مهما يكن واثقًا من قدرته على المجاراة.

ومع أنني, في النثر المقدس, أتأنق في الكَلم, وأصوغه صياغة هي الشعر بشكل آخر, فقد تقدمت من المنبر على هونٍ, مستشعرًا الأسى لأن النثر غير الشعر, ولأنني, في نثري, لن أبلغ قامة الذي سبقني, وأن المنبر الذي خلق للشعر أصلاً, لن يكون هو ذاته مع النثر, مهما يكن الإلقاء موفقًا, أو حتى جميلاً, وأن الذين رتّبوا أسماء المتكلمين قد ورّطوني توريطًا غفلاً, هو توريط الرواية في مجال الشعر.

لكن سعيد عقل, بعد انفضاض المهرجان, وضع ذراعه في ذراعي ونحن في طريقنا إلى الخروج من القاعة, وقال لي بصوته المتهدّج, ذي النبرة المتميزة المتفرّدة: (الجواهري, يا حنا, شاعر كبير, ولكن الليلة كرّمه شاعر أكبر!), فابتسمت لهذه العنجهية السعيدية المحببة. وعندما التقيته في اليوم التالي, جبر خاطري قائلاً: (أمس لم أسمعك بسبب وهن في الأذن, وعندما قرأت كلمتك اليوم في الصحف, ارتحت لها...أنت ناثر جيد!).

إن حكايتي مع الشعر والمنبر, تشبه, إلى حد ما, حكايتي مع البحر واللجة, فقد كنت, حتى في الكهولة, أزغم أنني أنا البحر, ولم يخيّب البحر زعمي, كان عنوانًا في الوفاء, وكنت عنوانًا في المحبة, إلى أن صرت في الشيخوخة, ولم تعد لجّته ملعبي, فاقتصرت المودّات بيننا على الوقوف على شاطئه, راضيًا مرضيًا, عارفًا أنه وحده الذي يُعطي, ولا يسأل على عطاياه شكرًا من أحد.

لقد كانت لي, ذات يوم, هذه الأمنية: أن تنتقل دمشق إلى البحر, أو ينتقل البحر إلى دمشق, وبسبب من خلّبية هذه الأمنية, فقد أصبحت أرضى بأن أكون إلى جانب البحر في أي مدينة, لكنني, أنا صاحب الأمنيات الخلّبية, صنعت البحر, عندما لاحت لي زرقته, في مناسبة غير متوقعة, من عائلة كريمة, أشهد أن صدقها هو الصدق, وأن رعونتي هي الرعونة!

إن الفارق بين مَن يفاخر بعبقرية يملكها, وبين مَن لا يملك هذه العبقرية, وليس في وسعه أن يفاخر بها, كبير جدًا, فسعيد عقل عبقري حتى في عنجهيته المحببة, وتتمركز ذاته حولها, أما أنا الذي خابت أمنيته في أن ينتقل البحر إلى دمشق, أو ينقل دمشق إلى البحر, فإن ذاتي تتمركز على خواء, لذلك أشقى حقيقة أو وهمًا, وأعاني هذا الشقاء في الحالين!

وفي سفري الطويل (أنا الجناح الذي يزهو به السفر) أحاول في ذاتي أن أهرب من ذاتي, ظنّا مني أن في الهرب من الذات, أجد خلاصي في دودة الفكر التي تلوب في دماغي, منقّبة عن المستور فيه, وعن المسكوت عنه, لتظهرهما إلى الناس, فوق كل ما عرف الناس عني في رواياتي, وفي المقابلات الصحفية التي أقول فيها الحقيقة ولا أبالي!

إنني, عند نفسي, صفحة بيضاء, لكنني, في خبث اللاشعور, لست كذلك, وقد حملت صليبي على كتفي منذ ستّين عامًا, ولم أجد من يصلبني عليه, انتقامًا من نشداني للراحة, في غير أوان الراحة, وغير موضعها أيضًا, فالكاتب مطالب بالكتابة, ولشدّ ما بتّ أكره الكتابة, هذه المهنة اللذيذة والقذرة, التي لا انفكاك من أسرها إلا بالموت, وهذا - لسوء الحظ - لا يؤاتي, حتى بت أخاف ألا أموت! نعم, أخاف ألا أموت عقابًا لي على اختراقي لكل مألوفٍ في هذه الدنيا!

إنني أعيش (على قلق كأن الريح تحتي), وأبارك هذا القلق ثلاثًا, وألعن الطمأنينة ثلاثًا, وبينهما تظل دودة الفكر القارضة تحفر في دماغي, والفكر, كما تعلمون رهيب, وعند كل غروب أردّد: (اسجدي لله يا نفسي فقد وافى المغيب/واستريحي من عناء الفكر فالفكر رهيب), إلا أن النفس تأبى أن تستريح, لأن دودة الفكر تأبى أن تستريح! والروح المجرّحة, المدّماة, لا تشيخ, تنزل مع صاحبها إلى القبر, بينما الجسد هو الذي يخون, وقد خانني جسدي الآن.

الإشكالية, هنا, في البعد عن الحبر والورق, رغم أننا نحتاج إليهما في ردع كل منكرة, حين يعجز الضمير عن ردع هذه المنكرة! لذلك قلت, في سنوات خلت من عمري, لسيدة قدمت لي بيتها على البحر, لأكتب فيه شتاءً: (إنني, يا سيدتي, إذا قبلت عرضك, وسكنت بيتك, فإنني, فيه, سأفكر دون أن أكتب, فأنا هارب من التفكير, لذلك أشكرك, وأعتذر إليك), وقبلت السيدة زوبورا ستور, كما هو واضح من إهدائي في رواية (الفم الكرزي) اعتذاري, مع الشك في عقلي, وهو شكّ مبرر تمامًا, لأني نصف مجنون, نصف عاقل, وأنا أحبّ نصفي المجنون أكثر!

هذه الإشكالية, في البعد عن الحبر والورق, أو الرغبة في ذلك, تكررت معي في زيارتي الأخيرة لإحدى إمارات دولة الإمارات العربية, حيث زارني رجل له في القانون مكرمة, وفي الدفاع عن العدالة مكرمة أكبر, وقد أدهشني بسعة ثقافته, وكذلك زوجته الفنانة التشكيلية التي لم أكن لأتصوّر, سابقًا, روعة رسمها, وقد أكرماني بغير حدود, وأثنيا على أدبي بغير حدود أيضاً, وعرضا علي الإقامة في شقة الضيوف التي يملكانها على البحر, فاعتذرت للمرة الثانية, اعتذارًا لا مبرر له, سوى الجنون الذي يدفعني إلى الإقامة في بيت أبي, وأبي ليس له بيت, في اليابسة أو على الماء, وكل ما لديه قدرته العجيبة على صنع قصة من مشهد عابر, أو حكاية عن حادث وقع له ذات يوم, وخبرته الفطرية في الإيقاع والتشويق, وفي التأنّي في سرد ما يروي حينًا, والاندفاع حينًا آخر, وبذلك يأخذ السامعين إليه, أخذ الفيلم السينمائي الذي يسحرك, واضعًا إياك في قلب الحدث ترويضًا!

إنني لستُ جامع أوشاب على الشاطئ, ولستُ ممن يضعون أقدامهم في البحر, ويدّعون أنهم عرفوا البحر, ولست من الذين يتأنقون في الكَلم لوجه السفْسطة, بل من الذين يعتصرون الكلمة, يعشقونها, ينقّبون عنها, كما يفعل الصيادون في الماء المتجمّد, حتى أعثر عليها, لأنه, في شرْعي, أن للمعنى الواحد, كلمة واحدة, إذا لم نجدْها علينا أن نتوقّف عن الكتابة حتى نعثر عليها, وفي سبيل العثور عليها, قضيت ليلة كاملة, وفي الغد, وفي طقسي عندما أكتبُ, وجدت الكلمة الضالة, فوضعتُها حيث يجب أن توضعَ, ثم خرجتُ من المكتبِ إلى الشوارع, يدي في جيب بنطالي, وشفاهي ترسل صفيرًا منغمًا, لأغنية نسيتها الآن.

الكتابة, إذن, شرف الكاتب, في صدقه والكبرياء, وعندما كشفت لكم, سرّ شباب الروح وشيخوخة الجسد, فإن قولي كان هو القول الذي لا ريب فيه, فالروح تبقى شابة, بينما الجسد يخون, وأفضل من عبّر عن هذه الحقيقة أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعلّ على الجمال له عتابا
ويُسألُ في الحوادثِ ذو صوابٍ فهل تركَ الجمالُ له صوابا?
وكنت إذا سألتُ القلب يومًا تولّى الدمعُ عن قلبي الجوابا
ولي بينَ الضلوع دم ولحمٌ هما الواهي الذي ثكل الشبابا


وأتوقف عند البيت الأخير, لأنه صريح, صادق, معبر عن حقيقة ان الذي ثكل الشباب, هما الدم واللحم, أي الجسد الذي يخون شباب الروح.

إن الخبْرة هنا, مردّها لا إلى الشيخوخة التي صرت إليها, بل إلى الوعي بحال الروح والجسد, وإلى علم النفس الذي لا أدب دونه, وإلى مناقضة بدوي الجبل في قوله:

أيا مَنْ سقانا كئوسَ الهجرِ مترعةً بكى بساطُ الهوى لمّا طويناهُ


فأنا لا أطوي بساط الهوى, وإذا طويته أعيد فتحه, مادام في الراحة بقايا نار, وبقايا عتب على الجمال, وبقايا عزم شبوب في يراعة القلم, التي ستغفر, أنا الخاطئ, كلَّ خطاياي.

إنني, ومنذ زمن بعيد, أنِفٌ في كبرياء الرجولة, وتأبى شمائل هذه الرجولة, في عرف الوفاء, إلا أن تكون على وفاء أكبر, وهذا ليس في مستطاعي, كوني, الآن, في فقر أبيض, وفي طفولتي, عندما كنت جائعًا حافيًا عاريًا, كنت في فقر أسود, وفي الحالين لا أبلغ أن (أجزي على الجميل جميلا), لذلك أحس, أمام الصدق, العفوية, التلقائية, والحميمية, أنني مدين ولست بدائن, وهذا إثم لا أقترفه, ففي البساطة ولدت, وعليها نشأت, وفي موكبها أرحل, وهذا قدري, الذي في ثناياه طموحي, وإني على كفاء مع هذا الطموح, فالدنيا ابتهالات بكلماتي, وهذا حسبي, وهذا صلحي مع هذه الدنيا بالنسبة لشخصي, وهذا خصامي معها من أجل غيري: الفقراء, البؤساء, والمعذّبون في الأرض, ولو نسيت, في أيما يوم من حياتي, طفولتي الشقية, لما واصلت الكتابة إلى هذه المرحلة المتأخرة من العمر, ولعثرتُ مثل غيري, من الذين هبط عليهم الثراء, في سلّة مدلاة من المرّيخ, وبها يفاخرون, وفي تفاخرهم يكذبون على أنفسهم, مدركين, تمامًا, أنهم منافقون, ومن عجب أنهم راضون - كما قال الجاحظ - عن أنفسهم والنفاق, كل الرضى!

ههنا ألتقي مع سعيد عقل, فهو, شعرًا, واجهة ثقافية للبنان أمام العالم, وأنا, نثرًا, واجهة ثقافية لسورية أمام العالم, وهذا ما يعرفه الكثيرون, مسئولين وغير مسئولين, ويعرفه قرّائي الذين منهم أخذت حروفي وشفاهي, ويعرفه الشرق والغرب, اللذان كانت رواياتي المترجمة إلى سبع عشرة لغة, سفارات لديهما, ولدى شعوبهما, وهذه الروايات, في الترجمة إلى اللغات الحية, تتكاثر, ولا أقول تتناسل, فالنسل العربي واحد, غير أن المضامين تختلف.

وتسألون عن البحر فأجيبكم: أنا البحر, لكنني في البحر أبحث عن البحر, وهنا المفارقة في عبثيتها, هنا الجنون الذي في مكنونه ينطوي سر الخوف, هنا البحّار الذي كنته في يفاعتي, على المراكب الشراعية, وفي مقدمها, ومن ورائها, وعلى جانبيها, العواصف التي في اصطخاب أمواجها, كان المركب يضطرب, يرتفع إلى أعلى, يهوي إلى أسفل, يرتفع, يهوي, يرتفع, يهوي, والبحارة مع ريّس المركب, يتلون آية الكرسي, التي ينسونها حين يصيرون إلى البر, لأنهم, على البر, يبحثون, بعد طول إبحار, عن خمّارة وامرأة, وهذا قانون البحر, كما أسماه ريّس الشراع والعاصفة, محمد بن زهدي الطروسي, الذي كان له عند البحر ثأر, فأخذه, بعد طول انتظار على صخور الشاطئ, عنوة واقتدارًا.

إن البحّار الصادق, مع نفسه والسريرة, يرغب رغبة شهّاء, في أن يمحو من ذاكرته لحظة كان فيها, خلل العواصف, جبانًا, والكذب الذي هو رأس المعاصي, بعيد عن شرفي, فقد كنت هذا البحّار الذي خاف, لكنه صمد للخوف, وهذه هي الشجاعة في قاموسي, وفي مصيف بيتاخو الصيني على الباسيفيكي, خالفت التعليمات الصارمة: المسبح مغلق! خالفتها لأني, في شقاء الغربة, مللت شقاء الغربة, فألقيت بنفسي وحيدًا إلى اليم المصطخب, الذي في اصطخابه ألقى بي إلى وراء الشبك, حيث أسماك القرش الرهيبة, وعبثًا حاولوا إنقاذي, بشختورة جاءت لنجدتي, فقد أطاح بها, وبمن فيها, النوّ العاتي, وكان علي, أمام البكاء والصياح من على صخرة عالية, أن أتسلق الصخرة عند المدّ, ثم انحدر إلى قاعها عند الجزر, وأن أفعل ذلك مرات عدة, إلى أن وفقت إلى الإمساك بحبل, انتشلني والدم يسيل من جراح صدري, ومن كل أطرافي.

لماذا فعلت ذلك? هل المجازفة كانت لوجه المجازفة? هل التغامر كان لأنني والمغامرة على موعد كما أقول? وماذا أردت, في لاشعوري, من وراء هذه التهلكة التي لم تتم? أعترف. كنت أريد الانتحار على يد البحر, كما انتحر المتنبي على يد فاتك الأسدي! فلا تصدّقوا أن المتنبي لم يكن في وسعه النجاة, المتنبي انتحر لأنه رغب في الخلاص, ومثله أردت الخلاص بالانتحار الذي لم يتم, لأنني خفت, وهذه هي الحقيقة!

ألم يقل المتنبي:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا وحسب المنايا أن يكُنّ أمانيا


ثم ألم أقل أنا: (إنني أبحث عن الموت, والموت يفرّ مني?)

الفارق الوحيد بيننا أن المتنبي أقدم, بينما أنا ترددت, والمتنبي خالد, بينما أنا زائل, وكل ما عدا ذلك خبثُ شعورٍ لا أكثر!.

 

حنا مينه