الفروسية العربية صور من تاريخ الحروب الصليبية عادل زيتون

الفروسية العربية صور من تاريخ الحروب الصليبية

تُعدُّ (الفروسيةُ) مظهرا رائعا من مظاهر الحضارة العربية, وتشكل, بمثلها ووقائعها, صفحةً مشرقةً من تاريخها. ولا يُقصَدُ بالفروسية, في هذا المقال, الجوانب المادية منها, وإنما آدابها ومثلها الأخلاقية.

يُجمع الباحثون على أن (الفروسية) هي كلٌ مركب من مجموعة من الفنون والمهارات القتالية والمثل والمبادئ الأخلاقية, التي ينبغي أن تتوافر في الفارس, حتى يستحق هذا اللقب بجدارة. فليس كل من حمل سيفاً وامتطى فرساً غدا فارساً, وإنما عليه أن يتحلى - بالإضافة إلى الشجاعة والمهارات القتالية - بالإيمان العميق والصدق في القول والعمل والوفاء بالعهود والكرم والتفاؤل والتضحية من أجل المبدأ والتسامح والتفاني في حماية الضعيف ونصرة المظلوم والدفاع عن الحق والعدل واحترام المرأة. ولكن قبل هذا وذاك يجب على الفارس أن يتعامل بهذه الآداب والقيم في علاقاته مع أبناء أمته ومع أعدائه على حدٍّ سواء.

الفروسية قبل الإسلام

ولقد عرف العربُ الفروسيةَ قبل الإسلام, في بواديهم وحواضرهم, وافتخر شعراؤهم بشمائلها من كرم وشجاعة وحلم ووفاء ونخوة. بل جمع الكثيرون منهم بين الفروسية والشعر أمثال: عنترة وحاتم الطائي وعمرو بن كلثوم وغيرهم. كما امتلأ تاريخ العرب في تلك الحقبة بالوقائع التي تثبت التزام العربي بهذه المثل وتلك الآداب. وجاء الإسلام ليشجع الفروسية ويبارك قيمها ويعزز آدابها ويهذبها ويوجهها لخدمة مبادئ الإسلام ورسالته الحضارية. ويؤكد المؤرخون على أن الغرب أخذ الكثير من مثل الفروسية وآدابها عن العرب المسلمين, لاسيما عبر الأندلس والحروب الصليبية. ولكن هذا لا يعني أن الغرب لم يعرف الفروسية قبل ذلك, بل عرفها منذ أيام الرومان والجرمان, ولكن لم تكتمل آدابها ومُثلها عندهم إلا بعد اتصالهم بالعرب المسلمين, فمن المعروف أن قصص الفروسية العربية انتشرت بين فرسان الغرب انتشارا واسعا, واتخذوا من الأبطال العرب في تلك القصص قدوة لهم في الشجاعة والنبل والكرم. من ذلك مثلا ما تذكره قصص الفروسية كيف أن الخليفة الأموي في الأندلس عبدالرحمن الناصر (ت961م/350هـ) أعطى أمانا لعدوه أمير ليون حتى يتمكن من القدوم إلى قرطبة (عاصمة عبدالرحمن) لاستشارة الأطباء العرب والعودة إلى وطنه سالما. وكذلك ما ترويه المصادر من أن والي قرطبة قام, عام 1139, بمحاصرة مدينة طليطلة, التي كانت بيد الإسبان, فأرسلت إليه الملكة بيرنجر, التي كانت في المدينة, من بلَّغ ذلك الوالي العربي المسلم أنه لا يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة. فارتد القائد العربي فورًا محييًا الملكة. ولكن على الرغم من أن الغرب تأثر بالفروسية العربية الإسلامية, فإن الفروسية في الغرب اختلفت في الكثير من الجوانب عما كانت عليه في المشرق العربي, فالفروسية الغربية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بطبقة معينة, وهي طبقة الفرسان التي أفرزها النظام الإقطاعي الذي ظهر في الغرب بعد انحلال إمبراطورية شارلمان في أواسط القرن التاسع الميلادي. كما أن فرسان الغرب لم يمارسوا قيم الفروسية وأخلاقياتها إلا مع أبناء طبقتهم, أي طبقة الفرسان, في حين لم يسلكوا, بما يتفق وقيم الفروسية ومثلها, لا مع أبناء الطبقات الأخرى في المجتمع الأوربي نفسه, ولا مع أعدائهم في أوربا وخارجها, فلم يلتزموا بعهودهم ووعودهم ولم يحترموا الأماكن المقدسة لأصحاب الديانات الأخرى, واستخدموا أساليب الغدر والخديعة والكذب.. التي تعد انتهاكًا صارخًا لروح الفروسية, كما لم يتردد فرسان الغرب في العمل كمرتزقة وقطاع طرق, وهذا يشكل عدوانا على أهم قيم الفروسية, وهي التضحية من أجل المبدأ. أما آداب الفروسية عند العرب المسلمين فقد كانت جزءا أساسيا من ثقافة الأمة وسمة من سمات أخلاقها وتقاليدها.

سيرة صلاح الدين نموذجًا

والواقع يمكننا أن نقدّم صورًا تأخذ الألباب عن مدى التزام العرب والمسلمين, في كل مراحل تاريخهم, بآداب الفروسية ومثلها, ولكننا سنكتفي, لضيق المقام, بعرض بعض صور الفروسية العربية - الإسلامية, كما تجلَّت على أرض الواقع, من خلال سيرة واحدٍ من كبار الفرسان, وهو السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت1193م/589هـ), الذي ظهر في عصر شهد أعنف فصول الصراع بين المشرق العربي والغرب الأوربي, وهو عصر الحروب الصليبية. وقد حرص المؤرخون المعاصرون, حرصًا شديدًا على تقديم شهادات موضوعية عن مدى التزام صلاح الدين بمثل الفروسية وآدابها, لا مع أبناء شعبه فحسب, وإنما مع أعدائه الصليبيين في الشام أيضا. فقد قسَّم ابن شداد (ت1239/632), وهو مؤرخ صلاح الدين, كتابه (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) إلى قسمين أساسين, الأول خصصه للحديث عن أخلاق صلاح الدين وشمائله وعلاقته مع أبناء شعبه. فقد أشار, مثلا, إلى عمق إيمانه والتزامه بواجباته الدينية وزياراته المتكررة إلى الشيخ الحافظ الأصفهاني في الإسكندرية لسماع الأحاديث النبوية. كما تحدث عن كرم صلاح الدين الذي بلغ حدا جعل المسئولين عن خزائنه يخفون عنه شيئا من المال خوفا أن يفاجئهم أمر مهم, لأنه كان يُعطي وقت الضيق كما كان يُعطي وقت السعة, بل لم يترك صلاح الدين في خزائنه سوى دينارٍ ذهبيٍ واحدٍ وسبعة وأربعين درهما فضيا.

أما عن عدله فقد أوضح ابن شداد أن صلاح الدين كان يحرص أشد الحرص على إنصاف المظلوم وتحقيق العدالة وحماية الضعيف حتى أنه خصص يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع للجلوس للمظالم. أما عن شجاعته فيقول ابن شداد إنه (كان من عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات ولا يهوله أمر). أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه ابن شداد للحديث عن صلاح الدين وفتوحاته, ولكنه سجَّل في ثنايا ذلك, بوصفه شاهد عيان, الكثير من الوقائع التي تكشف عمق التزامه بأخلاق الفروسية وآدابها مع أعدائه, حتى وهو في ذروة انتصاراته عليهم.

صلاح الدين وأسرى حطين

بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين في معركة حطين (1187م/ 583هـ), أمر أن يُعامل الأسرى منهم معاملة طيبة, وأن توفر لهم كل أسباب الراحة في الأماكن التي تم اعتقالهم فيها. كما استقبل صلاح الدين في خيمة خاصة في حطين, بعيد المعركة, عددا من كبار الأسرى الصليبيين وفي مقدمتهم الملك الصليبي, واسمه جاي لوزجنان, وأرناط أمير حصني الكرك والشوبك. فحياهم صلاح الدين في لطف وبشاشة. وعندما لاحظ صلاح الدين ما حلَّ بالملك من ظمأ وخوف وإرهاق أمر أن يُقدم له الماء المثلج. وشرب الملك حتى ارتوى ثم أعطى الماء إلى أرناط, الذي كان يجلس إلى جانبه, فشرب هذا بدوره. وهنا اعترض صلاح الدين على تصرف الملك, وقال للمترجم قل للملك إنه (لم يأخذ مني في سقيه إذناً فليس له مني أمان), ذلك أن صلاح الدين كان قد أقسم يمينا قبل عدة سنوات بأن يقتل أرناط إذا ما وقع بيده يوما ما, وذلك عقابا له على ما اقترف من جرائم بحق العرب والمسلمين, فمن المعروف أن أرناط, كان قد أغار أكثر من مرة على قوافل الحجاج والتجار المسلمين وألحق بهم أفدح الأضرار, بل بلغت به الوقاحة أنه حاول أكثر من مرة غزو الحرمين الشريفين, في مكة والمدينة, لضرب المسلمين في أعز مقدساتهم. ودارت الأيام ووقع أرناط في أسر صلاح الدين في حطين, كما أشرنا, ولهذا فعندما أعطى الملك جاي الماء لأرناط تنبَّه صلاح الدين لقواعد الضيافة والفروسية عند العرب المسلمين, والتي تقول بأن الإنسان إذا قدم الطعام والشراب للأسير فإن ذلك معناه الإبقاء على حياته وبالتالي لا يجوز له قتله. وهذا يفسر لنا كيف بادر صلاح الدين إلى التأكيد على أن أرناط شرب دون إذنه. ثم التفت صلاح الدين إلى أرناط وأخذ يذكره بجرائمه وغدره وانتهاكه لقواعد الدين والشرف والفروسية.

والمدهش أن أرناط كان يرد على صلاح الدين, وهو تحت رحمته, بوقاحة ووحشية بالغتين, فسل صلاح الدين سيفه وأطاح برأسه. ولاحظ صلاح الدين أن الملك الصليبي أخذ يرتعد خوفاً لأنه ظن بأنه سيلقى المصير نفسه, غير أن صلاح الدين وضع يده على كتفه وطمأنه بأن آداب الفروسية تقتضي (ألا يقتل الملوك الملوك).

ولكن هذا الرجل, أي أرناط, قد تجاوز حده فجرى عليه ما جرى. ويهمنا أن نؤكد أن صلاح الدين أطلق سراح الملك الصليبي الأسير بعد أن أقسم على الأناجيل بألا يُشهر سيفا بعد الآن ضد المسلمين, وأنه سيتوجه إلى الساحل ويُبحر من هناك عائدا إلى بلاده, فصدَّق صلاح الدين ما أقسم عليه فزوده بعدد من رجاله لحراسته حتى وصوله إلى الساحل, ولكن ما كاد جاي يصل إلى طرابلس, حتى التقى بأحد رجال الدين الصليبيين الذي أجاز له التحلل من اليمين التي قطعها لصلاح الدين, بحجة أنه تمَّ أخذه تحت الضغط, ولأنه قطعها لشخص غير مسيحي, ولهذا تعتبر في نظر الكنيسة يمينا باطلة. وبذلك وجد جاي في فتوى هذا الكاهن سندا (شرعيا) لكي يحنث بيمينه وينكث بوعوده لصلاح الدين. وانتهى الأمر بأن استأنف جاي الحرب ضد صلاح الدين, ويُعدُّ سلوك هذا الملك المخلوع نموذجا (لفروسية) معظم الملوك والأمراء الصليبيين...!

ومن الوقائع المذهلة, فيما نحن بصدده, هو ما جرى بين السلطان صلاح الدين والأمير الصليبي باليان, حاكم الرملة. فقد كان هذا الأمير قد فرَّ من حطين قبيل هزيمة الصليبيين بقليل, ولجأ إلى مدينة صور, في حين كانت زوجته في القدس. وبعد انتصار صلاح الدين في حطين وقبيل زحفه إلى القدس لفتحها طلب باليان من صلاح الدين أن يسمح له بالذهاب من صور إلى القدس لإخراج زوجته منها, ووعد بألا يحمل سلاحا ضده وألا يبيت في القدس إلا ليلة واحدة. فوافق صلاح الدين, ولكن ما حدث أنه عندما وصل باليان إلى القدس أمسك به الصليبيون وألحوا عليه بالبقاء ليتولى الدفاع عن المدينة ضد صلاح الدين, لاسيما أن ملكهم جاي لوزجنان كان قد وقع أسيرا في حطين. ووجد باليان نفسه في مأزق خطير, فهو فارس صليبي وعلى دراية بآداب الفروسية, فقد وعد صلاح الدين بعدم حمل السلاح ضده, ولهذا فإذا خضع لرغبة الصليبيين في القدس فإنه سيكون, والحالة هذه, ناكثا بوعده ومخالفا لقواعد الفروسية. ولم يجد باليان حلا لهذا المأزق الأخلاقي سوى التوجه بنفسه لمقابلة السلطان وذلك لاستشارته فيما ينبغي أن يفعل, علما أن السلطان صلاح الدين كان وقتئذٍ يستعد لحصار القدس تمهيدا لفتحها. وبالفعل التقى باليان السلطان الذي أعجب بأخلاق هذا الفارس الصليبي وأحلَّه من التزامه ويمينه, وقال له إذا كان الواجب يفرض عليك البقاء في القدس وحمل السلاح فافعل ذلك.

وتجلَّت فروسيةُ صلاح الدين بصورة أكثر روعة عندما هيأ لزوجة باليان الحراسة اللازمة لإيصالها إلى مدينة صور لانشغال زوجها باليان بتنظيم مسألة الدفاع عن القدس ضد صلاح الدين..!! قد يتساءل البعض هل ما نرويه حقيقة? أم خيال?. والواقع أن ما فعله صلاح الدين هو ما كانت تُمليه عليه مُثل الفروسية وآدابها, وفي الوقت نفسه يبدو أن صلاح الدين قد أعجب بهذا الفارس الذي كان يندر وجود أمثاله بين الأمراء الصليبيين. ولهذا لم يكن صلاح الدين, كما يقول أحد الباحثين, يرفض طلبا لفارس يتمسك بأهداب الشرف وآداب الفروسية وإن كان من أشرس أعدائه.

سلام لأسرى القدس

وعالج صلاح الدين مسألة أسرى القدس بشهامة ونبل لا حدود لهما, فمن المعروف أن صلاح الدين كان قد فتح القدس صلحًا (1187/583), حيث سلَّم الصليبيون المدينة له دون قتال بعد توقيع اتفاقية صلح, اشتملت على السماح للصليبيين بمغادرة القدس بسلام حاملين معهم كل أموالهم; ولكن بشرط أن تُدفع فدية قدرها عشرة دنانير عن كل رجل وخمسة عن كل امرأة ودينار عن كل طفل. ومنحت الاتفاقيةُ الصليبيين مهلة أربعين يوما ليتدبر كل منهم الفدية المطلوبة منه. كما اشتملت الاتفاقية على احترام الأماكن المقدسة المسيحية في القدس وعلى السماح للأوربيين بالحج إليها. وبناء على هذا فقد تمَّ إطلاق سراح الآلاف من الصليبيين. ولكن عندما انقضت المدة المحددة كان لا يزال هناك آلاف من الصليبيين الفقراء الذين عجزوا عن دفع الفدية عن أنفسهم واحتشدوا على أبواب القدس يتوسلون السلطان صلاح الدين والفرسان المسلمين. وهنا تجلَّت فروسيةُ السلطان بأروع صورها, حيث وافق على اقتراح باليان بأن يتم إطلاق سراح سبعة آلاف من الصليبيين الفقراء مقابل مبلغ إجمالي قدره ثلاثون ألف دينار, أي غدت فدية الرجل نحو أربعة دنانير بدلا من عشرة. كما لبى صلاح الدين رغبة أخيه العادل الأيوبي بالموافقة على إطلاق سراح ألف أسير من الصليبيين الفقراء دون فدية, ونزل على رغبة بطريرك القدس الصليبي في إطلاق سراح سبعمائة أسير من الصليبيين الفقراء دون فدية. ومما يضاف إلى ذلك أن صلاح الدين لبى رغبة باليان, مرة أخرى, بإطلاق سراح خمسمائة من الصليبيين الفقراء دون فدية. وأمر بإطلاق سراح جميع الأسرى الصليبيين المسنين رجالا ونساء دون فدية, ثم وافق على طلب النساء الصليبيات اللواتي افتدين أنفسهن بأن يطلق سراح ما كان لهن في الأسر من أزواج وأبناء وآباء, كما أمر أن تقدم للأرامل واليتامى منهن المساعدات المالية من خزائنه قبل سفرهن إلى بلادهن.

والواقع أن المرء ليُدهش إذا ما قارن موقف صلاح الدين من الأسرى الصليبيين في القدس, بموقف الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد من الأسرى المسلمين في عكا بعد ذلك بأربع سنوات, حيث أمر ريتشارد بذبح أفراد الحامية الإسلامية في عكا عن بكرة أبيها (1191), على الرغم من العهود التي قطعها لهم بتأمينهم على حياتهم, وكان عدد أفراد هذه الحامية (2700) من المقاتلين المسلمين, كما أمر بذبح نسائهم وأطفالهم إلى جوارهم ! هذه هي (الفروسية) الغربية كما مارسها واحد من أعظم ملوك الغرب في العصور الوسطى..

ويشهد الباحثون الغربيون أنفسهم بالمعاملة الطيبة التي عامل بها صلاح الدين الصليبيين عندما دخل القدس, حيث منع الاعتداء على أي منهم, بل شكَّل مجموعات من الحراس المسلمين مهمتها أن تجوب شوارع المدينة لتمنع أي عنف أو أعمال انتقامية قد يتعرض لها المسيحيون, وسمح للمسيحيين العرب بأن يعودوا إلى منازلهم في القدس ويتمتعوا بالحقوق التي كانت لهم قبل أن يقوم الصليبيون باضطهادهم وطردهم منها عند احتلالهم لها عام 1099.

كما أظهر صلاح الدين, عندما فتح القدس, احترامًا بالغًا للأماكن المقدسة المسيحية. فعندما طلب منه بعض المسلمين هدم كنيسة القيامة, انتقاما لما ارتكبه الصليبيون بحق الأماكن المقدسة الإسلامية عندما احتلوها, رفض صلاح الدين طلبهم رفضًا قاطعًا, بل ضاعف من الحراسة على الكنائس وغيرها من أماكن العبادة المسيحية ويقارن الباحثون هذه المواقف النبيلة للسلطان تجاه الصليبيين عندما فتح القدس بما فعله الصليبيون عند احتلالهم لها قبل ثمانية وثمانين عاما, حيث افتخر أمراؤهم بأنهم استباحوا المدينة (المقدسة) وأعملوا فيها السلب والنهب, واقتحموا المنازل والمساجد يقتلون ويذبحون, وأنهم خاضوا حتى ركبهم بدماء المسلمين التي سالت في شوارعها أنهارًا.

والأمر اللافت للنظر أن الأسرى الصليبيين الذين منّ عليهم صلاح الدين وأطلق سراحهم دون فدية تعرضوا للأذى على أيدي صليبيي الساحل, أي على أيدي إخوانهم في الدين فقد رفض الأمراء الصليبيون في طرابلس وإنطاكية وصور استقبال هؤلاء الأسرى في مدنهم, بل قاموا بنهب ما تركه لهم صلاح الدين من مبالغ مالية. كما أن أصحاب السفن الأوربية رفضوا نقل هؤلاء الأسرى الفقراء, من السواحل الشامية والمصرية, إلى أوطانهم قبل أن يدفعوا لهم أجورا باهظة, مما اضطر رجال صلاح الدين إلى التدخل وإجبار أصحاب هذه السفن على نقلهم مجانا.

وتحدث المؤرخون المعاصرون عن الموقف النبيل الذي اتخذه السلطان صلاح الدين من بطريرك القدس الصليبي. فقد لبى رغبته, كما أشرنا, بإطلاق عدد من الأسرى الصليبيين الفقراء دون فدية. كما سمح له بأن يغادر القدس, بكل ما يملك من ثروات, بل وزوده بحراسة خاصة للوصول إلى صور دون أن يزعجه أحد. وافتدى البطريرك نفسه بعشرة دنانير فقط, ويقول ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ), إن البطريرك خرج ومعه من أموال الكنائس (ما لا يعلمه إلا الله تعالى). ويبدو أن ذلك أثار استغراب عدد من رجال صلاح الدين, ولا سيما عندما رأوا رؤية العين البطريرك يغادر القدس مصحوبا بعدة عربات مُحمَّلة بالذهب والطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفيسة ويبدو أن أحد المستشارين قال لصلاح الدين (إن البطريرك ينقل أموالا لا تقل قيمتها عن مائتي ألف دينار وقد سمحنا لهم بحمل متاعهم وأما خزائن الكنائس والأديرة فلا يجوز تركها لهم). فأجابه صلاح الدين بأنه لن يغدر بالبطريرك إطلاقا, وأنه ملتزم بالمواثيق والعهود التي قطعها مع الصليبيين, وأنه لن يسمح لأحدٍ بأن يتهم المسلمين بحنث العهود والوعود وأن الصليبيين لن ينسوا ما نغمرهم به من عطف وإحسان.

صلاح الدين يكرم النساء الفرنجيات

وفي غمرة انتصارات صلاح الدين على الصليبيين عامل النساء الصليبيات معاملة كريمة, وفي مقدمتهن زوجات الأمراء الذين حاربوا ضده في حطين. فبعد حطين مباشرة أعطى صلاح الدين الأمان لأميرة طبرية, واسمها أشيفيا, وعاملها بعطف ورفق, وخرجت بأولادها وأصحابها وأموالها آمنة مطمئنة وسيرها إلى زوجها ريموند أمير طرابلس. وعندما دخل صلاح الدين القدس أطلق سراح الملكة سيبيللا, زوجة الملك الصليبي جاي لوزجنان, وأذن لها أن تلحق بزوجها. كما سمح لها بأن تأخذ معها كل ما كانت تملكه من ذهب ومجوهرات ونفائس, فضلا عن أتباعها من الرجال والنساء. كما عامل صلاح الدين أرملة أرناط باحترام كبير, حيث أطلق سراحها, وسمح لها بالخروج من القدس مع أتباعها, كما استجاب لرغبتها بإطلاق سراح ابنها من الأسر بعد أن فتح شقيقه العادل حصني الكرك والشوبك. وأكرم صلاح الدين عندما فتح القدس, على قول ابن الأثير, النساء الروميات (البيزنطيات) اللواتي كن قد ترهبن وأقمن في المدينة ومعهن الخدم والحشم. علما أن بعضهن كن زوجات لملوك بيزنطيين. وقد أعطاهن صلاح الدين الأمان وسيرهن إلى بلادهن تحت حمايته ومعهن كل ما يتعلق بهن.

عطفه على الشيوخ والأطفال

ولم تقتصر فروسية صلاح الدين على الرجال والنساء وإنما شملت الشيوخ والأطفال, من ذلك ما ترويه المصادر من أن العرب المسلمين كانوا قد أسروا في بيروت عام (1191/ 587), نحو خمسة وأربعين فرنجيا وبعثوا بهم جميعا إلى صلاح الدين الذي كان يحارب الصليبيين في ضواحي عكا. ويقول ابن شداد الذي كان شاهد عيان على هذه الواقعة (وقد شاهدت منه رقة ورحمة في ذلك اليوم لم ير أعظم منها رحمة, وذلك أنه كان بين الأسرى شيخ طاعنٌ في السن ولم يبق في فمه ضرسٌ, ولم يبق له قوة إلا مقدار ما يتحرك بها لا غير. فقال السلطان للترجمان: سله ما الذي حملك على المجيء وأنت في هذه السن? وكم من ههنا إلى بلاده? فقال: (أما بلادي فبيني وبينها عشرة أشهر, وأما مجيئي فإنما كان للحج إلى كنيسة القيامة). فرق له صلاح الدين ومنَّ عليه وأطلقه وأعاده راكبا على فرس إلى عسكر عدوه). ويروي ابن شداد أيضًا قصة مفادها أن أحد المسلمين اقتحم خيمة للصليبيين واختطف منها طفلاً فرنجيًا رضيعًا عمره ثلاثة أشهر, ولمَّا فقدته أمه باتت طوال الليل تستغيث فنصحها الأمراء الصليبيون بالخروج إلى معسكر صلاح الدين وقالوا لها إنه ذو قلب رحيم ولن يرد طلبها. وبالفعل خرجت المرأة الفرنجية ووصلت إلى صلاح الدين وبكت بكاء شديدًا, فسأل عن قصتها, فأخبروه فرقَّ لها ودمعت عينُه وأمر بالبحث عن الطفل وإحضاره فورا, وظل صلاح الدين واقفا حتى أحضر الطفل وسُلّم إلى أمه وأرضعته ثم أمر صلاح الدين أن تحمل على فرس وتلحق بعسكر الفرنج مع طفلها, وسط إعجاب الناس ودهشتهم وذهولهم من شهامته ورحمته.

قصته مع قلب الأسد

كان الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد قد شارك في الحملة الصليبية الثالثة (1189-1191) التي استهدفت استرداد ما فتحه صلاح الدين. ودارت معارك طاحنة بين ريتشارد وصلاح الدين,وقد حاول ريتشارد الوصول للقدس ولكنه فشل فشلا ذريعا, ومن ثم اضطر إلى توقيع صلح الرملة مع السلطان عام 1192, وغادر بعدها فلسطين عائدا إلى بلاده. ولكن ما يهمنا من هذه الأحداث هو مواقف صلاح الدين الإنسانية من عدوه ريتشارد. فتذكر بعض المراجع أن صلاح الدين سمع أن ريتشارد قد فَقَدَ حصانه في معركة يافا (عام 1191), فبعث إليه جوادين من أفضل الجياد, لأنه رأى أنه لا يليق بفارس مغوار مثله أن يقاتل رَاجِلاً. كما تحدثت المصادر كثيرًا عن موقف صلاح الدين من ريتشارد عندما سقط الأخير مريضا (1192), فيقول المؤرخون إن ريتشارد بعث أثناء مرضه يطلب من صلاح الدين الفاكهة والثلج والكمثرى والخوخ.. ولم يتردد السلطان في تلبية رغبته على الفور حيث أمده بكل ما يحتاج إليه في مرضه. واغتبط ريتشارد من نبالة صلاح الدين, وأخذت رسُله تتردد على مقر السلطان لتقديم الشكر والامتنان بالنيابة عنه, وهناك رواية تقول إن صلاح الدين حزن حزنا شديدا على ريتشارد في بعض مراحل مرضه, وأنه أرسل له طبيبه الخاص, الذي نجح في علاجه وشفائه.لقد كان صلاح الدين خير ممثل للفروسية العربية الإسلامية في عصر الحروب الصليبية, فقد كان ينبوعا من الشجاعة والكرم والعطف والوفاء والتسامح والعدل, وقد انتزع بفروسيته احترام الغرب وتقديره, وإذا كان معظم الكتاب الغربيين يعترفون بأنه كان أنبل عدو عرفه الغرب عبر تاريخه الطويل, فإن الفرسان الغربيين كانوا يتمنون لو أن صلاح الدين كان مسيحيا. هذه هي بعض صور الفروسية العربية الإسلامية في عصر من أشد عصور تاريخنا اضطراباً وقلقاً... ومن واجبنا ألا نسمح لقيم هذه الفروسية وآدابها بأن تموت أبدا, وألا نحمل أحدا على تجاهلها,بل ينبغي علينا إحياؤها وتمثلها, في ثقافتنا وسلوكنا, في عصر يفتقد الكثير من تلك الآداب والقيم.

 

عادل زيتون