المغول يحكمون الهند سليمان مظهر

المغول يحكمون الهند

ليس أقسى من بعض المؤرخين حين يكونون منحازين غير منصفين في اتهاماتهم العمياء وتصوّراتهم المليئة بالظلم والتعصّب.

فهل يمكن أن يكون المؤرخ الاستعماري سميث منصفًا حين يورد في (موسوعة أكسفورد), ثم ينقل عنه (ول ديورانت) في (قصة الحضارة) عن جيهانكير سلطان المغول المسلمين في الهند ما نصّه: (كان السلطان يستمتع بأن يرى الناس يُسلخون أحياء, وتنفذ فيهم الخوازيق أو يقذف بهم إلى الفيلة تمزّقهم تمزيقًا). كما راح يروي عن السلطان في مذكراته أنه قال: (إن سائسه وبعض أتباعه قدّموا ذات يوم إلى ساحة صيده, وكانوا من عدم الحيطة والحذر بحيث أدى ظهورهم هناك إلى فزع الطرائد, فأمر بالسائس أن يقتل على الخازوق وبالخدم أن تخلخل ركبهم فيعيشوا بقية أعمارهم كساحا. وبعد أن أشرف بنفسه على التنفيذ, مضى غير عابئ إلى صيده. ولما تآمر عليه ابنه خسرو جاء بسبعمائة من أنصاره وأنفذ فيهم الخوازيق, وأمر بأن يصفّوا صفّا على امتداد الطريق إلى لاهور, بل وملأته الدهشة لطول ما انقضى على هؤلاء الرجال من زمن حتى فاضت أرواحهم....?!).

وهل يمكن أن يفعل ذلك قائد مسلم آمن بدينه حتى ثار على أبيه (أكبر) أعظم سلاطين المسلمين في الهند, لأنه لم يتصوّر أن يخرج أبوه على دينه الحق ليتقرّب الناس إليه من أصحاب العقائد الأخرى فيجمع أصولها ويجعل منها ما ابتدعه تحت اسم (الدين الإلهي) أو (الألوهية الواحدة), فيفسد على المسلمين عقيدتهم السمحة, ولا يجد الابن إلا أن يعلن الثورة على أبيه والخروج عليه, وبخاصة ما أثاره أبوه من أبحاث وأعمال وتقاليد من الناحية الدينية جعلته موضع غضب الكثير من رعيّته من المسلمين. فكان أول ما فعله الابن جيهانكير - وقد غرس في أعماقه مربيه الصالح المسلم الشيخ سليم السكروي الذي أطلق عليه اسم سليم يوم سلمه له السلطان أكبر - أن سارع بإبطال وإلغاء فكرة الدين الإلهي والأفكار التي قامت حوله, فهدأت بذلك نفوس المسلمين في الهند, وعلى قدر ميولهم ونزعاتهم يكذب المؤرخون ولو صدقوا...!).

سياسة أكبر القومية

والحق...إن عصر السلطان المسلم جلال الدين أكبر - بصرف النظر عمّا ابتدعه من حكاية الدين الإلهي - كان بداية قمة الازدهار للحكم الإسلامي المغولي في الهند, والتي استكملت في عهد ولده جيهانكير. لقد امتد حكم السلطان أكبر لأكثر من خمسين عامًا آخرها عام 1605 كان قد اختط خلالها لنفسه سياسة جديدة في حكم الهند تختلف عن غيره من الملوك المسلمين الذين حكموها. وقام حكمه على أن (الهند للهنود لا للفاتحين) لهذا سار في الحكم على أساس قومي لا تفريق فيه بين جنس وجنس, وأهل دين ودين, مضحّيا في سبيل تلك السياسة القومية التي سار فيها إلى آخرها حتى ببعض أوامر الدين. وكان يهدف إلى كسب ودّ الشعب الهندي على دعائم من رغبات الأهلين ومصالحهم. ونظر هذا الشعب فوجد حاكمه يسوسه هذه السياسة القومية الهندية ويجعل من كابل وقندهار الأفغانيتين ولايتين تابعتين للهند. بدلا من أن تكون الهند محكومة من كابل, وحينئذ أخلص أبناء الهند له الطاعة, لاسيما الهندوس وراجاواتهم, إذ رأوا أن شعار حاكمهم المسلم هو عدم التفرقة بين أبناء الوطن الواحد. وأنه ألغى ما كانوا يضيقون به من الجزية التي كانت تشعرهم بالمهانة. وأتيحت لهم مساهمة كبيرة في وظائف الدولة الكبيرة والصغيرة حتى رأوا كثيرا من الأمور في أيديهم. ووجد الهندوس في عهد أكبر مالم يجدوه من قبل, وما كانوا يحلمون به أو يتخيّلونه وبخاصة حين عقد مصاهرات بينهم وبين السلطان وأبنائه وأمرائه, وأدخل كثيرًا منهم في حاشيته وتغلغل نفوذهم في إدارة الحكم. كل هذا جعل منهم رعايا مخلصين متفانين بعد أن كانوا من ألد أعداء الأباطرة والحكّام المسلمين. وقد اعتبرت هذه السياسة الجديدة انقلابًا مهمًا في سياسة حكم المسلمين في الهند. بل إن المسلمين الواسعي الأفق أنفسهم لم يعترضوا على هذه السياسة أو معظمها على الأقل, بل رأوا في عهد أكبر وسياسته نحو رعاياه صورة من صور المبادئ الإسلامية العادلة التي تحرص على العدل بين جميع الرعايا والمحكومين.

كان من أبرز سياسات السلطان القومية بعد إزالة الفوارق بين المسلمين والهندوس في دفع الضرائب أن ألغى ما كان يدفعه الهندوس من رسوم عند زياراتهم لأماكنهم المقدسة, وأعان الزراع وثبت ملكياتهم للأرض, وتجاوز عن ديونهم المتأخرة. وكانت له إصلاحات اجتماعية بارزة وأوامر إدارية إلى نوابه وولاته تدل على مبلغ رقيّ الحكم في عهده. فقد منع الزواج قبل سن الرشد وأباح للأرامل الهندوسيات الزواج وكن لا يتزوجن. كما منع المرأة من إحراق نفسها مع زوجها عندما يموت. وامتنع عن جعل أسرى الحروب عبيدا, ومن أوامره لحكامه أن يحيطوا علما بأحوال رعيّتهم ويعاملوا الناس معاملة حسنة, وبخاصة المعدمون والفقراء, وأمرهم بعدم العفو عن المجرمين, وألاّ يقبلوا الهدايا ولا يعترضوا على المخالفين لهم في الدين, فهم إن كانوا على حق فلا يصح الاعتراض عليهم, وإن كانوا على الباطل فهم مرضى يجب الرفق بهم, ومنع أكبر اغتسال الرجال والنساء سويا في الأنهار, كما منع شرب الخمر وعصرها, ومنع إرغام أحد على الإسلام. ومن أرغم فله الخيار, فللناس الحرية التامة في اعتناق أي دين يريدون.

ويقول شكيب أرسلان في كتابه عن حاضر العالم الإسلامي (إنه لأجل زيادة التآلف بين الهنود والمغول المسلمين أشار أكبر بزواج بعضهم من بعض, وبدأ في ذلك بنفسه فتزوج أخت الراجا (يخفان داس) وزوّج ولده جيهانكير من حفيدة (راجا مارفار), وزوّج كثيرا من الأمراء بزوجات من الأسر المالكة, فوشج بذلك علاقات النسب بين الجانبين, فتوطدت دولته وأمن شر العواقب). وقد اختار أكبر الكثير من عادات الهندوس وشاركهم في أعيادهم وترك زي الآباء وارتدى زيّهم. وقرب إليه الكثير من علماء البلاد وأمرائهم. فمال إليه الهندوس وحسبوه كواحد منهم وقاتلوا عنه وأعانوه على الثائرين ولو كانوا إخوانهم في الدين. ويقول جوستاف لوبون: (يعد عهد السلطان المسلم أكبر من أنصر العهود الجديرة بأطيب الذكر). ونرى النظم التي وضعها من أكثر النظم ملاءمة للشعوب التي ملكها, وكتب لكثير من هذه النظم البقاء بعده).

جيهانكير وعصر القمة

ودفع جيهانكير حرصه البالغ على ضمان إجراء العدل المطلق في دولته بالوقوف على شكاوى رعاياه والنظر في تحقيقها بنفسه حتى أنه أمر بعد سلسلة العدالة التي ذاع صيتها عنه. وقال في يومياته التي كتبها بنفسه (إن أول ما أمرت به بعد الجلوس على العرش هو مد سلسلة العدالة ليجذبها صاحب الشكوى لتهز أجراسها وأنزل بنفسي لأطلع على شكاوى المظلومين من إهمال رجال ديوان العدالة لأعيد للناس حقهم) (أما سلسلة العدالة تلك فكانت من الذهب الخالص بطول ثلاثين ذراعا, وتتدلى منها أجراس سبعة وتمتد من شرفة البرج السلطاني الخاص بقلعة اكرا).

ويقول المؤرخ المسلم د. الساداتي (إن جيهانكير كان في أسفاره ورحلاته الكثيرة لا يني عن تقصي أحوال الناس والجلوس إليهم وتحقيق مظالمهم بنفسه, وقد دعم السلطان صنيعه هذا بإصدار دستوره المسمى (أمل)) الذي لم يسبقه إليه أحد.

دستور أمل

جعل السلطان دستوره من اثتني عشرة وصية وجهها إلى عماله ليسيروا على هديها في علاقاتهم برعاياه وتدبيرهم لشئون الدولة. وقد نظم هذا الدستور وظائف الدولة ومناصبها المدنية والعسكرية والدينية على السواء. وفسر شئون الميراث وقوانين الضرائب. ودفع عن كاهل الأهالي ما كانوا يلزمون بدفعه للولاة والعمال من الضرائب ليفيدوا منها لأنفسهم. كما حذر العقاب البدني مهما بلغ عظم ذنب المذنب, وكذلك حرم هذا الدستور تعاطي الشراب وصناعته وتجارته. وحضّ على إقامة دور الشفاء في كل أنحاء البلاد وتزويدها بالأطباء على أن تقوم الدولة بالإنفاق عليهم, فتصرف الغذاء والدواء للمرضى بالمجان. وحرم على الولاة والعمال استخدام أقاربهم في مناصب الولايات أو مصاهرتهم إلى الأهالي دون إذن صريح من السلطان. وحثّهم على إضفاء الأمن والطمأنينة على الناس, فلا تغتصب أملاكهم أو أموالهم. وأن يكفوهم أخطار اللصوص وقطّاع الطرق بتعمير الأرض الخلاء التي يأوي إليها الأشرار عادة, وذلك ببناء الدور والمساجد بها. وحفر الآبار فيها ليأنس الناس إليها. ونظم الدستور مسكوكات الدولة من الذهب والفضة والنحاس وجعل لكل صنف منها علامة مرسومة. وكان من أبرز ما حرص عليه هو التشبث بالتسامح المطلق بإزاء رعاياه من الهندوكيين على الخصوص, فقرّبهم إليه وفتح لهم باب المناصب الرفيعة.

من خلال دستور أمل, استطاع السلطان المسلم جيهانكير اكتساب حب رعاياه من مسلمين وهنادكة وسيخ ومختلف الطوائف في البلاد بمن فيهم المنبوذون الذين كانوا يعيشون حياة ذل وقهر وحرمان. فقد شمل عدله الجميع. وحتى أسرى حروبه وفتوحاته في البلاد المجاورة أحسّوا معه بالأمن والأمان والعدالة المطلقة. وحين وقعت الاضطرابات في البنغال كان من حسن صنائعه مع الزعماء الثوّار من البنغاليين أن عفا عنهم وقلّد بعضهم مناصب في الدولة حتى ركنوا إلى طاعته وتفانوا في خدمته.

فنون التصوير

يقول الدكتور ثروت عكاشة في كتابه عن (التصوير الإسلامي المغولي في الهند) على ضوء الكثير من المراجع:

(كان لدى نورجيهان طموح كبير لتولي كل الأمور, حتى أنها أحاطت نفسها بكثير من بني جلدتها من رجال الفرس, وخلعت على أبيها لقب اعتماد الدولة, وجعلت أخاها اصف خان رئيسا لتشريفات السلطان متحكما في القصر, فأصبحت بهما وبمن حولها ذات سلطة كبيرة, تدير من خلالها الأمور كما تشاء). ويضيف الدكتور عكاشة: (وبالرغم من كل ذلك, فقد كانت مولعة بالفنون, فإذا هي تسرف في ضريح أبيها فتجعله على درجة عظمى من الفخامة. كما كانت ذات خبرة واسعة بالعطور, جوادة كريمة حاذقة في الرماية. وقد لعبت دورًا كبيرًا في تطوير فن التصوير المغولي بإشاعتها إحساسا جديدا بالرقة, تجلى في ثيابها البيضاء الرهيفة الشفّافة. أما في مجال العمارة والإنشاء وفنونهما, فقد تجلى حذقها في الرخام الأبيض المكفت في تصوير العمائر, حتى باتت حقبة حكم جيهانكير تعد العصر الذهبي للتصوير المغولي. ومع كل ذلك فهي لم تنس أن تكون وفية لزوجها الوفاء كله حريصة كل الحرص على أن تفرج عنه). ومن أجل كل ذلك - كما يقول المؤرخون - ازداد تعلق السلطان بها حتى لم يعد يستغني عن وجودها إلى جواره. وقد ساعدته في الكثير من مشروعاته ولم تقصر جهودها على الخير وتحرير المرأة الهندية. فنهضت بها ورفعت الكثير من المظالم عنها. وساهمت مساهمة فعّالة في معاونة الفتيات الفقيرات على الزواج. وأكثرت من الاهتمام بالنواحي الاجتماعية التي نسبت كلها إلى عهد زوجها جيهانكير.

العمارة الإسلامية

لقد كانت العمارة الإسلامية والإنشاءات الفنية الرائعة من أبرز صور التفوّق الفني في عصر الأمة الإسلامية المزدهرة في الهند. وبخاصة أيضًا فترة مابعد جيهانكير وزوجته نورجيهان. وقد كان عصر ولده شاه جيهان زاخرًا بألوان كثيرة من دلائل الرخاء والرفاهية لم تشهد له الهند مثيلاً من قبل. ويقولون إن شاه جيهان عملاق في تاريخ التطور الهندي الثقافي, وذلك بآثاره الفنية الرائعة التي ظلت, وستظل عنوان صدق على الرقي الذوقي والفني والازدهار المالي في عهده مما لم تره الهند من قبله ولا من بعده. ويقف الإنسان مذهولاً حين ينظر إلى هذه الآثار والمباني الكثيرة التي خلفها, فتروعه ضخامتها وكثرتها, مما يدفع إلى الإحساس بالفخر والإعجاب والتقدير لهذا السلطان الفنان الذي ارتفع بذوقه إلى هذا الحد. ولعل من أبرز تلك العمائر القلعة الحمراء في دلهي, والتي أقامها لسكناه وبنى سورها من الحجارة الحمراء, واشتملت على أمكنة عدة لقيام السلطان ونسائه وحاشيته ومجلسه الخاص والعام. وفي جزء من القلعة أقام السلطان مسجدًا يعتبر تحفة في عالم البناء يسمى (مسجد اللؤلؤة) من الرخام الخالص. أما المسجد الجامع الذي يواجه القلعة, فيعتبر أفخم مسجد بناه سلطان في الهند كلها, ويقوم على مرتفع من الأرض عمّا حوله. والجزء الأكبر من مساحته غير مسقوف, ويقوم في وسطه حوض كبير للوضوء. والجزء الغربي منه المسقوف, ويقوم سقفه على أبنية وأعمدة معقودة فخمة وأرضه من المرمر والجدران مكسوّة بالمرمر, وكذلك منبره بجدرانه المرمرية الرائعة.

ولن يستطيع أحد أن ينسى أن قمة ازدهار فن العمارة الإسلامية في الهند تتمثل في أعجوبة الدنيا (تاج محل) الذي أقامه شاه جيهان لزوجته ممتاز محل لتدفن فيه. وهو ذلك الأثر المرمري الرائع بمناراته الأربع العالية المكسوّة بالمرمر الأبيض والذي لا يوجد له نظير في العالم, وينطق برقي الذوق والفن وهندسة البناء مما يجعله مفخرة الهند بحق, وسيظل نوره يشع على العالم على مدى الدهور والأعوام, وشاهدًا على قمة ازدهار حكم المسلمين في الهند.

 

سليمان مظهر