في أيامه الأخيرة, كان السياب مسكونا بالغربة, تائهًا في واحة, لا
يملك سوى نايه الحزين, يعزف عليه أنغامه الرمادية الكئيبة بعد أن تخلى عنه كل
أصدقائه, ما خلا صديق كويتي نبيل, هو الشاعر علي السبتي.
ففي الشهور الأولى من سنة 1961 دهم المرض بدرًا, وكانت بداياته شعوره
بخدر في الأطراف السفلى, فكان لا يحرك رجليه إلا بصعوبة. كان تشخيص المرض في
البداية, فقر الدم. وفي الأشهر التالية كان يشعر أنه يذبل شيئًا فشيئًا, كانت أعراض
المرض تنبئه بأن موته آت لا ريب فيه.
أخذ السياب يتردد على عيادات الأطباء للعلاج, ولكن ذلك لم يعد مجديا
آنذاك فلا بدّ من علاج سريري تحت إشراف أطباء أكفاء.
في الثامن عشر من أبريل 1962, سافر السياب إلى بيروت, فأدخل مستشفى
الجامعة الأمريكية هناك, وكانت نتائج الفحوصات الطبية تؤكد إصابته بـ (مرض في
الجهاز العصبي, وأعراض تصلب جانبي ضموري), وبعد أن خرج الشاعر من مستشفى الجامعة
الأمريكية, أخذ يتردد على عيادة طبيب ألماني يقيم في بيروت اسمه (زويتش) إلى أن
سنحت له الفرصة بالسفر إلى لندن, فقد أرسلته المنظمة العالمية لحرية الثقافة التي
كانت تتكفل بنفقات دراسته كطالب في الجامعة, حيث كان بدر يهتم بدراسة الأدب
المقارن.
أغثني يا زعيمي
وفي السادس عشر من ديسمبر 1962, وصل السياب إلى لندن, مدينة الطب
والطمع والضباب المدينة التي لا مكان فيها لعظيم إذا كان مفلسا مثل السياب.
ولما لم يعد الشاعر يجد ثمن الدواء, وعزّ ذلك حتى على الخلّص من
أصدقائه اضطر إلى إطلاق صرخة استغاثة بعنوان (أغثني يا زعيمي) - يقصد عبدالكريم
قاسم (الزعيم الأوحد) آنذاك, أملا في الحصول على معونة مالية يستعين بها على وعثاء
المرض, غير أن تلك الصرخة كانت في واد وذهبت أدراج الرياح, تتردد أصداؤها في لندن.
لقد باءت بالفشل كل محاولات علاج السياب, مما اضطره للعودة إلى العراق في الخامس
عشر من مارس 1963, عاد وهو لا يملك من حطام دنياه غير قلم وأوراق تحمل آخر قصائده,
منها قصيدته (سفر أيوب) التي يعتبر فيها الرزايا عطاء:
لك الحمدُ مهما استطالَ البلاءُ
ومَهْما استبدَّ الألمْ,
لك الحمد
إنّ الرزايا عطاءٌ
وإن المصيباتِ بعضُ الكَرَمْ
ألم تعطني أنت هذا
الظلام?
وأعطيتني أنت هذا السحر?
فهل تشكر الأرض قطر المطر?
أتغضب إن لم
يجدْها الغمام?
شهور طوال, وهذه الجراح
تمزّق جنبيَّ, مثل المدى!
ولا يهدأ
الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ذكريات السبتي
يقول الشاعر الكويتي علي السبتي: (كنت معجبًا إلى حد كبير بشعر
السياب, وعندما التقيته لأول مرة في البصرة ازداد إعجابي به, وأصبح بعد ذلك من أعز
أصدقائي, ثم باعدتنا الأيام, إلى أن جاء يوم وقع أمام عيني مقال منشور في مجلة
(الحوادث) اللبنانية بقلم الأستاذ إلياس سحاب يتحدث فيه عن بدر الشاعر المريض الذي
لا يحصل على العلاج الكافي, وأنه مهمل في المستشفيات وطريق الموت يتسع أمامه. لقد
هزّ مشاعري هذا المقال, وتألمت كثيرًا على بدر, فكتبت بدوري مقالا في مجلة (صوت
الخليج) الكويتية, طلبت فيه من السيد وزير الصحة الكويتي أن يتبنى علاج بدر في
المستشفيات الكويتية, وفعلا اهتم السيد الوزير بما جاء في مقالي, حيث اتصل بي طالبا
عنوان بدر للاتصال به.
بعد بحث واستقصاء, علمت أن بدر كان يتلقى العلاج في مدينة (درم)
البريطانية, وقد غادرها إلى جهة مجهولة. أخبرت وزير الصحة وأضفت بأنني سوف أعلمه
بأي معلومات جديدة عن مكانه فور حصولي عليها. بعد فترة قصيرة كنت في زيارة لمدينة
البصرة, وعرفت فيها بأن بدرًا يرقد في المستشفى الجمهوري, فزرته هناك, ووجدت حالته
الصحية تدعو للأسف, لا علاج, لا نظافة, لا متابعة لوضعه. كان كشجرة مهملة يبست
أوراقها ولا تحظى بأي اهتمام, فعرضت عليه الانتقال إلى مستشفيات الكويت, فوافق على
الفور, فاتصلت هاتفيا بوزير الصحة الكويتي وأخبرته بعودة بدر إلى البصرة, وموافقته
على تلقي العلاج في الكويت, فرحّب الوزير به, وقال نحن بانتظاره.
وبعد أيام قليلة تم نقل بدر من البصرة إلى الكويت في السادس من يوليو
1964 وكان في استقباله الأستاذ علي السبتي, وناجي علوش, والأستاذ فاروق شوشة, وقد
أخذوه إلى المستشفى حيث تشكلت لجنة طبية خاصة للإشراف على علاج السياب الذي جاء بكل
تقاريره الطبية التي تشير إلى وضعه المرضي, وبضمنها تقارير مستشفى البصرة الجمهوري,
ومستشفى (درم) البريطانية, مع تقارير أخرى من فرنسا.
اللجنة الطبية الكويتية الخاصة أكدت أن علاج بدر سيطول, لتدهور وضعه
الصحي, كما أنه يحتاج إلى عملية جراحية سريعة يمكن أن تنجح لو أجريت في مستشفى آخر,
هو المستشفى الأميري. في المستشفى الأميري, أشرف على علاج السياب طبيب مصري مختص
بالأمراض الباطنية اسمه د.محمد أبو الشوك, وكان يساعده د.عبدالله مبارك الرفاعي.
كان السياب يعاني شللاً نصفياً لسببين, أولهما, مرضه المزمن, والثاني عامل وراثي
لأن هناك أفرادا من عائلته, أصيبوا بمرضه نفسه, وهذا ما أشار إليه د.عيسى بُلاّطه
في كتابه عن السياب بعد اطلاعه على ملف علاجه في المستشفى الأميري بالكويت.
المريض عندما يحب!
كان السياب في حالة حب دائمة حتى وهو على حافة الموت! يؤكد هذه
الحقيقة صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي بقوله: (لقد حدثني مرة عن واحدة من
علاقاته النسائية, عن ممرضة لبنانية اسمها (ليلى) تعرّف عليها بدر عندما رقد ذات
مرة في مستشفى بيروت, وكانت ليلى هي الممرضة المسئولة عن علاجه. لقد كانت تعطف
عليه, وهو يفسّر من جانبه هذا العطف بأنه حب! لقد أخبرت بدرا, وهو راقد في المستشفى
الأميري, بأنني ذاهب إلى بيروت لفترة قصيرة فطلب مني أن أمر على المستشفى اللبناني,
وأن أسلّم له على ليلى الممرضة التي يحبّها وتحبّه! وفي بيروت ومن أجل معالجة
السياب نفسيًا دار الحوار الآتي بين الشاعر علي السبتي والممرضة ليلى, قال لها
السبتي:
- إن بدرًا يحبك يا ليلى.
إن ما بيننا لا يمكن أن يسمّى حبا, فهو مجرد
علاقة بين ممرضة ومريض فقط.
- ولكنه بحاجة إليك يا ليلى.
- وماذا باستطاعتي أن أفعل له?
- الكثير... اكتبي له أولاً بأنك تتذكرينه.
- هذا محال.
- أرجوك, إن هذا ينفعه كثيرًا ويساعده على استرجاع أنفاسه وقد ينقذه من
الموت المؤكد الذي يحاصره.
- ماذا تريد مني أن أفعل?
- اكتبي له رسالة, تستفسرين فيها عنه وعن أحواله, وتعبرين في سطورها عن
اشتياقك له.
- حسنا, سأكتب له كل ما طلبت.
وفي اليوم التالي, تسلم الشاعر علي السبتي رسالة الممرضة ليلى إلى
(محبوبها) السياب, ثم غادر بيروت متوجّها إلى الكويت, حيث كان بدر شاكر السياب
راقدا في المستشفى الأميري.
ويضيف الشاعر السبتي: (في لحظة اللقاء الأولى معه, سألني بدر: هل
قابلت ليلى? ما أخبارها? ضحكت, ثم قلت له وأنا أمد له رأسي, هذه قبلتي أولا لك
بمناسبة عودتي من لبنان, وهذه قبلة ثانية, طلبت مني ليلى أن أطبعها على جبينك, فرح
بدر كثيرا بهذا الكلام, وقد ارتسمت على وجهه ابتسامات عريضة غطت على وجهه, وطلب مني
ورقة, كتب عليها على الفور قصيدة عمودية مطوّلة عنوانها (ليلى) وهي من أجمل قصائده
الغزلية منها هذه الأبيات:
قرِّبْ بعينيك منّى دون إغضاء |
|
وخلِّني أتملَّى طيف أهوائي |
أبْصَرْتَها? كانت الدنيا تفجّر
في |
|
عينيك دنيا شموس ذات آلاء |
أبْصَرْت ليلى فلُبْنان الشموخُ
على |
|
عينيك يضحك أزهارا لأضواء |
إني سألثمها في بؤبؤيك كَمَنْ |
|
يُقبِّلُْ القمرَ الفضيّ في
الماء |
ليلى هواي الذي راح الزمانُ به |
|
وكاد يفلتُ من كفّيَّ
بالداءِ |
حنانها كحنان الأم دثّرني |
|
فأذهب الداء عن قلبي
وأعضائي |
لقد كان السياب شاعراً ذا خيال, والخيال موهبة عظيمة يحتاج إليها
الشاعر الحقيقي, ولعل عواطفه المجنونة تجاه الممرضة (ليلى) كانت تصب في نظرية
الخيال الشعري التي تُعدّ وسيلة لبناء العالم الفني.
بعد انقضاء فصل الصيف لعام 1964, وابتداء فصل الخريف, اشتدّ المرض على
السياب, وكان يردد كلامًا يريد أن يكتبه على شكل قصيدة يستنجد فيها الإمام علي بن
أبي طالب - رضي الله عنه - ليعينه على بلوى المرض الذي ينخر في عظامه. كما كتب إلى
سمو الأمير عبدالله السالم الصباح, وهي في الحقيقة رسالة على شكل قصيدة, يرجو فيها
أمير دولة الكويت مساعدته في إرساله إلى سويسرا لتلقي العلاج هناك, لأنه علم بأن
هناك أطباء أكفاء باستطاعتهم إنقاذه من المرض, لقد بقيت القصيدة مختفية لدى الشاعر
الكويتي علي السبتي لمدة طويلة, ولم تُنشر إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على وفاة
السياب, بعد أن طلب جهاد فاضل, المحرر الثقافي في مجلة الحوادث آنذاك, نشرها.
المعول الحجري
في المستشفى كان السياب بانتظار ساعة الرحيل إلى عالم اللاعودة, كان
يتخيل صورة حفار قبره, وكان صوت (المعول الحجري) يرنّ في أذنيه, كان يحس بأن هذا
المعول هو الذي سيحفر به أصدقاؤه قبره, فكانت قصيدته الأخيرة قصيدة الوداع:
رنين المعول الحجري في المرتجَّ من نبضي
يُدمر في خيالي صورة
الأرض,
ويهدم برج بابل,
ويقلع الأبواب,
يخلع كل آجّرة,
ويحرق من
جنائنها المعلّقة الذي فيها, فلا ماء, ولا ظلٌّ, ولا زهرة,
وينبذني طريدًا عند
كهف,
ليس تحمي بابَه صخرة.
ولا تدمي سواد الليل نارٌ,
فيه تحييني
وأحييها
وداعا يا أحبائي.
على سرير المستشفى بالكويت, كادت الروح توشك على مغادرة الجسد الذي
هدّه المرض, كان الشاعر الكويتي علي السبتي يقف إلى جانبه, والشاعرة سلمى الخضراء
الجيوسي تقف إلى الجانب الآخر, ويبدأ السياب الحوار مع سلمى:
- سلمى?
- نعم يا بدر
- ضاع شعري الجديد... ضاع
- شعرك لم يضع يا
بدر
- إقبال لم تجئ... لقد ضاع مني كل شيء حتى زوجتي
- هُراء... إن ما ملكت
لا يضيع يا بدر, ما كان أفقرنا لو ضاع منا ما أعطيت.
الرسالة الأخيرة
في الثامن عشر من ديسمبر سنة 1964, قبل رحيل السياب بستة أيام فقط,
وصل ساعي البريد إلى مكتب جريدة (كل شيء) ببغداد.
الرسالة تحمل طابع بريد كويتيًا, تسلمها الأديب الصحفي عبدالمنعم
الجادر, رئيس تحرير الجريدة, وبعد أن فضّ غلاف الرسالة أخذ يقرأ:
(ولا أكتمك يا صديقي أن نوعا من الود بدأ يأخذ طريقه بيني وبين عوالم
المرض التي تحيط بي, نوع من السرور يسري في أعماقي وأنا أشاهد صحتي تتحسّن.
سنلتقي قريبًا, وسأطالبك بجلسة عند شاطئ دجلة بشارع أبي نواس, في ليلة
نسامر فيها البدر, ليلة نسترجع فيها المطر قليلا, لنرتاج من طرقاته اللذيذة على
أبوابها.
وكم أودّ جلسة أخرى في مقهى (الكسرة) نسترجع فيها ذكريات
(الجلبية).
كانت حالات الغيبوبة تصيب السياب في أيامه الأخيرة, فيتكلم بلا وعي,
وكان يقرأ الشعر مع نفسه باللغة الإنجليزية, ويشتهي أكلة (السمك المسقوف) تحت ضوء
القمر وحبّات المطر, ويتمنى أن يرى عائلته قبل أن يدهمه الموت فجأة.
وعند ظهيرة الخميس, الرابع والعشرين من ديسمبر 1964, خرجت من الكويت
سيارة رقمها 20322 كويت متجهة إلى البصرة, وهي سيارة الصديق الوفي الشاعر علي
السبتي, كانت تحمل جثمان الشاعر الكبير بدر شاكر السياب.
بكى الشاعر السبتي بجانب جثمان صديقه السياب, هذا الصقر الذي حطمت
جناحيه العاصفة, وأصبح جثة هامدة, بلا حركة بلا ضوء, بلا وتر, بلا نغم.
واستدارت السيارة الكويتية نحو مقبرة الحسن البصري في الزبير بالبصرة,
ولم يمش في تشييع الجثمان سوى ستة أشخاص, كان من بينهم الصديق الشاعر الكويتي
الأصيل علي السبتي, وكان المطر الذي أحبّه بدر هو الآخر ضمن المشيعين, فقد عانق
جثمانه من الكويت حتى الزبير.
لقد توقفت نبضات السياب, فاستراح جسده العليل الذي أعياه الداء
والدواء, رحل الشاعر الكبير بعد رحلة مرهقة وطويل مع الألم والمكابدة ظل خلالها
يتربع على عرش الشعر العربي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين, وكان شعره وإبداعه
بحق وليد المعاناة, وكان - كما يقول الناقد يوسف اليوسف: (الروح.. في حضرة
الموت).