الأدب العبري.. المرجعيات - المصطلحات - الرؤى حسن حميد عرض: د. ياسين الأيوبي

الأدب العبري.. المرجعيات - المصطلحات - الرؤى

نادرة هي الكتب والدراسات التي تبحث في الأدب العبري, قياسًا على ما يُبحث ويُنشر حول الشئون السياسية والتاريخية لكل ما يمتّ بصلة إلى اليهود والصهيونية في العصر الحديث, ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب.

مؤلف هذا الكتاب هو حسن حميد, رئيس تحرير جريدة (الأسبوع الأدبي) التي يصدرها اتحاد الكتّاب العرب بدمشق, وكتابه: (الأدب العبري: المرجعيات - المصطلحات - الرؤى) صدر في دمشق عن دار السوسن 2001م, درس فيه المؤلف عدداً من القضايا والمحاور.

تنحصر مرجعية الأدب العبري في أمرين اثنين: ديني يتمثل في التوراة والتلمود, وفكري يتمثل في الرؤى السياسية والاجتماعية والاقتصادية لواقع اليهود ومستقبلهم. ظهرت هذه الرؤى جليّة في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل بسويسرا عام 1897م, مع الإشارة إلى أن الصهيونية وأفكارها لم تكن فكرة اليهود أساسًا, بل كانت فكرة أوربية خالصة, تبنّاها اليهود, فعقدوا لها مؤتمرهم المذكور.

ويعرض المؤلف لأربعة أنواع لأدب اليهود هي:

1- الأدب اليهودي: الممتد في جذوره إلى التوراة والتلمود, وينقسم إلى قسمين: أدب يهودي قديم, وأدب حديث, وكلا الأدبين, يعتمد أحيانًا إحدى لغتي اليهود: اليديشيّة المعروفة في ألمانيا, واللادينيو لغة يهود إسبانيا.

2- الأدب الصهيوني, تغْلب عليه الروح الأيديولوجية للصهيونية المتشكلة عقب حركة البروتستانت في أوربا في القرن السادس عشر.

ليس هناك لغة موحدة لهذا الأدب, فهناك الأدب الصهيوني الفرنسي, والإنجليزي والعبري, بحيث لا يفترض بالضرورة أن يكتب هذا الأدب اليهود فقط, فهناك أعمال أدبية صهيونية لأوربيين مسيحيين, كرواية (دانيال ديروندا) للروائية الإنجليزية: جورج إليوت (1819-1880م).

3- الأدب العبري, المكتوب باللغة العبرية, ظهر في أوربا على أثر الحركة البروتستانتية, وينقسم هذا الأدب, جغرافيًا إلى قسمين:

أدب عبري فلسفي كتب قبل قيام الكيان الصهيوني بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر, وأدب عبري إسرائيلي كتب في فلسطين 1948م.

4- الأدب الإسرائيلي, محصور ضمن حدود فلسطين, ويتضمن كل الآداب السابقة: فهو أدب يهودي, لأن غالبية كتابه من اليهود, وصهيوني, لاعتماده الأيديولوجية الصهيونية, وعبري, لأنه مكتوب باللغة العبرية الحديثة.

التبشير بالصهيونية

نشأت البروتستانتية على أثر استفحال نفوذ الكنيسة الكاثوليكية, ولاسيما في فرض تفسير واحد للكتاب المقدس, وفيه إدانة صريحة لليهود بمقتل السيد المسيح.

فرفض البروتستانت - كما يقول المؤلف - هذا التفسير, وغيره من مفاهيم ومعتقدات كاثوليكية, وبَرّأوا اليهود من تهمة قتل المسيح, ودعوا إلى اعتماد الكتاب القديم بكل ما جاء فيه, واعتباره مقدّسًا لا يمكن تجاوزه, فشاعت الأوصاف القديمة لمناقبية اليهود, وحقوقهم وسموّ عرقهم, الأمر الذي تطلّب معرفة الناس باللغة العبرية لإتقان سلوكية الإيمان, وعدم الوقوع في المحرّمات. وبذا تكون البروتستانتية هي التي أوجدت لليهود حضورهم في أوربا والعالم معًا.

نتج عن ذلك أيضًا شيوع الآداب الأوربية التي دعتْ وأوحت باستلهام الموروث الديني اليهودي, وضرورة إيجاد وطن قومي لليهود.

ومن أشهر الأعمال الأدبية التي سارت في هذا الاتجاه المطوّلة الشعرية الذائعة الصيت: (الفردوس المفقود) للشاعر الإنجليزي جون ملتون (1608-1674م) (الذي طبّل له العرب وزمّروا طوال أزمان وأحقاب عدة باعتبار كتابته فتحًا إبداعيًا, ومع الأسف لم يكن صنيعه الشعري سوى (الأرض الموعودة) التي تعنى اليهود تمامًا).

ومثل ذلك, دعوات الأديب الإنجليزي ألكسندر بوب (1688-1744م) المبشّرة بالمملكة اليهودية المستعادة, وقصائد اللورد بايرون (1788-1824م) الذي بكى طويلاً على فقدان اليهود لوطنهم المقدس, ودعا في غير قصيدة إلى تحرير القدس.

كذلك الشاعران الإنجليزيان وليم ووردزورث (1770-1850) وروبرت براوننغ الذي ألحّ في شعره على ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين.

ومثلهم الكاتب الإنجليزي والتر سكوت (1771-1832م) في روايته الشهيرة (إيثنهو), وفي عدد آخر من أعماله التي دعا فيها إلى إيجاد وطن قومي لليهود لأنهم من عرق واحد.

جيمس جويس نموذجًا

توقف المؤلف طويلاً أمام الكاتب الإيرلندي جيمس جويس (1882-1941م) وبخاصة أمام روايته (عوليس) التي احتذى فيها سيرة بطل (الأوديسّة) للشاعر الإغريقي هوميروس, نوجز أهم النقاط والملامح التي اشتملت عليها:

كُتبت الرواية ما بين 1904و1914, ولم تنشر إلا بعد 1922 بعد تشجيع من الشاعر الأمريكي عزرا باوند الذي عرّفه على أديبة فرنسية من أب طبيب يهودي فرنسي, تمتلك دارًا للنشر, كانت قد نشرت منها فصلين في مجلتها, فاشتهرت قبل صدورها لما فيها من مشاهد جنسية على هامش الصراع الذي يعيشه بطلها (ليوبولد بلوم), في سبيل الوصول إلى رغباته وتحقيقها برغم العقبات التي اعترضته.

من حيث الموضوع الرئيس, فقد اشتملت على معظم ما طُرح وقرر في مؤتمر بال 1897, ومن حيث الأسلوب, فهي عصيّة بعض الشيء على الفهم والمتابعة, بسبب ما شاع فيها من فوضى التأليف, وتداخل الزمن, ووعورة لغتها الإنجليزية القديمة, وهي أيضًا قريبة في شذوذاتها ومناخها, من رواية مارسيل بروست: (البحث عن الزمن المفقود) من حيث عدم الحرص على الوحدة العضوية والنفسية للبنية الروائية, كل ذلك جعلها صعبة على القارئ الذي يحتاج لقراءتها إلى كثير من الصبر والعزيمة.

ومع ذلك, فقد أحيطت (عوليس) بكثير من الدراسات والحوارات الساخنة, من قبل نقاد عرب وغربيين طوال نصف قرن, حتى صدور طبعتها الثانية المترجمة إلى العربية 1994م.

وقد حار المؤلف في أمر الضجة والاهتمام الشديد اللذين حظيت بهما الرواية, فوجد أن المقاربة التاريخية ما بينها وبين (يُوليسّيس) الأوديسّة, من جهة, والترويج لقدرات اليهودي ومهاراته وتفوّقه في النهاية بما يمتلك من صبر وإمكانات, وثقة بالنفس, من جهة ثانية, أضف إلى ذلك: المناخ الاغترابي الذي عاشه بطل الرواية (بلوم) وهو ابن رجل يهودي هنغاري, وأدوار الغناء والبغاء التي مارستها زوجته (مولي), كل ذلك أسهم في تحقيق نسبة عالية من إقبال الناس على اقتنائها والنظر إلى بطلها برضى مطّرد.

لقد عني جيمس جويس بتصوير سلوك أبطاله, فسلّط الأضواء على النوازع النفسية والأحاسيس المرهفة, المرافقة لتحرّكات كل منهم, فنرى (بلوم) لا يتوانى عن مساعدة زوجته في إيجاد عشّاق منتقين لها, ونرى زوجته (مُولي) لا تتوانى أيضًا عن منح جسدها برضا تام لمن هُمْ في المراتب الدنيا من السلّم البشري, ممثّلة بذلك الحاضنة الحنون أو (الجسد المشْفق), لكن ذلك لم يكن بدافع إنساني, بل من أجل ما هو أحطّ وأوْضع, أعني المال. وعندما تريد الإنجاب تلجأ إلى زوجها لقناعتها بتفرّده وخصوصيته ونقائه, كما تلجأ إلى صديقه (ستيفان ديدالوس) الذي عشقتْه لأنه يمثل في نظرها ونظر زوجها, طموح العقل وقمة المعرفة.

ويتساءل حسن حميد: لماذا كان بطل جويس يهوديًا?

ويجيب: لم يكن ذلك إلا بسبب الحنين إلى العودة إلى أرض الميعاد بفلسطين, فكان القلق والحيرة والاضطراب والمخاوف الناشئة من طبيعة المجتمع الأوربي المتشدد حيال اليهود, كانت كلها عوامل بحث جادّ وصراع دائم لأجل الخلاص والاستقرار, ولم يسَع جويس إلى تحرير المجتمع الإيرلندي من مآسيه وأحزانه وإحباطاته, بل إلى تحقيق أحلام بطله اليهودي (بلوم).

كافكا....النموذج الآخر

يحتل الكلام على كافكا في الكتاب مساحة أكبر من أي بحث آخر, حيث عرض لنقاط كثيرة, وطرح مسائل مختلفة تتعلق بسيرته, وأعماله, وعلاقته المتوترة بينه وبين والده, كما تتعلق بأهم عملين أدبيين له هما: (القلعة) و(المسخ).

  • في الجانب الأول المتعلق بسيرته, يوجز المؤلف حياته كما يلي:

عاش (كافكا) إحدى وأربعين سنة (1883-1924) قضى منها تسعًا وعشرين سنة لم ينشر خلالها أي كتاب, وفي عام 1912 نشر كتابه (تأملات) الذي يضم ثلاثًا وعشرين صفحة فقط, ولم يبع منه في سنته الأولى سوى تسع وستين نسخة, كما لم يبع منه طوال حياته سوى أربعمائة نسخة.

  • وفي جانب الأعمال الأدبية, فقد انقلبت المقاييس رأسًا على عقب إثر نكسة يونيو 1967فارتفع المبيع إلى الملايين, وبلغ بيع أعماله الكاملة أربعمائة ألف نسخة, باللغة الألمانية.

وسبب الإقبال المدهش: تحليله العميق لظاهرة القلق عند اليهود, وتبشيره بفكّ طوق الجيتو نحو الوطن التاريخي الموعود. من هنا تأتي كثرة دراستها وشرحها وتحليلها وفقًا لاتجاهات علم النفس, والفلسفة وتياراتها, ووفقًا للأساطير العبرية, ولمناهج علم الاجتماع والأنثروبولجيا, ولحسن تفهّمها للرسم والموسيقى والدراما, على الرغم من جهل كافكا التام للموسيقى, وعدم اهتمامه بالرسم والسينما.

لقد ساد كتابات كافكا الكثير من الإحباط جرّاء الحديث عن عزلته ووحدته وكآبته وأحزانه وأقداره غير المؤاتية, الأمر الذي انعكس على دراسات أدبه التي سادها الحديث عن الغمّ والحزن والجفاف والقسوة.

فهو يقول في رسالة إلى والده (إنّ الحياة أكثر من لعبة صبر). بالطبع لم يكن يقصد حياته هو, بل حياة اليهود بعامة في المجتمع الأوربي المسيحي, والوصول إلى الاستقلال والثقة والأمان.

عودة إلى التوراة

سبق للمؤلف أن طرح في بداية الكتاب, عناوين المرجعيات والمصطلحات للأدب العبري, وهاهو الآن يوسّع بعض الشيء في هذا الجانب, ويشرح السّمات العامة للأدب العبري, مضيفًا بذلك أبعادًا فنيّة على شيء من التقويم والتوضيح.

فالنصوص الأدبية العبرية على اختلافها, ركيكة البنية, متداعية الأسلوب, باهتة الجمال, بسبب غياب السموّ التعبيري الخالص, وغلبة التفكير العقائدي المفعم بالعدوانية والعنصرية تجاه الغير.

ومن أهم ما يطرحه المؤلف في هذا الجانب, اتجاهات الأدب العبري, وأوصافه.

فأما اتجاهاته فهي خمسة, يؤكد كلٌّ منها ناحية أو رؤية خاصة.

فهناك النزعة العنصرية, وهناك الحض على القوة والعدوانية, وخصوصًا مع العرب, وهناك الإحساس بالغربة والتفاهة إذا كان اليهودي يعيش خارج الكيان الصهيوني, وهناك النظرة الدونية إلى العربي والمسلم, وهناك أخيرًا النظرة الطوباوية إلى أرض الميعاد.

وأما أوصاف هذا الأدب, فنستشعرها, إمّا بظهور الروح البكائية والأحزان المفتعلة, وإمّا بالحديث عن المعاناة التاريخية بدءًا من زمن البابليين, انتهاء بالزمن الراهن, وإمّا بانتحال صفة الضحيّة لليهود عبر التاريخ, وإمّا بإشاعة موضوعات شتى موشّاة بالألوان القاتمة كالقلق, والحزن, والنفي, والغربة, والموت, والحرب والعنف, مما يعرض له المؤلف في الفقرة الأخيرة من الكتاب.

من داخل إسرائيل

بعد أن عرض المؤلف لنماذج أدبية روائية وشعرية لعَلمَيْن كبيرين هما جيمس جويس وفرانز كافكا, شاء أن يتوسّع في هذا الجانب فأتى بأمثلة أدبية أوضح لعدد غير يسير من الأعلام اليهود في أوربا والكيان الصهيوني, فنقع على أسماء بعضها معروف وبعضها الآخر لم يأخذ نصيبًا من الشهرة, وقد نيَّف عددُهم على أربعة عشر كاتبًا وشاعرًا.

يخلص المؤلف إلى جملة فوائد وأفكار لا سبيل إلى تغيُّرها في الفكر اليهودي والأدب العبري, ومنها:

- لا بد من الرجوع دائما - لفهم مسار الحركة الأدبية الصهيونية - إلى الأصل الذي قامت عليه آداب الصهيونية وسياساتها: التوراة والتلمود والأفكار الصهيونية.

- إشكالية الثقافة اليهودية الواحدة بسبب اختلاف ثقافات اليهود الوافدين إلى فلسطين من مختلف بقاع العالم.

- تأصل روح العداوة والعنصرية في الذات اليهودية لكل الشعوب من دون استثناء.

- كل الشعوب في العالم محتقرة في النص الأدبي العبري: (فالعرب فرّارون وخونة وجبناء, والألمان برابرة وقساة, والأتراك مرتشون, واليونانيون أذلاّء, والإنجليز متواطئون, والبولنديون ضعفاء, والفرنسيون ماجنون, أما اليهود فهم الجديرون بالتقدير لأنهم معصومون من العيوب والمذمات). ولا ندري لماذا غاب الأمريكيون عن القائمة?

وصفوة القول في هذا الكتاب القيّم, أنه فتح نوافذ للدارسين كانت مغلقة, بيّن لهم فيها حسن حميد, قصورهم الشديد في الاطلاع الوافي على الأدب العبري, وسطحية نقداتهم ودراساتهم لكثير من الأعمال الأدبية الموسومة, في العمق, بالنزعة الصهيونية والتطرف اليهودي, فإذا بهم - أي نقادنا - يُمجِّدون هذه الأعمال ويرون فيها نماذج بديعة تستحق كل التقدير.

وإن كان لنا من مساءلة, فهي: لماذا لم يذكر لنا ناقدًا عربيًا واحدًا هلل ومجَّد لتلك الأعمال?

ثم نسأل ونلح, ألم تكن هناك أعمال أدبية عبرية اخترقت الثوابت, وجنحتْ إلى شيء من الموضوعية والتجرد? طاب قلمك يا حسن, وإلى نتاج أدبي فكري آخر أعمق, وأشمل!!.

 

حسن حميد