نظرية الميمات شوقي جلال تحرير: روبرت أونجر - الناشر: أكسفورد2000

نظرية الميمات

الميمة هي أصغر أو أبسط وحدة ثقافية, تتضاعف وتكرر نفسها ضمانًا لاطراد وجودها مع عائلها الإنسان, وهي المكوّن الأساسي في نظرية جديدة تستعير من علم الأحياء بعض نظرياته لتطبيقها على الثقافة, وبالرغم من الجدل المشتعل حول هذه النظرية, فإنها تؤكد من جديد أننا نعيش عصر تداخل وتكامل العلوم كافة, الإنسانية منها والطبيعية, على السواء.

الكتاب حصاد ندوة يتجلى فيها صراع فكري بين علماء كمبريدج بشأن (مبحث الميمات) لدراسة الثقافة في تطوّرها. ونموذج لمعنى الفكر أو التفكير العلمي, كعملية مطردة متراكمة في تنوّع خلاّق عبر التاريخ في الزمان والمكان. إذ ليست هناك كلمة أخيرة, وليس هناك ما يوصف بأنه النهاية, نهاية تاريخ, أو نهاية أيديولوجيا أو فلسفة أو فكر علمي, بل عملية مطردة مع وجود الإنسان/المجتمع, إنه حوار جاد وتنافس إبداعي أصيل التماسًا للحقيقة مرحليا من خلال بحث الظواهر من زوايا متباينة وعلى مراحل متعددة, ما إن تنتهي مرحلة حتى تبدأ مرحلة ثانية, للبحث من منظور مغاير وأفق جديد أرحب, ورؤى جديدة متنوعة مع الالتزام في كل هذا بمنهج علمي نقدي للتفكير, ليست هناك حقيقة مطلقة, وليست هناك حقيقة نهائية, عندها تجف الأقلام وتطوى الصحف ويجمد الفكر, بل الفكر حياة بكل خصائصها.

ويمثل الكتاب أيضا صورة من صور هذا الاجتهاد العلمي الخلاّق تأسيسًا على منهج البحث العلمي, إنه في مجموعه مقدمة رائعة وشاملة عن (مبحث الميمات).

والميمة مناظرة للجينة, وتعني أبسط بنية ثقافية تضاعف وتكرر وتستنسخ نفسها ضمانًا لاطراد وجودها عن طريق تكافلها مع عائلها الإنسان.

إنها الوحدة الأولى في الثقافة شأن الجينة في البيولوجيا. ومثلما أن الجينة تنزع إلى بقاء الذات, إلى استمرار الوجود من خلال تناسخها أو تضاعفها ذاتيا, كذلك الميمة كوحدة أولى للثقافة نزاعة إلى البقاء. ومثلما أن الانتخاب الطبيعي هو آلية التطور البيولوجي: صراع وتباين وطفرة وقدرة على التكيّف وبقاء الأصلح, كذلك الانتخاب الميمي, أي الانتخاب من بين الثقافات ممثلة في وحداتها أو مركباتها - المركب الميمي - من مثل العقيدة...أو الرأي...أو الزي...أو اللحن...إلخ, مما يعني صراعًا وجدلاً ومنافسة بين الثقافات, ويعني اختبارًا وانتخابًا من البشر والمجتمعات تعبيرًا عن أفضلية وعن تكيّف وتطوّر أو نقلة في مسار التاريخ الثقافي للمجتمعات.

الميمة والجينة

ولدت فكرة الميمة لأول مرة على يدي ريتشارد دوكنز في كتابه (الجينة الأنانية, 1977), ودوكنز عالم بيولوجيا تطورية له كتبه التي أصبحت كلاسيكية في قضاياها, ومن أهمها أيضا كتاب (النمط الظاهري الممتد).

وجدير بالذكر أن علماء البيولوجيا حددوا معنى الجينة التطورية في ضوء الانتخاب بأنها (أي معلومة وراثية تصادف انحيازًا انتخابيًا مواتيًا أو غير مواتٍ, ومعادلاً لمعدل تغيّرها باطني المنشأ لمرات عدة أو كثيرة).

تبنّى ريتشارد دوكنز (1976) هذا التعريف, ووسع نطاقه ليشمل المتضاعفات أو النواسخ بعامة. وتتلخص نظرية دوكنز في أن الكائنات الحية الفردية هي نواسخ أو متضاعفات تكرر نفسها, ولها آثارها الممتدة عبر النمط الظاهري لها التي تؤثر بها على المجتمع والعالم بعامة. وأصبحت للجينات بهذه الوسيلة قدرة على التعامل مع الأفراد الآخرين. تؤثر الجينات في البيئة, وتعمل فيها, والجسم أو الكائن الحي الفرد حلقة في سلسلة مراتب أو نظم تبدأ من الدنا, وصولا إلى النمط الظاهري الخارجي.

وتكشف كتب دوكنز عمّا يتحلى به من جرأة منهجية وبصيرة نفاذة, وتصورات خلاقة, وأفكار جديدة أضفت قوة وحياة جديدين للتفكير الدارويني, وأثارت كتبه أيضا موجات من الأفكار, بين معارضة ومؤيدة, وتحولت إلى تيارات تتبلور حولها مدارس فكرية علمية. ويعتبر مبحث الميمات أحد تجليات هذه التأثيرات.

حوار وصراع

ويمثل كتاب (الثقافة - منظور دارويني) الصادر عن أوكسفورد عام 2000, وعنوانه الأصلي Darwinizing Culture, حلقة من حلقات الحوارات والصراعات الفكرية في هذا الصدد. ساهم فيه علماء وفلاسفة ما بين مؤيدين ومتشككين لبحث واقع ومكانة وإمكان مبحث الميمات. وبدا حوارهم علميًا بنّاءً.

وتكشف فصول الكتاب عن تلاحم وثيق بين أوراق البحث, وتولى أستاذ المعرفة والتطور روبرت أونجر مهمة الإشراف على التحرير. وأسهم بمقدمة وخاتمة.

وتعتبر المقدمة مدخلا جيدا لقراءة الإسهامات المختلفة, حيث يطرح بأسلوب جميل شائق القضايا موضوع الحوار من مثل: ما الميمة? ما الثقافة? كيفية الربط بين الميمة والثقافة. طرق النظر إلى الميمات. ويلخص في الخاتمة إسهامات الجميع مع تقييم بنّاء لحجج كل من الباحثين, وبيان صريح بمظان شكوكه.

وتبدأ سوزان بلاك مور, أستاذ علم النفس المعنية بقضايا الوعي بحثها الأول, وهي امتداد لفكر ريتشارد دوكنز ومتحمسة لفكرة الميمية ولمبحث الميمات. وتحمل دراستها عنوانا واضح الدلالة (رؤية بعيون الميمات). وتعرض فيها ما تسميه (الحافز الميمي) الذي تعتقد أنه هو ما ينفرد به المنظور الميمي ويميزه عن سواه من النظريات التطورية البديلة المعنية بالثقافة. وتعني بالحافز الميمي القوة السببية للميمات المستمدة من قدرتها على التأثير في عملية التناسخ أو التضاعف والتكاثر عبر التطور الاجتماعي البشري.

ويكتب الفصل الثاني العالم الفيلسوف دافيد هول, حيث يعرض رؤيته الشخصية بشأن ما تقوله فلسفة البيولوجيا عن الميمات كمتضاعفات أو نواسخ, وينفي فكرة خاطئة تزعم أن التطور الثقافي دائما وأبدا أسرع من التطور الجيني. ويضرب مثالا بفيروس الإيدز الذي يتحول عبر طفرات داخل جسم عائل واحد. ويؤكد أن الميمات نظيرة للجينات. وعلى الرغم من تعاطفه فإن له عددًا من الانتقادات من مثل محاولة بلاك مور قصر مبحث الميمات على (المعلومة) التي يتعلمها المرء عبر المحاكاة. ولكنه يرى ضرورة المضي قدما وعلى نحو جدّي بمبحث الميمات.

علم النفس ومبحث الميمات

يأتي من بعده هنري بلوتكين في بحثه (الثقافة والآليات النفسية). ويسعى إلى تهدئة مخاوف العلماء الاجتماعيين الرافضين لمبحث الميمات. ويحدد نوعين من الميمات (المستوى السطحي) و(المستوى العميق) تأسيسا على ما تتضمنه الميمة من اتساع أو عمق للهيكل المعرفي.

ويلاحظ أن المهم الرئيسي الذي يشغل روزاريا كونت, رئيس قسم الذكاء الاصطناعي والنمذجة المعرفية والتفاعلية - مجلس البحوث القومي البريطاني -في بحثها بعنوان (الميمات من خلال العقول الاجتماعية, هو التأكيد على ضرورة أن يرتكز مبحث الميمات على أساس سيكولوجي راسخ. وتتصدر روزاريا كونت حركة في علم المعرفة, تهدف إلى بناء جسر يصل ما بين نماذج المعرفة في علم الكمبيوتر وبين علم النفس الاجتماعي. وتلخص نظرتها فيما تسمّيه (العنصر الفاعل الميمي) القادر على العمل باستقلال واتخاذ القرار, وترى أن لا ضرورة للاتصال أو للمحاكاة لحدوث النقل الميمي, وإنما لابد من معاينة حقيقية.

ويعرض كيفين لالاند, زميل الجمعية الملكية للبحوث والمعني بالسلوك الحيواني والتطور, ومعه جون أودلنج, الباحث والمعني بدراسة التعلم عند الحيوان ودور التعليم في التطور, يعرضان بابا يتسم بالثراء وينبني على فكرة ملهمة هي (بناء الموطن الملائم), وهذه عملية تؤثر من خلالها الكائنات الحية في العوامل البيئية, وتؤدي إلى إضافة ضغوط انتخابية جديدة على الكائنات الحية وتتوارث وتتراكم وتتفاعل وتحدث عنها تغذية عكسية بين أنشطة جيل ما, والبيئات الانتخابية للجيل أو الأجيال التالية. ويؤيدان بقوة المضي قدما بمبحث الميمات, وأن ينفتح لقبول التعليم الاجتماعي غير القائم على المحاكاة.

الوراثة البيولوجية والوراثة الثقافية

اتخذ العالمان البيولوجيان روبرت بويد وبيتر ريتشرسون في فصل بعنوان (الميمات: حامض شامل أم مصيدة فئران أفضل?), موقفا أكثر انتقادا لفكرة الميمة, ويريان فيها مبالغة, ويريان أن التطور الثقافي ليس بحاجة إلى تضمين الانتخاب بين النواسخ أو المتضاعفات, بل الثقافة مستودع للمعلومات التي انتقلت إلى أجيال عبر آليات افتراضية متباينة ولا تشبه نظيرها البيولوجي, وهو الانتخاب الطبيعي, ويقدمان نقدًا كاسحًا للفكرة التي يروّج لها علم النفس التطوّري القائلة إن بإمكان الثقافة البشرية أن تكون نظرية بالكامل تقريبًا.

ويقدم دان سبيربر مساهمة انتزعت الإعجاب تحت عنوان (اعتراض على النهج الميمي في دراسة الثقافة). ويعطي بمساهمته دفعة تجريبية قوية لأي مبحث للميمات مستقبلا. والفكرة الرئيسية عند سبيربر هي أن المرء يمكنه أن يلحظ نسخا متماثلة تماما لموضوع ثقافي ما, ويربط بين هذه النسخ من خلال سلسلة سببية للأحداث التي أعادت بأمانة إنتاج تلك الموضوعات, ومع هذا لا يجد مثالا للوراثة الثقافية, ويرى أن كثيرا من المناقشات في مبحث الميمات لا تمايز بين التماثل الناشئ عن التكاثر والتماثل الناجم عن الوراثة.

ويقدم آدم كوبر أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة بروفيل مساهمته بعنوان (إذا كانت الميمات هي الإجابة, فما هو السؤال?), ويوحي بأن مفهوم الثقافة التي يسعى مبحث الميمات إلى تفسيره مفهوم غائم غامض. ووصل به الأمر إلى حد القول إن الثقافة لا وجود لها بأي معنى مفهوم. وهذا يعني سد السبل أمام مبحث الميمات, وأنه عبث لا طائل تحته. ويرد مفهوم الثقافة إلى تاريخها الأرستقراطي بمعنى الحضارة والتحضّر, أو الذوق المتحضر, ثم تحوّلت وأصبحت تعني المعتقدات المشتركة. إنها إرث تراكمي للأفكار والممارسات والمؤسسات.

وراثة أم صياغة ثقافية جديدة?

ويأتي أخيرا دور موريس بلوخ أستاذ الأنثروبولوجيا في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية, ويقدم مساهمته وهي الفصل الأخير. ويشكو من جهل الباحثين في المبحث الميمي بتاريخ الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية. ويرى أن جهلهم سيقودهم إلى السقوط في شراك معروفة مسبقا, وتتجنبها الآن التقاليد النظرية في العلوم الاجتماعية التي لا علاقة لها بالبيولوجيا. ويلتزم في بحثه نظرة تاريخية تجاه النظرية الأنثروبولوجية, ويتفق مع سبيربر في نقده لفكرة الميمة مع الإشارة إلى أنه حتى لو أخذت السمات الثقافية شكل الدقائق الصغرى خلال عملية الانتقال والانتشار, فإنها ستتعرض لإعادة صياغة موضوعية حال اندماجها ضمن الأسس المعرفية للأفراد. معنى هذا أن الاتصال لا يتضمن فقط عملية نقل, بل وأيضًا إعادة خلق أو إعادة بناء المعلومة على أيدي مَن يتلقونها.

تقييم نقدي

الكتاب أول تقييم نقدي شامل لموضوع مبحث الميمات الذي تفجّر معه خلال العامين الأخيرين اهتمام جديد بموضوع الميمات والتطور الثقافي الاجتماعي وعلاقة التطور الثقافي (الميمي) بالتطور الوراثي (الجيني) على مستوى الفرد والنوع في التاريخ. ويبدو واضحًا من الكتاب أن هناك مَن ينتقد مبحث الميمات معارضا, وهناك مَن يراه مبحثا واعدا سيفتح أمام البشرية آفاقًا جديدة رحبة لفهم لغز الثقافة نشأة وتطوّرًا.

ولهذا يمثل الكتاب ضرورة لا غنى عنها لكل مَن شاء متابعة الجهود الفكرية والعلمية المعاصرة لموضوع بات محور اهتمام ومحل صراع, ويتعلق بالتطور الثقافي الاجتماعي من خلال الصراع - المنافسة - الانتخاب - التكيف - الانتشار. ويعتبر كذلك أساسًا لحوار يدور على صعيد عالمي عن الثقافات والحضارات في إطار تطور المجتمعات وإطار ما يسمى بالعولمة, ومسعى قطب ما إلى ضمان سيادة ثقافته على الشعوب الأخرى.

ويعتبر أخيرًا مبحثًا غاية في الأهمية لمن يعنيه أمر الثقافة القومية في الواقع الراهن وفي التاريخ, ويلتمس إثبات رؤية علمية نقدية بشأن التطور الاجتماعي ماضيًا ومستقبلاً للثقافة العربية عبر التاريخ, وفي إطار التفاعل بين الثقافات وشروط فاعلية الثقافات والتكيّف, ومن ثم اطراد البقاء.

 

شوقي جلال