الفلبين الحياة على جزر قلقة محمد المنسي قنديل تصوير: طالب الحسيني
سبعة آلاف ومائة من الجزرالقلقة. لا يسكن البشر فيها إلا عددا لا يزيد على أصابع اليد. تمور في أحشائها البركين، وترجها الزلازل. ولا تكف الأعاصير عن مهاجمتها. ورغم موقعها وسط بحر الصين، إلا أنها ليست آسيا الوقور الحكيمة. فمن كثرة الأقنعة التي توالت عليها فقدت ملامحها الأصلية. أخذت من الإسبان الدين والتاريخ الدموي، وأعتطها أمريكا اللغة ومظاهر الحياة العصرية والسياسية دون مضمون حقيقي وأثقلت كاهلها بوجود عسكري طويل الأمد.
هكذا تبدو جزر الفلبين، وهي متناثرة وسط البحر الأزرق، مثل كوكب مجهول خرج عن مداره وضل طريقه، فتناثر حطامه في هذا المكان جزرًا وصخورًا ونتوءات. كوكب كان حيا، ورغم الحطام فمازالت هذه الحياة تضج في أعماقه منذ آماد بعيدة.
بدأت خطواتنا الأولى في مانيلا عند الظهيرة. زحام ، دون أن ندري قادتنا الشوارع الواسعة إلى شبكة الحواري المتشابكة على ضفاف نهر الباسنج. نهر بالغ التلوث مزدحم بالأطفال العرايا. كنا قد ضللنا طريقنا وأصابنا التعب والخوف حين فتحت المرأة العجوز لنا باب كوخها المتهالك. كانت امرأة بسيطة جاءت من جبال "باجيو" كي تستقر في العاصمة المزدحمة. وربما كان إحساسها بالوحدة والتعاسة هو الذي دفعها كي تجاذبنا أطراف الحديث. قالت.. "سافر زوجي للعمل في سنغافورة ولم يعد ولم يصلنا منه أي خطاب.." كان الكوخ بائسا، خليطا من الأخشاب الرطبة وألواح الصفيح. قدمت لنا شراباً من شرائح جوز الهند الممتزجة بالماء. كانت ملامحها الآسيوية غامضة لا تشي بعمر محدد، حركتها الواهنة هي التي أعطتنا الانطباع بأنها عجوز. قالت: "كانت أحوالنا جيدة عندما كان ابني يعمل حارسًا في أحد جراجات السيارات".. ولم تكمل. زاغت عيناها وخيل إلينا أننا لمحنا دمعتين متحجرتين. سألناها عن سبب فقده لعمله قالت ببطء: "تشاجر وهو يراهن على صراع الديكة.. طعنه أحدهم بمطواة وفر هاربا. ومات ابني بعد نصف ساعة.." وخيم على الكوخ صمت متوتر. أحسسنا بالمرارة في حلوقنا فلم نجرؤ على رشف الشراب الحلو. قالت شيئا ما.. تركت اللغة الإنجليزية ودخلت في غمغمات لغتها المحلية. أدركنا فجأة لماذا فتحت لنا باب كوخها وباب قلبها. كانت وطأة الأسى قد زادت عليها أكثر من قدرتها على الاحتمال. نظرت إلى أيدينا المتجمدة بأكواب العصير.. قالت: "اشربوا.. الأمور تتحسن رغم كل شيء. لقد وجدت ابنتي عملا.." ودبت فيها الحياة من جديد، نهضت على أطراف أصابعها وهي تشير إلينا. سارت ثم أزاحت ستارة من القماش كانت في جانب من الكوخ، فوجئنا بأنه يوجد خلفها سرير صغير عليه فتاة نائمة. تأملناها في دهشة، مازال على وجهها بقايا أصباغ التجميل، انتقلت من وجهها للوسادة التي تنام عليها. كانت ترتدي ثوبا براقاً يكشف عن نحرها وذراعيها، نائمة نوما عميقا كأنها في عالم آخر. لا تسمع كلمات أمها ولا أنفاس الغرباء الذين يتطلعون إليها. فيها مزيج غريب من البراءة والابتذال. أحسسنا بالخجل الشديد لأننا نراها هكذا دون إرادتها ولكننا لم نستطع أن نرفع عيوننا. ولم تكن العجوز تحس بأي حرج. كانت جميلة، كأنها م هياة هي أيضا لموت غامض. اعادت العجوز الستارة وهي تهمس لنا بأن " البنت تعمل في أحد الملاهي الليلية. لا تأتي إلى البيت كل يوم إلا مع أنفاس الصباح.. إنها تحلم بأن تكون "موديلا" ولو حدث هذا فسوف نغادر هذا الكوخ ونقيم في حي "المكاتي" مع الأثرياء..".
من يعلم ماذا تخبئ مانيلا للناس الذين يحلمون في أزقتها الضيقة؟..
مدينة الليل والنهار
كانت هذه الفتاة هي أحد وجو مانيلا المتعددة الوجوه.. فالليل والنهار يتعاقبان على لؤلؤة الشرق النائمة على بحر الصين، وكل وقت وأوان يعطيها وجها مختلفاً. إنها مدينة لا تكف عن الحلم، رغم أن الأحلام فيها عادة ما تتحول إلى كوابيس. إنها المدينة الوحيدة التي يخرج منها الجميع خاسرين على حد تعبير أحد المهاجرين العرب في مانيلا..
في النهار يبدو وجه المدينة عاريا، لا تجمله الأضواء الملونة. امرأة آسيوية نائمة على شاطئ البر، حول عنقها عقود من الأكواخ الخشبية البائسة التي توشك أن تخنقها. لا تزال أرضا قلقة، تشم رائحة أدخنة البراكين على مدار العام. أشهر هذا البراكين هو بيناتوبو الذي لا يكف عن الفحيح. في العام الماضي فقط ثار ثورة عنيفة وأرسل أنهارًا من الحمم دفنت تحتها عشرات القرى وقتل 800 شخص وشرد 600 ألف آخرين واضطرت القاعدة الأمريكية في كلارك أن تغلق أبوابها وأن تسحب طائراتها، الأمر الذي فشلت فيه جهود النضال الشعبي الفلبيني على مدى 90 عامًا.
إنه دين باهظ تدفعه الفلبين، فكل عناصر الطبيعة القلقة هذه هي التي أخرجت صخورها من قاع البحر منذ آلاف السنين، وينعكس هذا القلق على كل مظاهر الحياة. الحياة السياسية على سبيل المثال مازالت تتعرض لهزات كبيرة. الرئيس الجديد خوان راموس جاء بوعود كثيرة لم يحقق منها شيئا حتى الآن، المعارك القديمة لم تنته، والأعداء القدامى لم يتوقفوا عن الحرب. هناك فساد داخلي مستشر في كل مؤسسات الدولة. كذلك مازال المتمردون اليساريون يثيرون المتاعب حيث يستولي الجيش الشعبي الجديد على العديد من القرى والمئات من الأنصار، وهم يدعون إلى رحيل كل العسكرين عن السلطة. وفي الجنوب مازالت جبهة مورو تقود كفاح المسلمين للمطالبة بأن تفي مانيلا بوعودها القديمة من أجل حكم ذاتي يضمن لهم شخصيتهم وتراثهم.
الأمر كما قال لي فاليرنو راموز من صحيفة مانيلا ستار.. "لقد أصبحت المشاكل الاقتصادية مستعصية الحل، لذلك فقد انشغل النظام بمحاربة الفساد في الداخل لعله يحرز أي انتصار".
وهذا هو ما يحدث بالفعل.. فالحكومة تخوض معركة كبيرة ضد الجريمة المنظمة، أعني "جريمة الستة ملايين بيزوس" وهو الاسم الذي تشتهر به جرائم الاختطاف التي أصبحت ظاهرة منتشرة في الآونة الأخيرة. ضحايا هذه الجرائم هم رجال الأعمال والتجار من أصل صيني. فهم يختطفون، ويختطف أطفالهم الصغار، وتختطف زوجاتهم أيضا، من أجل الحصول على فدية ضخمة. في العادة يطلب الخاطفون فدية قدرها 10 ملايين بيزوس (حوالي 250 ألف دولار أمريكي). ولكن أهل المخطوف أو المخطوف نفسه يرفض أن يدفع أكثر من 5 ملايين وتبدأ عملية المساومة إلى أن ينتهوا إلى الرقم 6 ملايين بيزوس الذي أخذت الجريمة اسمها منه.
المفاجأة أن التحقيقات الأولية قد كشفت أن هناك أعوانا لهذه العصابات داخل جهاز الشرطة نفسه، هم الذين يقدمون لها الحماية والأسلحة ويقومون بإرهاب الشهود أيضًا. وفي أكثر من مناسبة عندما تحدث عملية الاختطاف كان الخاطفون يحذرون أهل المخطوف من الاتصال بالشرطة. فإذا خالفوا الأوامر، عاود المختطفون الاتصال بهم ليقولوا لهم "لقد اتصلتم بالشرطة في الوقت كذا.. ورد عليكم الشرطي فلان.. " مما يجعل أهل المخطوف على استعداد لفعل أي شيء تطلبه منهم العصابة. وعندما كنت في مانيلا كانت الصحف كلها تتحدث عن القبض على عشرين من كبار رجال الشرطة وتقديمهم للمساعدة.
ولا يقتصر الأمر على الاختطاف فقط، ولكن الجرائم البشعة أصبحت ظاهرة متكررة. ولعل الجريمة التي هزت مانيلا هي اختطاف فتى وفتاة عمرهما 19 عاماً فقط كانا عائدين من إحدى الحفلات، وعندما تلكأ أهلهما في دفع الفدية وحاولت الشرطة أن تعد فخًا للمختطفين، ردوا عليهم بأن قتلوهما بعد أن غلوا جسديهما في الماء الساخن.
الجريمة المنظمة تهدد الحياة الاقتصادية بالشلل، ففي الوقت الذي تحاول فيه البلاد جذب رجال الأعمال والمستثمرين الذين يستعدون للهرب من جزيرة هونج كونج قبل أن تنتقل إلى الصين، تفاجأ بأن رجال أعمالها هي على وشك الهرب.
الحرب ضد أقدم مهنة في التاريخ
حرب أخرى بدأها محافظ مانيلا الجنرال "ليم" من أجل تنظيف وجه العاصمة، حرب ضد أقدم مهنة في التاريخ، بائعات الهوى. بقايا سنوات الاحتلال، ومتع الجنود العابرين، والغرباء الذين يبحثون عن المتعة في بلاد فقيرة فلا يجدون إلا أجساد نسائها. لقد انتشرت في طول المدينة وعرضها بيوت المتعة والملاهي الليلية، وأصبح الجنس سلعة تباع على قارعة الطريق. ومن الصعب عليك إذا كنت غريبا وتهوى متعة الاكتشاف سيرًا على القدمين مثلي أن تسير دون أن يطاردك أحد. سائقو التاكسي يتمهلون بجانبك وهم يهمسون في صوت كالفحيح "هل تريد امرأة؟ ".. الفتوات والقوادون يعترضون طريقك ويعرضون عليك نفس العرض، الفتيات أنفسهن يقفن نصف عاريات على أبواب الملاهي ويحاولن بالإكراه جذبك إلى الداخل. تجارة شائعة ومتاحة، تتحول من شدة الإلحاح إلى مطاردة سخيفة.
ولعل هذا ما دفع الجنرال "ليم" إلى إغلاق البيوت التي لا تتوافر فيها الشروط الصحية.. ووصل الأمر إلى أنه أغلق شارعًا كاملاً من شوارع المتعة، وحتم على كل امرأة تريد أن تمارس هذا العمل أن تأخذ تصريحا من السلطات. وفجأة وجدت المئات من الفتيات أنفسهن بلا عمل، وهن- بطبيعة الحال - لا يجدن القيام بأي عمل آخر! لذلك فقد قمن بأعجب مظاهرة من نوعها يرفعن فيها الشعارات الصاخبة ويؤيدهن القوادون الذين انقطع مورد رزقهم لإرغام المحافظ - الذي كان مديرًا للبوليس من قبل- على الرجوع عن قراره. ولكنه رد عليهن في إصرار وعرض عليهن عملا آخر، وهو أن يقمن بالفعل بمعاونته في تنظيف العاصمة عن طريق عملهن ككناسات في الشوارع، وهي مهنة مقتصرة على النساء في مانيلا.
حشود الليل
الليل وأضواء الحانات الملونة لا تستطيع أن تخفي مظاهر الفقر في مانيلا. إنها مدينة قد أدمنت السهر حتى الساعات الأولى من الصباح. حشود البشر فيها لا تهجع، حشود من مختلف الأنواع والمشارب. عندما يحل الظلام يظهرون فجأة، تمتلئ الأرصفة والحدائق ومداخل البيوت بأعداد غفيرة من البؤساء الذين يفترشون الأرض تحت أغطية ممزقة وقذرة. رغم الرطوبة الخانقة والأمطار المدارية التي لا تنقطع فهم هاجعون مستسلمون لا مكان آخر يأوون إليه. لقد رأيت أعدادًا كبيرة منهم وقد افترشوا الدرج الرخامي لمدخل بنك الفلبين المركزي تنبعث منهم روائح العطن والبول. وربما كان قربهم من المنبع الرئيسي للنقود يعطيهم إحساسًا زائفا بالدفء.
وإذا كان هذا الحشد يحاول الاقتراب من النقود بطريقة رومانسية، فإن هناك حشدًا ليليا آخر يقترب منها بطريقة عملية. إنهم يتجمعون في أكبر ناديين للقمار في مانيلا، وربما في العالم كله بعد أندية لاس فيجاس. يزدحمان بكل أنواع اللعبات والمراهنات وكل أحلام الثراء المجنونة وضربات الحظ الطائشة. أكوام النقود تذهب وتجيء ثم تذهب بلا عودة. مقامرون خرجوا جميعا من صفحات ديستوفسكي، وبعد أن تمايزوا إلى أجناس مختلفة. بعد أن سدت كل الفرص بقي باب الكازينو مفتوحًا، ملوحًا للجميع بأن هذه هي الفرصة الأخيرة. يمكنك أن تعرف جنسية المقامر من رد فعله. السائحون من هونج كونج وهم يقامرون بمبالغ كبيرة دفعة واحدة، وعلى أكثر من منضدة في وقت واحد. والتجار من تايوان، معظمهم من النساء، تحسبهن ربات بيوت أو مدرسات متقاعدات. ولكن أصابعهن لا تكف عن التلاعب مع "الفيش" الملونة. زبائن من اليابان يمسكون الورقة والقلم وهم يحسبون دورات "الروليت"، يحولون حتى ضربات الحظ إلى أشياء محددة. والمدهش أنهم يكسبون والمهم أنهم يعرفون متى يتوقفون قبل أن يتحول المكسب إلى خسارة فادحة، الأمر الذي لا يدركه الفلبينيون بوجوههم الصفراء الداكنة وحبات العرق التي على جباههم أكثر من الدراهم التي في أيديهم، والخسارة أقرب منالا منهم عن الجميع..
مسلمون محاصرون
حي المسلمين في مانيلا فقير أيضا ومزدحم بالناس. كان يجب ان نسعى إليهم ونتبادل معهم الحديث بالإنجليزية والعربية المتعثرة، وأن ندخل أكبر مسجدين موجودين في المدينة هما المسجد الأخضر والمسجد الذهبي.
تجمع إسلامي يبلغ عدد أفراده 30 ألفا. رغم كل مظاهر الفقر الذي فيه لا تملك إلا أن تشعر بالأمان وأنت تخطو داخل الأزقة. وتحس بالأمان أكثر وأنت تشاهد الصبيان الصغار والبنات المحجبات وهم يحاولون حفظ القرآن بالعربية.
"ولكن ظروفنا في غاية السوء.." هكذا بدأ مدير المركز الإسلامي أبو أمين محمد تراسان حديثه معي. ففي هذا الحي يصنع المسلمون نوعًا من الحياة المشتركة، يتزوجون من بعضهم، ولهم مطاعم "الحلال" التي يترددون عليها، ويحتفلون بشهر رمضان والأعياد. ولكنهم لا يقومون إلا بالأعمال الدنيا رغم أن مستواهم التعليمي مرتفع، لذلك فإن حياتهم الاقتصادية متدنية. لقد بنوا مركزًا إسلاميا حتى يتعلم أطفالهم القراءة والكتابة بالعربية، وليتمكنوا من حفظ القرآن. والمدرسة تضم الآن خمسين طالبا وطالبة ويمكن أن يزيد العدد أضعافاً لو توافرت الإمكانات.. ولكن لا توجد إمكانات. فالمدرسة بلا مقاعد لائقة ولا كهرباء ولا ماء. هيئة الإغاثة الإسلامية ترسل مرتبات للمدرسين ورجال الدين فقط، ولكنهم يحتاجون إلى دعم لعيادة عمر بن الخطاب الطبية. طبيبان لا يكفيان للقيام بالخدمة الصحية، وهما في حاجة ماسة إلى أدوية.. المسلمون يحسون أنهم بعيدون جغرافيًا، لذلك يزداد إحساسهم بالعزلة وفي حاجة للعالم الإسلامي أن يمد إليهم يديه.
الشتات الفلبيني
في الفلبين تشعر أنك أمام ظاهرة جديدة بدأت تغمر كل بلاد العالم الثالث.. ظاهرة انهيار الطبقة الوسطى. لقد بدأت صعودها مع ثورات التحرر، وامتلكت ناصية الحكم منذ الستينيات.. خرج منها العسكر والأنتلجنسيا يحملون كل أحلام العدالة الاجتماعية. صدقت كل أنواع الحكام ورفعتهم على كاهلها ثم تحولوا إلى طغاة ديكتاتوريين يسومونها العذاب.. لقد تبددت كل أحلام الستينيات.. وضاعت كل المكاسب التي كانت توفر الحماية للطبقة الوسطى. مجانية التعليم، الرعاية الصحية، التوظيف، السكن.. كل الدروع التي كانت تحميها وتساعدها على المقاومة ضاعت.. وبدأت آلية السوق تطحنهم بين أسنانها. وفي الفلبين مثل غيرها من بقية دول العالم الثالث صعدت هذه الطبقة وهي تؤمن بالتعليم كقيمة ترفع من قدرهم الاجتماعي، ولكنهم فوجئوا بأن المعروض عليهم هو الوظائف الدنيا بأجور لا تتناسب مع أي مستوى تعليمي وصلوا إليه. تبدو آثار انهيار هذه الطبقة في تلك الأعداد الرهيبة التي تغادر الجزر في كل عام بحثا عن وظيفة - غالبا وظائف الخدم - في الخارج. في العام الماضي غادر الفلبين 600 ألف شخص. 80% منهم من النساء. توجهن جميعا للعمل كمربيات يقمن برعاية أطفال الآخرين بينما تركن أطفالهن في رعاية أب متعطل. كانت الهجرة أولا إلى أمريكا وأوربا. ثم تحولت إلى بلاد الشرق الأوسط مع تدفق النفط. ثم توجهت الآن إلى دول آسيا الصاعدة اقتصاديا مثل اليابان وسنغافورة وماليزيا. قال لي موظف في دائرة العمل.. "لقد تحولنا إلى شعب يعيش في الدياسبورا"..
ولا أحد يعلم الأعداد الحقيقية لهذا الشتات الفلبيني، ولكن بعض الإحصاءات الرسمية تقول إن هناك حوالي 30 ألفا في اليابان و 42 ألفا في إيطاليا و 75 ألفا في بريطانيا وحوالي 155 ألفا في لوس أنجلوس وحدها.. هذا غير الأعداد الموجودة في بلاد الخليج وفي مصر.. وقد انتشر في مصر أخيرًا مثل يقول "إن الثري المصري إذا لم تكن في بيته خادمة فلبينية فهو ليس كذلك."..
وهكذا لا تنتهي قصص الشتات المحزنة.. هؤلاء النسوة الغريبات عن بيئتهن، البعيدات عن أولادهن وأزواجهن يصبن دائما بالشرود والكآبة التي تأكل أرواحهن ببطء وفي سبيل جمع المال يتحولن إلى شخصيات غريبة تنتهي بعضها بالانتحار، وبعضها بتدمير كل ما حولها.
التقسيم هو القدر
تبدو مانيلا إذن بكل هذه الوجوه مثل مدينة مفككة الأوصال، جمعت على عجل في كيان واحد. فهي تتألف من سبع مدن تفصلها الأنهار وتصل بينها الجسور، وهي رمز لحالة الفلبين ككل. أخطبوط بحر الصين الممدد الأذرع. وعلى حد تعبير البروفيسور فرانكو كالبير أستاذ التاريخ بجامعة مانيلا: "إن ما يجمعنا فقط هو البحر الذي يحيط بنا. والنجوم الثلاثة الموجودة في علم الفلبين لا تدل على الوحدة بقدر ما تدل على الانقسام.. "
الجغرافيا تقسم الفلبين إلى ثلاثة أجزاء. في الشمال توجد جزيرة "لوزون" التي تضم مانيلا بما فيها من تجمع بشري ضخم. تضم أيضا العديد من التضاريس المعقدة والمناخ المتنوع.. أغربها هي مدينة باجيو بما تضم من أناس يمثلون السلالات البشرية التي تبدو كأنها خارجة من قرون ما قبل التاريخ. ويقف على حافة مانيلا بركان ضخم يهددها بالدمدمات وبسحابات الدخان التي لا تنقطع.
وفي الوسط يوجد عنقود من الجزر العذراء المتشابكة هي "فيزايان" .. توجد في وسطها مدينة "سيبو" التي كانت أول مدينة وطأتها أقدام الإسبان.. وجزيرة ماكتان المجاورة التي لقي فيها المستكشف البرتغالي ماجلان مصرعه. وتتعدد الجزر كأنها مسبحة انفرط عقدها ولم تجد من ينظمها.
وفي الجنوب تقع جزيرة ماندنا.. جزيرة المسلمين التي تعرضت للاضطهاد والتنصير منذ مجىء الإسبان وحتى الآن.. ويقدم ميناء "زامبوانجا" نموذجًا للمدينة التي يمكن أن تضم كل أشتات الديانات المختلفة رغم أن الأغلبية فيها للمسلمين. القلعة الإسبانية والكنيسة والكاتدرائية والمسجد العتيق.
اللغة أيضا تقسم الفلبين، فهم يتحدثون ثماني لغات مختلفة. كذا أصولهم العرقية. إنهم خلطة بشرية. منها قبائل الباجيو أو غجر البحر الذين يعيشون في الجنوب وتقول أساطيرهم إنهم يجب أن يعيشوا دائما فوق المياه سواء كان ذلك بيتا أو قاربا ولا يعودون للبر فقط إلا للموت. وهناك أيضًا قبائل الكالينجا الذين يعيشون في جبال شمال لوزون وهم قبيلة المحاربين قاطعي الرءوس الذين فشل الإسبان في تحويلهم إلى الكاثوليكية واستطاعوا أن يبنوا مدرجات لزراعة الأرز أطلقوا عليها "سلالم السماء" ويقال إنه لو تم جمع أطوال هذه المدرجات لبلغ طولها نصف قطر الأرض. بالإضافة إلى الصينيين الذين استوطنوا البلاد منذ مئات السنين وتحكموا في تجارتها.. أما أهم مجموعة عرقية فهي بلا شك "الميسينوزيس" أو المهجنون. وهم خليط من تركيبة دموية يدخل فيها الملايا والإسبان والصينيون.. يضاف إلى ذلك الثقافة والتعليم على النمط الأمريكي. هؤلاء المهجنون يمثلون فقط 2% من سكان البلاد. ومع ذلك يمتلكون 55% من مجمل الاقتصاد القومي. وفي دراسة أعدتها جامعة مانيلا تبين أن 60 عائلة من هؤلاء المهجنين يملكون كل اقتصاد الفلبين. وكانت الرئيسة السابقة كورازون أكينو تنتمي إليهم وكذلك الرئيس الحالي خوان راموس وعندما شكل وزارته كان ثلاثة أرباع الوزراء منهم، وكلهم تخرجوا من جامعتي هارفارد ويل.
الدين أيضا يقسم الفلبين، 85% يكونون أكبر تجمع مسيحي كاثوليكي في آسيا، و 10% هم نسبة المسلمين، وحتى الآن لا توجد صيغة واضحة للتعايش في سلام بين الجانبين. لقد استهلكت حرب الرئيس ماركوس ضد المسلمين حوالي 50 مليون دولار وشغلت ثلثي الجيش، ومات حوالي نصف مليون فرد ولا تزال الحكومات المتعاقبة بعد ماركوس لا تجد حلا لهذه المشكلة.
من الدير إلى هوليود
يقول الكاتب الفلبيني ليوني جيرادو: "لقد عاشت الفلبين 300 عام في الدير الإسباني.. ثم انتقلت لتعيش خمسين عاما أخرى في هوليود..".
وما بين هذين التاريخين تمتد أيام مثقلة بالثورات المهزومة، تاريخ فقدت فيه الفلبين هويتها لا لشيء إلا لتدفع ثمن موقعها في جنوب شرق آسيا، فهي أقرب بقعة لتأمين اليابان وتهديد الصين والقفز إلى فيتنام. أي أنها كانت محورًا أساسيًا من محاور الحرب الباردة بالنسبة لأمريكا، وقبل ذلك كانت طريقاً تجارياً مهما للربط بين كل دول هذه المنطقة.
ولكن الفلبين ظهرت على خريطة العالم عندما وضع أول بحار إسباني قدمه على جزرها. وكانت هذه هي أيضا بداية المأساة. في أحد أطراف مدينة مانيلا تقع قلعة سنتياجو ذات الطراز والتاريخ الإسباني.. وفي الطرف الآخر توجد مقابر الجنود الأمريكيين الذين سقطوا في معارك الحرب العالمية الثانية. وفي وسطهما يوجد شعب ضائع، تراكمت عليه المشاكل وأحاطت به الإهانات، فأخذ يبحث عن ثمن لكبريائه حتى ولو كان الثمن فادحًا.
أمام إحدى الكاتدرائيات القديمة يقف تمثال راجا سليمان، جسده نصف عار، في يده درع وفي الأخرى سيف متموج. يوحي بالهزيمة التي كانت في انتظاره. كان هذا آخر حاكم مسلم لمانيلا. خاض معركته الأخيرة واليائسة ضد المدافع الحديثة وطلقات البارود التي لا ترحم. وكان وصول الإسبان هو البداية لاستئصال السكان المسلمين وغيرهم من بقية الديانات وتحويلهم إلى الكاثوليكية.
بدأت القصة في عام 1521 عندما حلم البحار البرتغالي فريناندو ماجلان بالوصول إلى جزر البهار بالإبحار غربا نحو العالم الجديد وعبوره حيث لابد أن يوجد محيط آخر يؤدي إلى الشرق وإلى الجزر المنشودة.
كان بحارًا قاسيا وطموحًا. يدرك بشكل غامض أن الأرض كاملة الاستدارة. وأن ما فعله كولمبس هو أنه اكتشف نصف الحقيقة. وبقي عليه هو أن يكتشف طريقًا يوصله للحقيقة الكاملة. وعندما تمرد عليه بحارته بالقرب من شواطئ الأرجنتين لم يتردد في استخدام الحق الذي أعطاه له الملك.. حق استخدام الحبل والسكين. فقام بشنق كل المتمردين وظل يدور حول شواطئ أمريكا بحثا عن ممر ينفذ منه إلى الجانب الآخر من العالم.
ممر ماجلان
لم يتسن له أن يكتشف هذا الممر إلا بعد مرور شهرين كاملين.. وهو ذلك الممر المائي الذي يفصل بين قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية. وما زال يطلق عليه ممر ماجلان حتى الآن تخليدا لهذه الرحلة، كان ممرا طويلا وغامضا، طوله مائة وعشرون فرسخا، تحيط به الجبال العالية المغطاة بالثلوج. ولكنه ظل يواصل السير حتى دخل إلى المحيط الهادئ. وكان هو أول أوربى يصل إلى هذا المكان..سار دون هدف في المحيط الشاسع المتسع لمدة ثمانية وأربعين يوما. وجد جزيرة صغيرة أطلق عليها جزيرة الخط. منحته بعضا من الطعام ولكنها لم تكن تعني شيئاً بالنسبة لهدف رحلته. ثم وصل إلى جزيرة جوام. كانت جزيرة كبيرة ومأهولة ولكن ما أبعدها عن جزر البهار. . وبعد رحلة أسبوع آخر ظهرت رءوس أشجار جوز الهند. ثم ظهرت السواحل البيضاء الممتدة على سطح الموج الأزرق. . ظهرت أولى جزر الشرق الفلبينية.. وتوصل ماجلان إلى النصف الآخر من الحقيقة.. كروية الأرض.
حط عند مدينة سيبو. ولا يزال الصليب وتمثال العذراء الذي أهداه لحاكم الجزيرة موجودًا حتى الآن. وكان استقبال الأهالي لهم وديا.وكان أحد عبيد ماجلان مولودًا في جزر الهند الشرقية فاستطاع أن يتفاهم مع الأهالي بل واستطاع إقناعهم بدخول الكاثوليكية بعد أن استمال زوجة الحاكم. وسوف تبقى النساء هن دائما نقطة الضعف الفلبيني تجاه العالم الغربي. وأعلن ماجلان أن هذه أرض ملك للتاج الإسباني وتدين بالديانة المسيحية وأنها مستعمرة فيما وراء البحار.
ولكن صيادي جزيرة ماكتان رفضوا الاعتراف بتبعيتهم لملك إسبانيا ورفضوا الدخول في المسيحية. وتوجه إليهم ماجلان وفي صحبته ستون من رجاله وهم مزودون بالخوذ والدروع لإرهاب الصيادين. وبدأوا بعنف بالغ - كعادة ماجلان - فأحرق أكواخهم. ولكن الأهالي كانوا قد قسموا أنفسهم إلى ثلاث مجموعات وبدأوا هجومهم على ماجلان ورجاله برماح البامبو والسهام المسمومة. كانت نقطة الضعف في البحارة الإسبان هي سيقانهم العارية من الدروع. ماجلان نفسه أصيب في ساقه بسهم أبقاه عاجزًا عن التراجع وخاض معركته ضد زعيم الصيادين "لابو لابو" قبل أن يسقط صريعا ويهرب بقية رجاله. لقد فقدت جثة ماجلان منذ ذلك اليوم. ولكن تمثال "لابو لابو" مازال ينتصب شامخاً في مدينة سيبو أمام المتحف الذي أقيم تخليدًا لهذه المعركة.
لم تعد السفن الإسبانية إلى الفلبين إلا بعد 44 عاما. عادت في عام 1565 لتنتقم لمقتل ماجلان. كانت بنادقها قد تطورت وأصبحت مدافعها أكثر تدميراً. كانت المقاومة غير مجدية. وسقط حاكم مانيلا راجا سليمان أمام قوات القائد الإسباني ميجيل لوباز دي ليجازبي.
أمريكا تأخذ بالزمام
على مدى أكثر من 300 عام قضى الإسبان على كل أحلام الاستقلال. وأشهر أبطال استقلال الفلبيين هو الزعيم جوز رزال. كان طبيباً وشاعرًا وروائيًا جسد أحلام شعبه على الورق، ثم قادهم في ثورة شعبية ضد الحكم الإسباني في عام 1896. وفشلت الثورة وألقي القبض عليه حيث أعدم، وتحول المكان الذي دفن فيه إلى نصب تذكاري وحديقة عامة. وقد استمر الدور السياسي لهذه الحديقة حتى الآن.. فكل حركات المعارضة التي أسقطت حكم ماركوس الطويل خرجت من هذا المكان. وفيه أيضا كانت الأرملة الحزينة كورازون أكينو تندد بالذين قتلوا زوجها وهو عائد من المنفى.
في عام 1898 كان على الفلبين أن تنتقل إلى سيد جديد هو الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الجديدة البازغة في سماء العالم. نشبت الحرب بينها وبين إسبانيا بسبب الخلاف حول كوبا. ودارت حرب بحرية وبرية في المحيط الهادئ.
وتوجه أسطول بقيادة الجنرال جورج دوي إلى الفلبين وأغرق السفن الإسبانية.
وكالعادة وعدت أمريكا أهالي الفلبين بالاستقلال وتعاونوا مع أحد زعماء المقاومة الفلبينية هو إميليو إجينالدو. ولكن بعد اندحار الإسبان وقبولهم التخلي عن الفلبين في مقابل مليوني دولار سحبت أمريكا كل وعودها بالاستقلال. وتحول إجينالدو للحرب ضدهم وقبض عليه هذه المرة بواسطة الأمريكيين.
في الحرب العالمية الثانية وبعد ثلاثة أيام فقط من قصف بيرل هاربور بدأت القوات اليابانية في غزو الفلبين، وأدرك الجنرال ماك أرثر أنه لن يقدر على المقاومة فانسحب إلى جزيرتي كورجيدور وباثان وترك مانيلا مدينة مفتوحة. وحاصرتهم القوات اليابانية واستسلم 84 ألف مقاتل أمريكي ساروا في طابور الموت إلى معسكرات الاعتقال.. وإلى أقبية قلعة سنتياجو.. ولا تزال القلعة تحمل ذكرى 11 جنديًا أمريكيا ماتوا في الأقبية جوعًا وعطشًا..
وفي عام 1944 بدأ الهجوم الأمريكي المضاد. عاد ماك أرثر بقوات جديدة وتغيرت دفة الحرب.. وكانت هزيمة اليابان في الفلبين بداية هزيمتها في الحرب كلها. وعادت أمريكا بعد أن منحت الفلبين الاستقلال بعد أن اقتصر وجودها العسكري على أكبر قاعدتين عسكريتين، واحدة للطائرات في كلارك.. الأخرى للبحرية في سبييك. وأصبحت الفلبين حرة إلى حد ما.. حرية تكفيها للدخول في دوامات العالم الثالث من أزمات اقتصادية وديكتاتورية متحكمة وأحلام ضائعة.
النهر المجنون
تبدو مانيلا مدينة خانقة بكل ما فيها من مظاهر الغنى الفاحش والبؤس الشديد. ولكن الخروج منها يعني الانتصار للطبيعة الساحرة التي تتمتع بها هذه البلاد. وإذا كان المرء في وطننا العربي يدرك مباشرة سبب الفقر وهو يرى الصحراء المجدبة وهي تحاصر الجميع فإن الوصول إلى إجابة لهذا السؤال تعد صعبة في الفلبين.. إنك تقف أمام طبيعة سخية. الجبال الخضراء الغنية بالمعادن تحيط بك. والعيون تتفجر تحت قدميك والشلالات تأخذك بدويها الشديد. الغابات الغنية بالثمار تذكرك دائما أنك في منطقة استوائية. المانجو والباباز والأناناس.. عشرات الأنواع ولكنها لا ترتقي لأهمية أشجار جوز الهند. إنها الثمرة السحرية التي يعتمد عليها الجميع. فاللبن الموجود في جوفها شراب منعش. ولحمها يصلح للطبخ وصناعة الحلوى. ويستخرج منها الزيت. ويتحول عصيرها إلى خمر. وتجفف أغلفتها كي تشعل فيها النار طلبا للدفء في الشتاء كما أنها تكسو سقوف أكواخهم الفقيرة.
وفي مثل هذه الجبال التي تخبئ بداخلها دمدمات البراكين يمكن أن نتوقع أي شيء. في منطقة الوادي الخفي وسط مزارع أشجار جوز الهند يرقد واد باهر الجمال، تتدفق إليه عيون المياه من أعلى الجبال.. عين حارة جدًا. .وعين باردة.. وعيون بين درجات الحرارة المختلفة.. تصب كلها في مكان واحد كأن فصول السنة كلها قد تجمعت في هذا المكان.
ولا تقل التجربة مع نهر باجسانجان عن نفس درجة الدهشة. فهو ليس نهرًا عاديًا ولكنه أخدود بالغ العمق يتدفق فيه نهر مجنون تبدو بجانبه أنهارنا العربية فاترة الهمة. تهبط فلا تجد ضفافًا تعطيك الأمان ولا تكف أمطار الجبال الباردة عن الهطول. تحيط بك الصخور الجبلية المغطاة بالسراخس والنباتات الداكنة الخضرة. قلت لمرافقي في حيرة: "منظر هذا النهر لا ينسى.. لقد رأيته قبل الآن ولكن أين؟.." قال مرافقي.. لقد صور هنا الفيلم العالمي "القيامة.. الآن" للمخرج الشهير فرانسيس كوبولا. وكي تعرف النهر جيدًا يجب أن تمضي في رحلته الطويلة الخطرة.. قارب صغير وبحاران ماهران يأخذانك في رحلة طويلة عكس التيار. تنزلق فوق سبعة عشر شلالا صغيرًا. محاطًا بالصخور المدببة. يهتز قاربك كأنك على وشك الغرق. ولكن هناك مهارة خاصة يقود بها البحاران الصغيران القارب.. يذهبان بك إلى عالم آخر. وكأن الماء البارد الذي يغسل جسدك يغسل معه كل الذكريات القديمة ويمنح قلبك صفحة ناصعة لعلك تستطيع البدء من جديد. والنهر له حياته الخاصة. القوارب التي تبيع الهدايا. والتي يطهى عليها الطعام. والتي يتم عليها المساومة في كل شيء حتى في الجنس.. هيه يا رفيق..ما رأيك في ممارسة الحب تحت الشلال؟ المكان معد وكل شيء جاهز من أجل لحظة حب مبللة. هكذا تولد رغبة الحياة وسط الإحس اس العارم بالخطر.
البحث عن روح الأرز
ولا يمكن أن تنتهي الرحلة دون أن تصعد فوق سلالم السماء. إلى جبال باجيو حيث توجد مدرجات الأرز. لقد بنيت هذه المدرجات البالغة الطول بواسطة قبائل المحاربين وقاطعي الرءوس "إيجورو".. وصنعت البصمات الأولى لواحدة من أقدم الحضارات هي حضارة الأرز.
"إياك أن تتناول طعام الأرز في الظلام فربما ابتلعت روح الظلام وأنت لا تدري. ولكن تناوله في النهار ربما حلت في داخلك روح الضياء..".
مثل فلبيني قديم. وما أكثر الأمثال التي تقال عن هذه الحبوب البيضاء الدقيقة. منذ سبعة آلاف سنة عرفت هذه الجزر الأرز. منذ أن أطلق الفلاحون طائرًا صغيرا أخضر اللون ليحلق في السموات البعيدة. كان الطائر سعيدا وممتنا لأنه استعاد حريته فشرع جناحيه وظل يواصل الطيران حتى صعد إلى السماء حيث يوجد مخزن أرز الآلهة. التقط بمنقاره حبة وحيدة وبدلا من أن يبتلعها عاد بها إلى الأرض حيث أعطاها للفلاحين الذين وهبوه حريته..
من هذه اللحظة التي تقع بين الواقع والأسطورة بدأت زراعة الأرز وتواصلت وتداخلت مع دورة الميلاد والحب والموت. صنعت ميراثا حضاريا عظيماً. لم يكن أرز الآلهة أبيض اللون كما نراه الآن. كان أحمر اللون. ولا زال حتى الآن يزرع بصورة نادرة. ويتبادله الفلاحون في خوف وتبجيل ويحتفظون به في أماكن محاطة بالقداسة. وهو لا ينمو في أي مكان ولا يهب نفسه إلا لمن يختاره من البشر.
"إن من يفرط في الأرز أو يبدده تتشوه يداه ولا يعرف سعة ولا رخاء" مثل آخر قالته لنا امرأة عجوز وهي تجمع شتلات الأرز على سفح الجبل. كانت تفعل ذلك بحرص بالغ حتى لا تؤذي روح الأرز ولا تدعنا نخوض خلفها في الماء والوحل. كانت رفات السنين ترقد في نبرات صوتها وهي تتحدث عن روح الأرز.. "في الزمن القديم لم يكن الأرز يزرع ولا يحصد بواسطة البشر. كان هبة سماوية تنمو بغزارة وتجد طريقها إلى كل بيت حيث تقفز إلى القدر الذي يطبخ فيه الأرز وعلى ربة البيت أن تواصل الطهي دون أن تكشف الغطاء وما أن يحل موعد الغداء في الظهيرة حتى يكون القدر قد امتلأ بالأرز الجاهز للأكل..
ولكن الأمور- كما يحدث في كل الحكايات- لا تدوم على نفس المنوال. ففي إحدى المرات كان على الأم أن تغادر المنزل وتترك فيه أولادها الصغار وقبل أن تخرج حذرتهم تحذيرا شديدا من أن يقتربوا من قدر الطهي. ولكن يكفي أن تحذر أي طفل من فعل أي شيء حتى يفعله. لم تقاوم الطفلة الصغيرة فصولها فهرعت إلى القدر وكشفت عنه الغطاء، وفوجئت بفتاة صغيرة بيضاء منكمشة بداخله. كانت بالغة الرقة والرهافة. شاحبة ومفزوعة لأن الغطاء انكشف عنها. ولم تلبث أن طارت في الفضاء حتى تبددت تاركة خلفها حبة أدت شاحبة بيضاء مثلها. وعندما عادت الأم وجدت القدر مكشوفا وفارغا فعاقبت ابنتها. ولكن فات أوان الندم. كان على هذه الأسر، وكل الفلاحين أن يهبطوا الحقول وأن يكدحوا ليلاً ونهارًا من أجل زراعة الأرز وحصده ونقله إلى البيت..".
لم نكن نجتاز خطوط المدرجات فقط. ولكننا كنا نجتاز الخط الفاصل بين الواقع والأسطورة. كل شيء من حولنا يرف ببطء. كانت روح الأرز تراقبنا في توجس وخوف. كانت رفيقة بالإنسان كدأب كل الأرواح فلم تبتعد عنه كثيرًا. أعطته ما يقابل جهده وسط هذه الجبال البركانية الوعرة.. حول هذه الحبة الصغيرة - اللؤلؤة - قامت عشرات المدن والممالك وهجعت القبائل الرحل عن التجوال فتحولت الخيام إلى أكواخ من الطين. وتحول الطين إلى معابد وقصور. وعندما بدأت الدولة تمسك بزمام التاريخ كان كبار موظفيها يأخذون مرتباتهم أرزًا. وتحاصر الجيوش أول ما تحاصر مخازن الأرز. وترش العروس بالأرز. ويعمد الأطفال بحبات الأرز على خصلات شعورهم. وينام الشيوخ على وسائد من قش الأرز. وفي كل بيت مازالت توجد سلة صغيرة توضع فيها أول بوادر السنابل النضرة حتى ترتاح فوقها روح الأرز الهائمة.
ثمن الكبرياء
ولكن الدورة تجد نهايتها وسط مدينة مانيلا حيث يوجد مجمع الفنون ومتحف الفن الحديث والمسرح والسينما. ترتفع من أروقتها أصوات الموسيقى الكلاسيكية. أصوات مختلفة عن أصوات موسيقى الأندية الليلية الصاخبة. على الدرج الرخامي يجلس الشباب. جموع من الصبيان والبنات.ينتظرون افتتاح أولى حفلات الكونسير.. ملابسهم عصرية ووجوههم خالية من الزينة ولكن نضارة الشباب تمنحهم حيوية جديدة.
"لقد شوهوا صورتنا تمامًا. انتزعنا الإسبان من جذورنا وحول الأمريكان مدننا إلى ماخور.." هتف بي شاب منفعل.
"أصبحت الفلبين بلادًا تطرد أهلها. يسدون في وجوهنا باب العمل حتى نهاجر أو نتحول إلى بيوت الدعارة..".. صاحت فتاة أخرى شعرها أشعث.
"عندما يخرج الأمريكيون سوف نتحرر تماما ونبحث عن ذاتنا الحقيقية حتى ولو عشنا على الكفاف.." صاح شاب ثالث.
إنها فلبين أخرى فيها نوع من كبرياء الشباب وطموحاتهم. ولكن ثمن الكبرياء غال. لقد استمر الوجود الأمريكي في الفلبين على مدى 90 عاما حتى أصبح إحدى حقائق الكون.
ولكن يبدو أنه يقترب من أيامه الأخيرة. فمن المفروض أن يجدد عقد إيجار القاعدة البحرية في "سبييك" لمدة عشرة أعوام أخرى ولكن ثلثي أعضاء الكونجرس الفلبيني تقدموا بمشروع يتضمن عدم الموافقة على هذا التجديد ..
الثمن غال كما قلنا. فسوف تخسر الفلبين بذلك 556 مليون دولار قيمة الإيجار بالإضافة إلى تعطل 30 ألفاً من العمال المهرة الذين كانوا يشتغلون في القاعدة. وسوف تخسر مساعدات أمريكية وقروضا دولية تبلغ قيمتها 29 بليون دولار.. كل هذا سوف يذهب مع جلاء القوات الأمريكية بعد عامين.
ولم يقتصر الأمر على الكونجرس ولكن مظاهرات الشوارع هبت تؤيد هذا القرار. سار الشباب يحملون اللافتات مكتوبا عليها "عودوا أيها اليانكي إلى دياركم.. إذا أردتم العودة فكونوا ضيوفًا.." وقال لي صحفي في إحدى الجرائد المحلية، المسألة ليست نقوداً. المهم هو احترام النفس. إننا لا نريد أن نصبح مجرد تابع لأمريكا.. نريد أن نكون صديقين.." ويبدو أن عملية التدخين الطويلة للفلبين لم تؤت ثمارها.
أمريكا غاضبة. وتبحث عن قاعدة أخرى. وتشعر أن كل جمائلها قد قوبلت بالنكران. ولكن الفلبين في حاجة إلى هذا الإحساس الجديد.. الإحساس بالكبرياء هو الذي سوف يجعلها تنهض وتتغلب على كل مشاكلها الداخلية المزمنة وهو الذي سوف يمنح شبابها القدرة على الحلم بالمستقبل.. الكبرياء باهظ الثمن ولكنهم مصممون على دفعه.