جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

ترنيمة رمضانية.. ناسك الزمن
للشاعر محمود حسن إسماعيل

لشهر رمضان في ديوان الشعر العربي - قديمه وحديثه - آثار أدبية حافلة, تشتمل على منظومة من الشعر والنثر, توقفت عند رمضان: المعنى والدلالة, والرمز والإيحاء, وعنيت بمواكبة هذا الحدث الإسلامي المتجدد في استقباله والحفاوة به, والإفاضة في نفحاته الروحية وآثاره الاجتماعية, وتصوير ما يقترن به من بهجة وفرح وزينة, في دائرة واسعة امتلأت بالأذكار والأدعية والابتهالات والرسائل والتهاني, ولم تخْل من صور الدعابة والفكاهة, والأسى لفراقه وتوديعه, والتعبير عن ازدحام النفس بما خلّفه من خير عميم وبركة قائمة.

وعلى كثرة هذه الآثار الأدبية وتنوعها, فإن القليل منها هو الذي يستوقف النظر والتأمل والإعجاب, لخروجه على النّسق السائد والمألوف في الكتابة الرمضانية التي أصبحت - ابتداء من العصر الفاطمي خاصة - لها تقاليدها وطرقها الممهدة والمألوفة, يسير فيها, وعلى هديها كل من يقترب من رمضان استلهامًا أو تصويرًا أو محاكاة, إلا من كان حريصًا - من المبدعين - على تحقيق موقف مختلف, وصيغة متميزة, وتعبير مغاير لما عرفه الناس وألفوه وأصبحوا يتوقعونه باستمرار.

وربما كان مصطفى صادق الرافعي في طليعة هذه القلة القليلة التي حرصت على تمايزها واختلافها, عندما صاغ قصيدته الرمضانية في استقبال هذا الزائر الكريم, الذي لا يطيل اللبث أو الإقامة, لأنه راحل كما يرحل الغمام الذي يخلّف أثره في الوجود, والناس معه على حاليْن, فمنهم الكلِفُ المشوق, ومنهم الشجيّ المستهام, فضلاً عن أنه زائر يجمع (بني الإسلام) على خير السجايا, ويوحّد بينهم على الهمم العظام.

يقول الرافعي:

فديْتك زائرًا في كل عامِ تُحيّا بالسلامة والسلامِ
وتُقبل كالغمام يفيض حينا ويبقى بعده أثر الغمامِ
وكم في الناس من كِلفٍ مشوقٍ إليك, وكم شجيٍّ مُستهامِ
رمزْت له بألحاظ الليالي وقد عيّ الزمان عن الكلام
ولم أرَ قبل حبّك من حبيبٍ كفى العشّاق لوعات الغرامِ
فلو تدري العوالم ما دريْنا لحنّت للصلاة وللصيامِ
بني الإسلام هذا خير ضيفٍ إذا غشيَ الكريم ذَرا الكرامِ
يلمّكمو على خير السّجايا ويجمعكم على الهمم العظامِ


وفي الطريق التي عبّدها مصطفى صادق الرافعي, جاءت قصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل التي سمّاها (الله والزمن) وهي إحدى قصائد ديوانه (صوت من الله). واللافت للانتباه أن القصيدتين تشتركان في وزن شعري واحد وقافية واحدة. بل إن مطلع القصيدتين يشير إلى فكرة الضيف أو الزائر الذي يزور مرة في كلّ عام, وتستوجب زيارته التحية والسلام والاهتمام. لكن سرعان ما تأخذ قصيدة محمود حسن إسماعيل مسيرتها الخاصة والمتميزة عندما تحلّق بصورها الشعرية الأخّاذة, من خلال عين لاقطة لشاعر لا يغفل عن الصورة البصرية ومُعادلها في النفس أو الروح. من هنا يتسع مجال الإبداع الشعري لحديث الذنوب والسرائر والقلوب والمعاصي والتوبة, والغواية والغيوب. ويتنقل بفرشاته التصويرية القادرة على التجسيد والإبهار باللون والحركة, من المآذن التي تزيّنت لرمضان إلى حوريات الخلد, ومباخر النسّاك, وصولا إلى رمضان الذي هو في جوهره وحقيقته ناسك الزمن القويّ, والشاعر نفسه طير غريب تائه يمرّ على زمنه, وهو يعزف للصبائح والأماسي ذارفا أساه, وصداه يتبدد لا يفضي بشيء ولا يفصح عن ملاذ أو اتجاه.

في قصيدة (الله والزمن) حوار للنفس مع النفس, وارتجاف للخلايا التي تعترف وتبوح, وتضرع بالدعاء وتأمل في التوبة. وفيها هذا العناق الوجودي بين الشاعر واللحظة الشعرية التي يقبض عليها, والزمن الذي يتوهج بقدوم رمضان, وقد أصبح زمانا شعريا ونبضا إنسانيا روحيا وشجنا كونيا ووجوديا.

يقول محمود حسن إسماعيل:

أضيفٌ أنت حلَّ على الأنامِ وأقسم أن يحيّا بالصيام?
قطعْتَ الدهر جوّابا وفيّا يعود مزاره في كلّ عام
تُخيّم, لا يحدّ حماكَ ركنٌ فكلّ الأرض مهدٌ للخيامِ
نسخْتَ شعائر الضيفانِ, لمّا قنعْتَ من الضيافةِ بالمُقامِ
ورحت تسنُّ للأجواد شرْعًا من الإحسانِ عُلْويّ النظامِ
بأنّ الجود حرمانٌ وزهدٌ أعزّ من الشرابِ أو الطعامِ!
أشهرٌ أنت أم رُؤيا متابِ تألّق طيفُها مثل الشهابِ?
تمرّغ في ظلالك كلٌّ عاصٍ وكلُّ مُرجّسٍ دنسِ الإهابِ
فأنت مُحيِّر الآثام...تجري فتلحقها بأحلامِ العذاب
تراك شفيع توْبتها, فتَخزي وتوأدُ تحت أجنحةِ الشبابِ
وأنت منارة الغفرانِ, يأوي إليك اليائسون من المتابِ
وعند الله سؤْلك مُستجابٌ ولو حُمّلْت أوزار الترابِ
وقفْتَ خطاكَ عند البائسينا فكنْتَ لليلهم فلقًا مُبينا
تساقُ إليك أمواج التّحايا فتدفعها لبابِ المُعوزينا
فكمْ آهات محرومٍ حداها إليك البؤسُ, فانقلبت رنينا
فأنت مُفزّع البُخّالِ...تجري خطاك على حجارتهم مَعينا
وأنتَ مُلقّن الأيدي نداها ومُكْسبها التراحمَ والحنينا
يخافُك كلُّ قارونٍ شحيحٍ فيخجل أن يردّ السّائلينا
ومنذ تهلُّ ترهبُك الذنوبُ وتختشع السرائرُ والقلوبُ
وتفزعُ أن تُقابلك المعاصي فتهرعُ, أو تُقنّعُ, أو تذوبُ
ويُجفل أن يراك أخو هواها ولو قتلت مشاعره العيوبُ
كأنك فارسُ الأيام, تبدو فيصعقّها مُهنّدك الغضوبُ
كأنّ بكفّك البيضاء سرّا من النجوى, تكتَّمهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلّ غيّانٍ عنيدٍ فيكتتمُ الغَوايةَ أو يتوبُ
جعلْتَ الناس في وقت المغيبِ عبيد ندائكَ العاتي الرّهيبِ
كم ارتقبوا الأذانَ كأنّ جُرحا يعذّبهم تلفّتَ للطبيبِ
وأتلعت الرقاب بهم, فلاحوا كركبانٍ على بلدٍ غريب
عُتاةُ الإنسِ أنت نسخْتَ منهم تذلُّلَ أوجهٍ وضنَى جُنوبِ
فَيا...من لقمةٍ وحفيف ماءٍ يُقلّب روحهُ فوق اللهيبِ:
علامَ البغي والطغيان? إني كفرْتُ بمنطق الدنيا العجيبِ!
تلفّتْ للمآذن حالياتٍ كحوريات خلدٍ سافراتِ
تفوحُ مباخرُ النسّاكِ منها فتحسبُها غصونًا عاطراتِ
تلألأُ حولها أطواق نورٍ سعيْن لعطرهِ مُتجمّلاتِ
كأنك حاملٌ وحْيًا إليها وقفْن لسحْرهِ مُتلهفاتِ
إذا صاح الأذانُ بها أَرنّتْ بإلهامٍ كموج البحْرِ عاتِ
يذكّر بالهداية كلّ ناسٍ ويوقظُ كلَّ غافٍ في الحياةِ
وهذا المُعجزُ العالي الرخيمُ أذانُ الله, والذكرُ الحكيمُ
تلاهُ في سكونِ الليل تالٍ فكاد لهوله تهوي النجومُ
نداءٌ تفزعُ الأفلاكُ منه ويخشع في مساريه السّديمُ
على سمْع الهداةِ يضوعُ عطرًا وتُقذفُ منه للغاوي رجومُ
أصاخ الكون مسحورًا إليه وخرّ لبأسهِ الأزلُ القديمُ
تنزّلَ فوق صدرك من عُلاهُ بشيرُ الوحي, والدّينُ القويمُ
سلامًا ناسك الزمنِ القويِّ من القلب الحزين الشاعريّ
حملْتُ إليك أشواقي وسرّي لتحملها إلى الأفق العليِّ
تمائمي التعبُّد بالأغاني على نغماتِ قيثارٍ شقيِّ
أمرّ به على زمني غريبًا كطيرٍ تاه في ظُلم العشيِّ
وأعزفُ للصبائح والأماسي فينتفض الغناءُ لكلّ حيّ
كأني ما ذرفتُ أسى زماني ولا أفضى صدايَ بأيّ شيِّ!
طلعْتَ مُنوّرا فوق العبادِ فأيقظْ من تشبّثَ بالرقادِ
وقلْ للشرقِ: إن الكون يمشي على سُبلٍ مُغيّبة الرشادِ
فخذْ لزمانك الزادَ المُرجّى من الخلق القويم والاتحاد
ولا يوقفْكَ في التيار هوْلٌ فنار الهول.. نورٌ للجهادِ
لقد ملّت تقلّبنا الليالي على وضَرِ التنعّم والفسادِ
شدا لك بالأذان خميلُ مصرٍ فقمْ وانشر صداهُ على البوادي


نظرة واحدة إلى المعجم الشعري الذي خلع من خلاله الشاعر على رمضان تسمياته العديدة, تجعلنا نتأمل هذا الفيض من التجليات الروحية التي تدفق بها وجدان الشاعر ورفرف بها خياله المحلق. فشهر رمضان - بكل ما يمثله في قرارة النفس وقاع الضمير - رؤيا متاب, ومُحيّر الآثام ومنارة الغفران ومُفزّع البُخّال, وناسكُ الزمن القوي وفارس الأيام.

وكل صكٍّ من هذه الصكوك التعبيرية التي جعلها الشاعر تسميات لرمضان يختزن في داخله

من الخبرة الإنسانية والطاقة الإيجابية ما يُجسّد رؤيا الشاعر وعمق اتصاله بالوجدان الروحي العام. ومن هنا يصبح ختام القصيدة طبيعيًا ومنطقيا حين يلتفت الشاعر إلى واقع حال الأمة التي يُفترض فيها أن تعيش التجربة الرمضانية, التي تطوف بها مرة في كل عام باعتبارها دعوة إلى الصحوة واليقظة, لمن يتشبثون بالرقاد وينقطعون عن حركة الحياة وإيقاع النهضة والتطور. والشاعر في نظرته هذه يتكئ على أمريْن يرى فيهما زادا مُرجّى لإصلاح الحال وتحقيق الصحوة, أولهما الخلق القويم, وهو تعبير جامع شامل, يؤدي تحققه إلى صورة إنسان حقيقي, صادق الجوهر, لا زيف فيه ولا رياءٍ ولا مُداهنة, وثانيهما الاتحاد: الاتحاد الذي نحن أحوج ما نكون إليه, وقد انفرط العقد, وتناثرت الحبّات, وأصبح حال الناس كحال أهل الجاهلية الذين وصفهم شوقي وهو يخاطب الرسول الكريم:

أَتيْتَ والناس فوضى, لا تمرُّ بهم إلا على صنمٍ قد هام في صنمِ
والأرضُ مملوءة جوْرًا, مُسخّرةٌ لكلّ طاغية في الخلق مُحتكمِ
والخلق يفتكُ أقواهم بأضعفهم كالليث بالبهمِ أو كالحوت بالبلم(1)


ويُعيد محمود حسن إسماعيل إلى المشهد الرمضاني جوهره وحقيقته وهو يؤكد أن نار الهول هي نور للجهاد, بعد أن ملّت الليالي تقلّب أحوالنا بين تنعم وفساد, كلاهما خطر على الأمة, وحرب على حقيقتها, وإساءة لوجهها وتاريخها وكيانها وحضارتها.

فليكن رمضان هذا العام مُحقّقا لبعض أمنيات الشاعر, مُجسّدًا لبعض تطلعاته وأحلامه, في أمة قوية عزيزة, تتمسك بعرى اتحادها, وتنفر من تفرقها وتباعدها, وانكسار شوكتها بين الأمم.

 

فاروق شوشة