المفكرة الثقافية

المفكرة الثقافية

الكويت

في إسبانيا أيام كويتية (شعرية وتراثية)

ليس بمقدور العرب نسيان تاريخهم في الأندلس, الذي تأسس على مساحة شاسعة من الإبداع والتميز الحضاري, والفكري, والعلمي. وليس بمقدور الإنسانية عامة إنكار فضل غرناطة وإشبيلية, وقرطبة, في إنارة طريق العلم والأدب والفكر بمصابيح حملها رجال قدموا من بلاد العرب ليس كفاتحين, بقدر ما قدموا كمبشرين بنهضة إنسانية مازال إشعاعها باقيا على الرغم من انطفاء ملامحه العربية التي كانت متوهجة في أحقاب زمنية ضاربة في القدم.

وتشهد مملكة إسبانيا هذا الشهر أيامًا كويتية شعرية وأخرى تراثية. الأيام الشعرية ستنظمها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في الفترة من 4 إلى 8 أكتوبر الجاري, من خلال دورتها التاسعة التي ستقيمها في جامعة قرطبة الإسبانية, واختارت المؤسسة الشاعر الأندلسي الكبير أحمد بن زيدون ليكون عنوان دورتها.

أما الأيام التراثية التي ستقام في 13 أكتوبر الجاري فإنها عبارة عن جولة سيقوم بها معرض (دار الآثار الإسلامية) العالمي المتنقل في إسبانيا وستصاحبه احتفالية عنوانها (ملامح كويتية).

واختارت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ابن زيدون محورًا لدورتها التاسعة لكونه من أفضل الشعراء الأندلسيين الذين عكسوا في أشعارهم صوت قرطبة, وحياة الأندلس التي كانت مزدحمة بالحركة والإبداع, وكان مولده في قرطبة عام 294 هجرية (1003 ميلادية) واسمه أبو الوليد أحمد بن عبدالله بن زيدون المخزومي, وهو ينتمي إلى قبيلة مخزوم العربية التي كانت من طلائع القبائل التي رحلت إلى الأندلس بعدما فتحها العرب.

وابن زيدون - الذي ارتبط بقصة حب مع ابنة آخر الخلفاء العرب في قرطبة ولاّدة بنت المستكفي - عمل وزيرًا لأمير قرطبة. كما تقلد الوزارة بعد هجرته إلى إشبيلية, وأقام ببلاط المعتضد بن عباد حتى وفاته عام 1068 ميلادية, ولابن زيدون ديوان شعر محقق ومطبوع, بالإضافة إلى رسالتين, الأولى كان يسخر فيها من الوزير أبي عامر بن عبدوس الذي وشى به وتسبب في حبسه ثم فراره واختفائه والرسالة تعرف باسم (الرسالة الهزلية), والثانية كتبها أثناء وجوده في السجن ناشد فيها ابن جهور واستعطفه في العفو عنه وفك سجنه, وتضمنت الرسالتان إشارات تاريخية عديدة ومهمة خلال هذه الحقبة الزمنية. وله إلى جانب ذلك رسائل أخرى قصيرة.

وقد حرصت مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري على إصدار العديد من الكتب بهذه المناسبة وهي (معارضات شعر ابن زيدون مع ببليوغرافيا)إعداد د.عدنان غزال, و(مختارات من الشعر الإسباني القديم والحديث) ترجمها إلى العربية د.محمود صبح و(مقالات عن الأندلس في العقد الأخير من القرن العشرين) أعدها وحررها بالإسبانية د.خوسيه دلريو, وتحقيق (الرسالة الجدية والرسالة الهزلية) للدكتور محمود علي مكي, وإعادة طباعة (ديوان ابن دراج القسطي) الذي طبع عام 1961 إعداد د.محمود علي مكي, و(عصر ابن زيدون) للدكتور جمعة شيخة, وكتب أخرى.

كما ستتضمن دورة ابن زيدون مسابقة في الإبداع الشعري ونقده, في مجالات: الإبداع في مجال نقد الشعر, وأفضل ديوان شعر, وأفضل قصيدة.

ومعرض (دار الآثار الإسلامية) العالمي المتنقل, باسم (ذخيرة الدنيا...فنون المصوغات الهندية في العصر المغولي الإسلامي), ستستضيفه إحدى قاعات القصر الملكي الإسباني (قصر الملك الرسمي).

ويأتي هذا المعرض تتويجًا للجولة التي قامت بها المشرف العام على دار الآثار الإسلامية الشيخة حصة سالم صباح السالم الصباح في العديد من الدول الأوربية, لعرض هذه التحف الفنية الراقية التي تؤرخ لحقبة زمنية إسلامية تميّزت بالثراء الثقافي والفني, والتنوع الحضاري والتراثي, وفي لقاء الشيخة حصة سالم الصباح في مدريد مع ملك إسبانيا خوان كارلوس وزوجته الملكة صوفيا بوجود سفير دولة الكويت لدى إسبانيا د. سالم جابر الأحمد الصباح. أبدى كارلوس سعادته لانتقال هذا المعرض التراثي المهم إلى بلده, لما فيه من روح الماضي وعبق التراث الإسباني.

والمعرض يحتوي على إبداعات الهند المغولية الإسلامية, من أحجار كريمة نادرة تعود أصولها إلى اكتشافات إسبانيا الجغرافية, ووصولها إلى أمريكا اللاتينية, وموطن حضارة (الأنكا), من كولومبيا, كما تتحدث هذه الآثار عن التبادلات التجارية التي بدأت في الفترة نفسها مع الهند المغولية الإسلامية, ثم التبادل التجاري بين إسبانيا والهند, وبالتالي وصول الأحجار الكريمة الكولومبية من إسبانيا إلى الهند, والذي تزامن مع وصول الألماس الهندي من منجم (جولجندا) على أيدي التجار الإسبان والفرنسيين إلى إسبانيا, وكان لانتعاش التجارة بين الطرفين, الأثر البالغ في تنوع فنون المجوهرات في شكلها المتفرّد, على يد الصائغ الهندي في القرنين السابع عشر, والثامن عشر الميلاديين.

والمعرض - الذي سيستمر ثلاثة شهور في مدريد قبل انتقاله إلى برلين - ستصحبه احتفالية خاصة عنوانها (ملامح كويتية) ستتضمن ندوة من ثمانية محاور حول الحوارية التراثية الكويتية النادرة بين البر والبحر, تلك التي شكّلت الوجدان الكويتي في مجالات الأدب والفن. وعرض تاريخ الكويت, ومسرحية كويتية, ومعارض تراثية, وفنونا وحرفا شعبية كويتية, وأفلاماً تسجيلية ووثائقية, والعديد من الفعاليات التي تظهر الوجه الحضاري والتراثي للكويت, ومن ثم تعريف الجمهور الإسباني بالكويت كبلد صاحب إشعاع حضاري متميز رغم صغر مساحته, ودوره البارز في شتى الجوانب الثقافية والعلمية والأدبية والفنية.

مدحت علام

القاهرة

بَرْدية عربية تستقبل زوار معرض فرانكفورت

مهما يكن الاعتقاد حول دور معرض فرانكفورت في منح الثقافة العربية فرصة استثنائية في هذه اللحظة المضطربة من التاريخ, فإن الجميع متفق على أن هذه المناسبة تحظى باهتمام إعلامي واسع باعتبار العالم العربي ضيف الشرف هذا العام. وهو اهتمام يفوق ـ كما يقول فولكر نويمان رئيس المعرض ـ التغطية الإعلامية التي تعرفها الألعاب الأولمبية ونهائيات كاس العالم في كرة القدم بطاقم عالمي يتكون من حوالي 12 ألف صحفي. ولتصبح مدينة فرانكفورت ما بين السادس والعاشر من هذا الشهر ساحة عربية كبيرة تجمع الناشرين, والشعراء, والروائيين, والمسرحيين, والسينمائيين, والنقاد, والمفكرين.

وأعلن المهندس إبراهيم المعلم رئيس الاتحاد العام للناشرين العرب, أنه نسق مع فولكر نويمان, مدير معرض فرانكفورت للكتاب, أثناء لقائهما في القاهرة لخروج صورتنا كضيوف شرف لدورة هذا العام في معرض فرانكفورت في أفضل صورة يمكن أن تسهم في تقديم حقيقة العرب والمسلمين للغرب, وأضاف أن 150 ناشرا يمثلون معظم البلدان العربية قد اتفقوا على الكيفية التي سيعرضون بها إنتاجهم في مساحة التسعة آلاف متر المخصصة للعالم العربي على أرض فرانكفورت, وقد طبعوا بالفعل عشرة آلاف نسخة من الكتالوج الخاص الذي يعرض فلسفتهم وأفكارهم باللغتين : الألمانية والإنجليزية, وحرصوا على أن تتصدر غلافه صورة لمخطوطة عربية نادرة تعكس مدى ثراء فنون الخط والتصوير العربي, بحيث تكون في حد ذاتها رسالة تخاطب عين زائر المعرض.

وأضاف أن لجنة تشكلت من الناشرين العرب أثناء إقامة معرض القاهرة لاختيار وتصنيف عشرة آلاف كتاب تكون معبرة عن حركة النشر في عالمنا العربي كله للعرض في الجناح الموحد للناشرين العرب حيث ستعرض مجموعة من الكتب التي يمكن أن تسهم في إعطاء الآخر صورة ذهنية مقنعة عن حقيقة العرب والمسلمين منها 20 كتابا من أهم المؤلفات العربية في مجال الأدب والفكر والفن, و100 كتاب تعرف بأبرز الشخصيات العربية التي أسهمت في تقديم إضافة للفكر الإنساني, و50 كتابا من أدب الطفل العربي, فضلا عن كتاب تذكاري تحرره أقلام صفوة من الكتاب العرب لبيان كيف أسهمت ثقافتنا في إثراء الثقافة الإنسانية, وتمنى المعلم أن يتمكن هذا الحشد الضخم من المفكرين والمبدعين والفنانين والإعلاميين العرب المدعوين للمشاركة في هذا الحدث ـ نحو ستمائة شخصية ـ من تحقيق التفاهم المشترك, ودعم أواصر التعاون بين العرب والغرب, ولا سيما في ظل هذه الظروف الصعبة التي نمر بها. بحيث لا تضيع هذه الفرصة من خلال عدم تمكنها من استيعاب الآخر أوتقديمنا إليه, وبحيث تنجح في الوصول إلى اتفاقات تبادل حقوق ترجمة ونشر كتبنا في العالم. وتمنى أن يحضر كل ناشر عربي مشارك في هذا الحدث الكبير مع قائمة بإصداراته مترجمة إلى إحدى اللغات العالمية :الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية يقدم فيها أيضا نبذة عن كل مؤلف نشر له.

وفي معهد جوته بالقاهرة حضر عدد كبير من الناشرين العرب (بروفة) على نشاطهم في فرانكفورت, كما نظم الألمان ـ في القاهرة أيضا ـ لقاء ألمانيًا - عربيًا آخر تمهيدا لمعرض فرانكفورت تمت فيه دراسة قضايا حقوق الملكية. ومن آراء المشاركين فيه تحدث الناشر المغربي عبد الكبير العلوي الإسماعيلي عن فكرة معرض فرانكفورت التي (أتت للعرب كذلك الجندي الذي فوجئ بأنه يطلق عليه الرصاص بينما هو غير مسلح ولا يعرف كيف سيرد على هذه الهجمة الألمانية). وفي تقديره (أن الألمان اختاروا العرب ضيوف شرف على معرض فرانكفورت هذا العام لمواجهتهم بحقيقتهم كي يستيقظوا ويفيقوا من سباتهم, ويفتحوا أعينهم على عالم جديد, ومن يعرف الألمان عن قرب يلمس مدى العلاقة الحميمة التي تربطهم بالشرق, ويدرك أن موقفهم من الشرق ليس موقفا سلبيا. فالألماني عقله في الغرب وقلبه في الشرق, وليس هناك بيت ألماني محترم لا تضم مكتبته شعرا فارسيا أو عربيا قديما, ولقد قرأت عمر الخيام مترجما مع إحدى الأسر الألمانية. ولا تصدق من يقول أن الألمان يجهلوننا, فهم يعرفون عن الشرق الكثير, ويولعون بروح الشرق. وهم لم يتغيروا, فألمان القرن التاسع عشر هم أنفسهم ألمان القرن الواحد والعشرين)..

أتذكر المشاهد الأولى من رواية (الطبل الصفيح) للروائي الألماني الأشهر جونتر جراس, يهرب أحد أبطاله من حتف مؤكد يدبره له مطارداه العسكر. المكان حقل للبطاطس, والزمان شهر أكتوبر, وهناك تجلس السيدة التي تشوي حبات البطاطس فتأكلها لتقاوم بها ذلك البرد الخريفي. تلمح الهارب فتجعل من ثيابها, التي أفاض جراس في وصفها, مثل خيمة كبيرة, يلجأ إليها البطل. مشهد لم أنسه أبدا حين قرأته, أو حين عرض على الشاشة بعد تحويل (الطبل الصفيح) إلى فيلم بالاسم نفسه.

لماذا أتذكر ذلك المشهد اليوم? الإجابة ـ ببساطة ـ لأنني أرى في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب والذي اصطفانا كعرب ضيوف شرف عليه, أرى فيه منصة الانطلاق لحياة جديدة. نحن الهاربين من مطاردة أوهام التسميات المجحفة لنا, نحن المطاردين من أصابع اتهام تناست دورنا في صياغة الحضارات الإنسانية جمعاء, نحن المتهمين بأننا ضد الشرائع رغم أن أرضنا مهد للأديان وحرم المقدسات كلها.

في الرواية نفسها يقول جراس: لا يمكن أن يكون ممرضي عدوا لي! وأنا أوافقه هذا الرأي, فحين لبت بالإيجاب إدارة معرض فرانكفورت رسالة المثقف اللبناني الكبير غسان سلامة لاستضافة العرب, لم يكن في ذهنهم أبدًا أن يضعوا فخا لنا, أو أن ينصبوا شركا لأفكارنا. بل كانوا يريدون أن نحرك القوة الكامنة في ذواتنا العربية. وهي قوة تستنهض بطموحنا كل الهمم. وهي القوة التي نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى, فأنا أرى في فرانكفورت نقطة التحول التي يجب أن يحسب التاريخ الثقافي العربي بعدها.

مصطفى عبد الله

بيروت

14 عامًا على رحيل عمر أبوريشة

تتنازع مدينتان عربيتان هما حلب وبيروت, شاعرًا عربيًا كبيرًا هو عمر أبوريشة.

ففي ذكرى مرور أربع عشرة سنة على وفاته عام 1990, أقيم في حلب, كما أقيم في بيروت, حفل أعاد إلى الذاكرة شاعرًا طالما ألهب المشاعر الوطنية والقومية منذ صباه الباكر وإلى ما قبل رحيله بسنوات. فحلب تعتبره واحدًا من أبنائها, لا لأنه ولد فيها, فقد ولد على الأرجح في مدينة عكا الفلسطينية لا في مدينة منبج (كما يقول البعض), بل لأنه درس ونشأ وأمضى فيها 27 سنة من حياته شهدت مجده الأدبي, كما شهدت قصيدته الشهيرة التي قادته لاحقًا إلى السفارات السورية في الخارج حيث مثل سورية سفيرًا في ساوباولو وريو دي جانيرور ونيودلهي وفيينا:

أمتي هل لكِ بين الأمم منبر للسيف أو للقلمِ
أمتي كم صنمٍ مجّدته لم يكن يحمل طهر الصنمِ
لا يُلامُ الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدوّ الغنمِ
فاحبسي الشكوى, فلولاكِ لما كان في الحكم عبيدُ الدرهمِ


ولكن للبنانيين وجهة نظر أخرى في موطنه, فهم يقولون إن أصل أسرة أبو ريشة من القرعون في البقاع الغربي, وإن عمر درس في الجامعة الأمريكية في بيروت, وفي بيروت صدرت كل دواوينه, وفيها أيضًا منزله العائلي, وإليها كان يعود من السفارة متعبًا. وقد تزوج عمر من سيدتين لبنانيتين.

ولكن حسابات عمر بالذات حول هذه النقطة, لم تكن تخضع لمنطق هذا النزاع. فإلى العروبة وحدها كان ينتسب ولعل ما سلف من سيرته, يؤكد انتماءه لبلاد الشام, ومنها أنه ولد في مدينة عكا الساحلية القديمة في عروبتها, وفيها تشرّب الصوفية من أجداده اليشرطيين أصحاب الطريقة اليشرطية. ومن الجدير بالذكر أن أول عمل مسرحي شعري كتبه وجرى تمثيله في مدينة حمص كان عنوانه (رايات ذي قار). وهذا يعني أن عمر كانت له بوصلته السوية من البداية. فقد بدأ بتراث العرب والإسلام وأمضى حياته الشعرية ينوّع على وطنية صلبة راسخة في نفسه. وإذا كان من العسير وضعه في هذه المدرسة الشعرية, أو سواها, لأن في شعره الكثير من الرومانسية والكلاسيكية والرمزية, فليس من العسير اعتباره واحدًا من كبار شعراء الوطنية في زمانه. وقد تميز بجرأته في القول وبتجديدات كثيرة في الشكل والمضمون. والنقاد يشيدون على الخصوص بقصيدته في (ديك الجن) التي كتبها في مرحلة مبكرة واستخدم فيها بنجاح تقنية الحوار الذاتي المسرحي. وقد جعلت هذه القصيدة منه في تلك المرحلة شاعرا طليعيا حديثا.

ويحفل شعره بصور رائعة منها قوله:

لا تُطفئ المصباح إن الكرى لم يتكئ بُعد على مقلتي


وقوله:

رب طيفٍ عاتبٍ نعرفُهُ جال في أحداقِنا مستفهمًا
وإذا القبلةُ نادتنا حبا بين شقيّ شفتينا وارتمى


ومع أن له شعرًا غزليًا رقيقًا حمل الكثير من الخصائص الرومانسية كتبه على مدار حياته الشعرية, إلا أن شعره الوطني هو الذي ذاع وانتشر أكثر من سواه:

كم نبت أسيافُنا في ملعبٍ وكبت أفراسُنا في ملعبِ
من نضالٍ عاثرٍ مصطخبٍ لنضالٍ عاثر مصطخبٍ
شرف الوثبة ان ترضى العلى غلب الواثب أم لم يغلبِ


وقد استأثرت نكبة فلسطين باهتمامه فذكرها في قصائد عدة, إلا أن أكثر ما أثار غضبه هو وعود الغرب ونفاقه:

كم وعود معسولة سكبوها في فؤادِ العروبةِ المسماحِ
فحشدنا لهم جيوش ولاءٍ ومددنا أكفّنا للصفاحِ
وسفكنا الدم الزكي وزيّنا جبين الرحى بغار النجاحِ
وأردنا الأسلاب منهم فكنا نحن أسلابهم ونحن الأضاحي


ولعل أشهر ما يحفظه له الجمهور من شعر قصيدته التي كتبها عقب مؤتمر القمة الذي انعقد في المغرب, ومنها ما قاله:

أن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العار أن يُمحى فكان لهم على الرباط لدعم العار مؤتمرُ


ولكن بعض النقاد أخذوا عليه, انطلاقًا من مثل هذا الشعر, أنه انتهى تدريجيًا إلى الوقوع كليًا في أسار القصيدة التقليدية بنبرتها الخطابية وطريقتها التقريرية المباشرة.

وكثيرًا ما ردّد أنه صاحب قصيدة لا صاحب بيت, وأن مقياسه الذي يستعين به في الحكم على القصيدة هو قدرتها على نقل قارئها إلى الجو الذي نظمها الشاعر فيه. فقد ذكر مرة (إنني أرى القصيدة جميلة حين ينقلني تركيب ألفاظها وتناسق صورها إلى جو الشاعر بحيث أعيش فيه وأتأثر به. وأعتقد أننا عندما نعرف مواطن الجمال في القصيدة التي أعجبتنا, نفقد استمتاعنا بها, لأن الجمال شيء يجب أن يظل المرء باحثًا عنه, جاريًا وراءه, وهو آخر الأمر شيء نسبي يعود إلى مقدار ما في القصيدة من إحساس, وعند القارئ من تحسّس).

وكانت له آراء طريفة في عدد من شعراء زمانه. فقد ذكر مرة أن الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري شاعر مدح من الطراز الرفيع, وإن بدوي الجبل وقع في المدح الذي وقع فيه الجواهري, في حين أنه هو لم يمدح أبدًا, وأن الواقع يقول إنه (لم يَنْجُ دائمًا من شراك هذا الباب, إذ ولجه مرات عدة, منها هذه الأبيات في مدح الملك عبدالله بن الحسين ملك شرق الأردن:

سيّد العرب ما جفاني خيالٌ أنت أطلعتني على ابكارِهْ
خانني الحظ مرتين فلم أحمل إلى سيّدي ظلال فخارِهُ
أن عقدا نظمتُهُ في سجاياك ترفّ العلياءُ في تذكارِهْ
لكَ منه ما تنتقي, ولجيدِ النجمِ ما تستحقّ من أحجارِهْ!


وكان عمر وعد الملك عبدالله بأنه سيكتب ملحمة عن الثورة العربية الكبرى التي قادها والده الشريف حسين عام 1916.

وكان في كل مرة يسأله الملك عنها, يجيب بأنه سيحضرها معه في المرة المقبلة, ولم يحضرها ولم يكتبها أصلاً وقد قال أبياته السابقة في الملك على سبيل التعويض.

ولكن عمر أبوريشة باقٍ في الضمير الوطني, وفي الذاكرة الأدبية كواحد من ألمع الشعراء العرب في القرن العشرين.

جهاد فاضل

عمان

الحياة تعود إلى جرش

عادت الحياة من جديد إلى مدينة جرش, تلك المدينة الأثرية التي اعتادت كل عام أن تشهد صيفاً حافلاً بالفعاليات الثقافية والفنية. يحمل مهرجان جرش في دورته الثالثة والعشرين شعار (ويستمر الفرح) لتتألق في فضاءات المهرجان أكثر من خمسين فعالية عربية وعالمية مزجت بين الشعر والطرب والعروض الفلكلورية والمسرحية.

وتجسد الجانب الثقافي للمهرجان من خلال ندوة (صورة الآخر في القصيدة العربية المعاصرة) التي لم تقتصر على بحث علاقة الشرق بالغرب, بل إنها تجاوزت هذه الثنائية المألوفة إلى كل ما ينفصل عن الذات لكي يقع أمامها وفي مواجهتها, فمفهوم الآخر يصل إلى (السيد والعبد), (المرأة والرجل), (الشرق والغرب). في إطار هذه الندوة تحدث الناقد الأردني فخري صالح عن صورة (الآخر) في النموذج الشعري لمحمود درويش عبر قصيدتيه (حالة حصار), و (لا تعتذر عما فعلت) إذ أظهر في القصيدة الأولى الآخر بوصفه عدواً يفرض حصاراً على الذات, أما القصيدة الثانية فمثّل فيها حالة الاستقطاب لتحولات الذات بوصفها (آخر), حيث تحدث درويش مع ظله في تلك القصيدة.

على صعيد آخر, سجل مهرجان جرش في دورته الحالية تميزاً عالمياً جديداً, إذ احتفت جرش ولأول مرة على الصعيد الدولي بآلة القانون, ويأتي ملتقى (القانون) لهذا العام, بعد أن كانت جرش هي السبّاقة في إقامة الملتقى الأول لآلة العود في العام الماضي. وبسبب نجاح ذلك الملتقى تم إقامة اليوم العالمي لآلة العود الذي تقرر أن يكون في الثالث من أغسطس سنوياً. ملتقى (آلة القانون) ضم العديد من المشاركات الإبداعية التي قدّم خلالها كل عازف مقطوعة منفردة على تلك الآلة الشرقية. لقد بذل الفنان الأردني (سعد حتّر) جهوداً مميزة في تنظيم (ملتقى القانون) الذي بحث خلاله المشاركون أهمية آلة القانون ودورها في الموسيقى العربية والتعريف بأهم مدارسها وأشهر العازفين العرب على هذه الآلة وبعض مقتنياتهم الخاصة.

التواصل الحضاري والتعارف بين الثقافات العالمية هو إحدى الرسائل المهمة التي تسعى (جرش) لتأصيلها منذ انطلاق المهرجان في عام 1980. وتحقيقاً لذلك, قدمت جرش هذا العام عدداً من الفرق الموسيقية, فمن المغرب تم عرض أوبرا (كفاليريا روشيكافا) لأوركسترا الدرك الملكي المغربي, هذه الأوبرا تعد رائعة من روائع الأعمال العالمية التي تحكي إحدى روايات القرن السادس عشر. ومن روائع البالية قدمت موسكو عرضها الأكثر شهرةً (بحيرة البجع), وضمن لوحات تعبيرية متنوعة بين الرقص والعزف قدمت فرقة (مونتفيديو) من الأورجواي عرضاً مميزاً لموسيقى التانغو. وفي أجواء السحر الأوربي قدمت فرقة (أوركسترا جستيك الوترية) من التشيك عرضاً مميزاً على الآلات الوترية, وضمن طقوس تحمل معتقدات آسيا جاءت فرقة (أوساكا دادادا) اليابانية لتحيل المسرح الشمالي إلى غابة من الطبول. أما سحر التراث الشرقي, فقد عبرت عنه عدد من الفرق العربية المشاركة, فمن فلسطين جاءت فرقة (سلمى) لتمتع الجمهور بأمسية خاصة حملت عنوان (على بالي). ومن سورية فرقة (جلنار) وشيوخ سلاطين الطرب من حلب, لننتقل إلى أجواء شرقية شعبية عبر إحدى فرق الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر وهي الفرقة الشرقية التي عبّرت من خلال الرقصات والنغم عن ملامح تراث مصر, وإحياءً للتراث العراقي قدمت فرقة (فريدة) التي تعد امتداداً لفرقة التراث الموسيقي التي كان قد أسسها الفنان الراحل منير بشير أمسية غنائية للمقام العراقي.

مهرجان جرش الثقافي لم يكتمل إلا بالأمسية الشعرية التي كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش قد استهلها بمجموعة قصائد من ديوانه الأخير (لا تعتذر عما فعلت..) كما قرأ الشاعر المغربي حسن نجمي قصيدة طرح فيها أسئلة للتأمل..

قلت لك لماذا يا يوسف?

لماذا لابد من بئر وقاع عميقة وإخوة غادرين?

لماذا كل هذا الدمع. وهذا الأب المفجوع?

في الجانب المسرحي قدمت جرش عرض (ابن الحياة) للكاتب ميشيل الأشقر, فكرة المسرحية تدور حول حياة جبران خليل جبران أسير فكرة الحرية والحب والجمال, المسرحية شكلت جزءاً من تجربة الكتابة الناضجة عند جبران, وتم تقديم العرض باللغة الإنجليزية ليكون أقرب إلى الواقع الذي عاشه جبران مغترباً في الولايات المتحدة الأمريكية.

وكما في كل عام, لم يغبْ الطفل عن جرش, فمن مسرحيتي (هيلا هوب) و(حكايات شحرور) إلى مسرحية (فرح اللقاء) للفنانة اللبنانية جيزيل هاشم, التي أبدعت في تقديم مسرحية غنائية للأطفال قادرة على مخاطبة خيالهم عبر استخدام الألوان اللافتة للنظر, والشخصيات المحببة لديهم (المهرج, والأقزام السبعة).

هذا وتنوعت الفعاليات الفنية التي شهدها مهرجان جرش, حيث شارك عدد من المطربين في إحياء ليال غنائية على المسرح الجنوبي, كان من أبرزهم كاظم الساهر والموسيقار ملحم بركات, بالإضافة إلى الفنانتين الشابتين نانسي عجرم وأليسا, حيث أثار حضورهما عدداً من التساؤلات عن الهوية الثقافية لمهرجان جرش وعن قيمة المسرح الجنوبي الذي غنى على مسرحه عمالقة الغناء العربي من فيروز وحتى نجاة الصغيرة وفنانة الغناء الملتزم ماجدة الرومي.

عروض الساحة الرئيسية تبقى محط أنظار زوار مهرجان جرش, فمن فرقة (السلط) للفنون الشعبية التي قدمت لوحات فلكلورية جميلة, إلى فرقة(القرية اليونانية) صاحبة (النسر الذهبي) تلك التجربة الغنائية التي تتحدث عن الإنسانية وضرورة أن يبحث عنها كل فرد في ذاته.

توفيق أبو بكر

باريس

هنري كارتييه.. رحيل مصور لحظة القرار

إذا سألت عن الرجل الذي غير تاريخ التصوير الصحفي, فقد رحل في 2 أغسطس الماضي عن 95 عامًا. تكثر الألقاب الكثيرة التي منحت للمصور الفرنسي هنري كارتييه بريسون حيث يستعار أحدها من أشهر كتبه المصورة, لحظة القرار, تلك اللحظة التي تتوقف فيها الأنفاس, نفس الشخص موضوع الصورة, والمصور, والمشاهد معًا لصناعة لقطة استثنائية.

ومنذ اختراع آلة التصوير قبل 150 عامًا لم يؤثر أحد في معاصريه من المصورين مثلما فعل هنري كارتييه بريسون. سأله صديقه السير توم هوبكنسون: في أي بلد ـ وقد طفت أنحاء العالم يا هنري ـ تختار أن تقضي ما تبقى من العمر? فيجيبه المصور: لم أكن أبدا في مكان إلا وتمنيت أن أستقر باقي أيام حياتي. تلك كانت أمنية مستحيلة فالمصور البارع كان يجري وراء الأحداث المصورة, ليصنع تاريخ البشر المنسيين والمشهورين معًا. وبقدر حرصه على توثيق الوجوه التي صادفها إلا أنه من أكثر الأشخاص خجلا إذا طلب منهم صورة لأنفسهم, ويبدو أن ذلك كان آخر وصاياه فلم يعلن عن جنازته إلا بعد انقضائها, وكأنه أراد ألا يوثق أحد لحظة قرار سواه.

وإذا كان هنري كارتييه بريسون من رواد التصوير الصحفي, فذلك أنه اتجه بعد الحرب العالمية الثانية, مشتركا مع زميليه روبرت كابا وديفيد سيمور, إلى إنشاء وكالة التصوير ماجنوم, بعد ما ساءه سوء استخدام المحررين في الصحافة للصور, وأراد بذلك أن يشارك المصورون في صناعة قرار يخصهم حول الصور التي يلتقطونها.

في أحدث المعارض التي استضافتها باريس لأعماله, استرجع الجمهور مشاهده الأثيرة, وتلك المنسية, أو التي يفصح عنها للمرة الأولى. فالفنان هنري كارتييه بريسون كان في حضرة مدينة النور لحظة التحرير في 1944, وكان في بكين يوم أن تولى الشيوعيون الحكم, وشهد في الهند مقتل المهاتما غاندي. وبرغم هذه الأحداث الجسام كلها تظل صور البورتريه التي سجل بها أعلام عصره مثل اللوحات في كمالها, ولذلك استضافه معرضا اللوفر, والفن الحديث بنيويورك, وسواهما.

ولد هنري كارتييه بريسون لأسرة ميسورة الحال, وكانت آلات التصوير في يده من أدوات تدريبه ليكون رساما, لكنه ترك ذلك كله ليصبح قناصا في ساحل العاج, وحين رأى صورة لثلاثة أطفال يعدون, أطلق المشهد شرارة الفن, فاشترى كاميرا لايكا, وبدأ رحلة لم يقطعها في أخريات حياته سوى عودته للريشة والألوان بين الحين والآخر





عبد العزيز سعود البابطين





الشيخة حصة الصباح





هل تصنع خمسة أيام الفارق?





الشاعر عمر أبو ريشه





ملصق المهرجان





هنري كارتييه - بريسون





سارتر بعدسة كارتييه





التفت السائر فواجهته عدسة مصور اللحظة





قبيل الإعدام?!